|
مداخلة لمؤتمر -الحداثة والحداثة العربية- - هاملت والحداثة العربية
صادق جلال العظم
الحوار المتمدن-العدد: 843 - 2004 / 5 / 24 - 04:08
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
وجدت ورقة الدكتور عزيز هادئة، رصينة، عاقلة وعقلانية إلى درجة أكثر بكثير مما تعودت منه نقدياً وتهكمياً عند معالجته مسائل الحداثة العربية المتعثرة أو المعاقة أو غير المكتملة على حد تعبيره، هذا على الرغم من أن في واقعنا العربي ما يجنن حقاً، كما أوضح ذلك ممدوح عدوان منذ فترة في كتابه الصغير والجميل "احتفالا بالجنون".
لربما أراد عزيز هنا أن يكون منسجما، في تناوله للموضوع، مع مضمون تأكيده ضرورة توجه الجهد الفكري العربي حالياً إلى إنتاج معرفة عينية علمية دقيقة عاقلة وعقلانية بالواقع العربي وتكون منضبطة بشروط الموضوعية المعروفة ومستخدمة للمناهج المتعارف عليها عالمياً في الدراسات التاريخية والاجتماعية ومتوخية التقصي التاريخي الاجتماعي والتحري المدقق والمحترز بعيداً عن الخطابات الأيديولوجية التي سادت الحقل المعرفي هذا لفترات طويلة – خطابات تجميل الماضي شحذاً للهمم في الحاضر والخطابات الاستنهاضية تعبئة للجهود في سبيل المستقبل، على حد تعبيراته. وأنا أشد على يده في هذا كله كصديق قديم وكزميل مجلي في ميادين العلم والفكر والبحث وكشريك متمعّن في الهموم العربية الكبيرة والصغيرة كلها.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر تحضرني في هذه المناسبة المقولة التي سمعتها أكثر من مرة من فم ياسين الحافظ بأن التاريخ العربي خضع لنوعين مهمين ومؤثرين وفاعلين من التزوير: التزوير الاستعماري من ناحية والتزوير العروبي من ناحية ثانية. وأعتقد أن أفضل تفصيل اطلعت عليه مؤخراً للتزوير العروبي هذا ولآلياته ومبادئه وأغراضه قدمه لنا الدكتور عزيز في ثنايا بحثه مبيّنا كيف أن ضحيته الرئيسية كانت عملية إنتاج معرفة حقيقية تراكمية ليس بالتاريخ والتراث وحدهما، بل وبالحاضر العربي أيضاً في مراحله الحداثية جميعاً.
على سبيل المثال، لم تطرح مسألة التراث – وفقاً للدكتور عزيز- على أنها قضية بحثية علمية ذات محتوى معرفي مستقل ومنضبط بالأساليب والمناهج العلمية المتعارف عليها عالمياً في الدراسات التاريخية والاجتماعية، بل جرى طرحها كمسألة أيديولوجية بالدرجة الأولى في خدمة السياسات القومية والوطنية والتقدمية والحزبية للحظة حاضرة ما. وبغياب القاعدة المعرفية المتينة التي يمكن للمثقف أو المفكر أو الباحث أو المتابع الاستناد إليها في كل الأحوال ومع تبدل طبيعة اللحظة السياسية - الأيديولوجية الحاضرة لا غرابة في أن ينزع المثقفون الحداثيون عندها إلى النكوص والتعلق العصابي بما يسمى تراثاً عربياً – إسلامياً لتبدأ مسيرة استقالتهم من نصاب الحداثة وخطها ومجراها، مما يسمح لعزيز، في ورقته القيّمة هذه، بالكلام عن "خيانه المثقفين" - على طريقة جوليان بيندا في كتابه الشهير La Trahaision des Clercs.
في الوقت ذاته أكد الزميل بحق ومن باب الأنصاف الأهمية المستمرة لعناصر تلك الذخيرة الحداثية التي ينطوي عليها الحاضر العربي في حياتنا الثقافية والفكرية والمعرفية والعقلية والاجتماعية والسياسية والإدارية والأدبية والفنية في مواجهة السيادة الأهلية المضادة لأنماط سلوك وقيم مثل المسكنة والمكابرة والطاووسية والشطارة والفهلوة والجبرية والتسليم بالقسمة والنصيب مضافة، على صعيد التعامل مع النظام الاجتماعي، إلى قيم الطاعة والتحايل والمجاملة والعنجهية والتقليد والحفاظ على الواجهة الخارجية مهما كان واقع الحال.
أضيف هنا أنه بغياب أي نموذج للممارسة العلمية العربية المنتجة للمعرفة في ميادين العلوم الطبيعية والدقيقة عموماً وذلك على امتداد فسحة الحداثة العربية بأكملها ودون استثناء، لا غرابة في أن تحل الأيديولوجيا، بمعناها الأسوأ، محل إنتاج المعرفة الجادة والمستقلة – كما يريدها عزيز – في ميادين العلوم التاريخية والاجتماعية والإنسانية. وينحط هذا التوجه إلى دركه الأسفل في التبرير الشائع الذي يقول وما حاجتنا إلى العلوم الدقيقة وغير الدقيقة طالما أن الله سخّر لنا السويس ليصنعوا الساعات الدقيقة لنضبط مواقيت الصلات، وسخّر لنا اليابانيين ليصنعوا الكومبيوترات لنحفظ في ذاكرتها القرآن والحديث، وسخر لنا الأمريكان ليصنعوا طائرات البوينغ لتحملنا إلى الحج بكل راحة وفي رواية أخرى لنهدم بها أبراجهم العالية على رؤوسهم مهما كانت النتائج والعواقب على مبدأ اليأس العدمي المعروف :علينا وعلى أعدائنا يا رب.
على كل حال، يلخص الدكتور عزيز في مكان آخر الوضع الحداثي العربي المركب والمختلط والملتبس والمتداخل في الوصف التالي :
"إن نظرة تاريخية كهذه تفيد بأن النظام المعرفي والنظام الثقافي المنسوب إلينا بالغ التعقيد والتركيب والحراك، يتداخل فيه الديني بالعلماني والتراثي بالحداثي والخرافي بالعلمي، يتصادم فيه هذا مع ذاك ويتصارعان ويتوافقان في سياق تحولات اجتماعية وثقافية عنيفة أحيانا، يجب عدم التقليل من أهميتها بداعي عدم الاكتمال أو عدم الكمال أو أداء صورة سوداوية كلية بل وشاملة عنها". (الحياة 26/3/2004 ص 10).
هنا، أريد أن أقدم مثالا من عندي عن هذه الارتباكات والتخبطات والالتباسات والإعاقات: لما كنت رئيسا لقسم الفلسفة في كلية الآداب في جامعة دمشق دخلت على غير موعد مكتب العميد فلم أجده وراء طاولته ولكني لمحت زميلين في زاوية بعيدة من الغرفة منهمكين بنقاش حامي الوطيس. وبدا الخلاف والاختلاف بينهما وقتها على أشده مع ما يرافق ذلك عادة من تعابير الوجه المعروفة وحركات اليدين الصاخبة وعروق الرقبة البارزة بما يوحي بخطورة القضية المتنازع عليها وأهميتها القصوى. ظننت للوهلة الأولى أن موضوع النقاش لا بد أن يمت بصلة إلى فلسطين أو المفاوضات مع إسرائيل أو الانتفاضة أو العمليات الانتحارية وجدواها وسياساتها، لكني اكتشفت، بعد الاقتراب من الزميلين للتحية، أن موضوع الخلاف والاختلاف هو علي ومعاوية. لم أتمالك نفسي وقلت للزميلين: "لكن هذه مسألة حدثت قبل 15 قرنا وليس قبل 15 يوما، أهكذا يناقش التاريخ القديم يا زملاء؟".
سألت نفسي بعدها: هل يمكن أن تجري هكذا مناقشة اليوم في جامعة في الصين أو الهند أو اليابان أو أمريكا اللاتينية مثلا، يكون موضوعها حادثة تاريخية، مهما كانت خطيرة، وقعت قبل 1400 سنة، أم هو هذا الماضي الذي لا يمضي في حياتنا لسبب ما؟ هل نحن أمام فرادة ما تخصنا وحدنا في العالم المعاصر حيث التصقت بنا قطعة من التاريخ البعيد وبقيت على حالها وما زالت تمارس فاعلية عجائبية في واقعنا القائم؟
في شهر كانون الثاني (يناير) الماضي شاركت في ندوة عامة في دمشق مع الدكتور محمد شحرور في مناقشة لكتاب علي عبدالرازق الشهير: "الإسلام وأصول الحكم". لاحظت فورا أنه على الرغم من مضي 80 سنة على صدوره تناولناه في الندوة وكأنه موضوع الساعة اليوم، وكأن أطروحاته هي أسئلة الحاضر الملتهبة وقضايا الواقع الراهن الحارقة، أي وكأن آخر مئة سنة تقريبا من حياتنا العربية لم تعرف أي تطور نوعي خلاق، أو تحول جديد حقا، أو نقلة كيفية حاسمة ما، أو تراكم في الكم والكيف يرفعها إلى مستوى أرقى، في هذا الميدان على أقل تقدير، بحيث لا يعود أي كتاب مثل "الإسلام وأصول الحكم" ينطوي إلا على أهمية تاريخية ماضية فقط وبحيث لا نعود إلى البحث فيه إلا بهذه الصفة ومن هذه الزاوية. بعبارة ثانية، ناقشنا الكتاب مرة أخرى على طريقة حكاية علي ومعاوية، أي وكأنه صدر ليس قبل 80 سنة، بل قبل 8 أيام أو 8 أسابيع على أبعد تقدير. مرة ثانية، إنه هذا الماضي الذي لا يمضي في حياتنا.
أرجع لأقول بأني مع عزيز كليا في تشخيصه وتوصيفه مع رغبتي في العودة مجددا إلى إبراز ذلك الانفصام الهائل والعميق في التاريخ العربي الحديث، أو في تاريخ الحداثة العربية، الذي يقبع خلف إعاقتها وتعثرها وخلف الظواهر السلبية الأخرى التي تم رصدها فيها والذي أعتقد أنه وصل إلى مستويات متقدمة من العطالة المأساوية منذ فترة غير وجيزة، هذا على الرغم من موافقتي الزميل على أهمية عدم تغليب السوداوية المطلقة على الصورة وبخاصة سوداوية "جاهلية القرن العشرين" وأخواتها وبناتها ومشتقاتها، على سبيل المثال. أقصد هنا ذلك الانفصام في التاريخ العربي الحديث الناجم عن رحلتنا الشاقة والمعذبة والمترددة والمتخبطة والمحرجة دوما للتكيف مع الحداثة الأوروبية الفاتحة والتأقلم مع مضامينها الإنتاجية والحياتية والثقافية واستيعاب تطبيقاتها العملية على الأصعدة كافة.
على الرغم من أننا وجدنا أنفسنا عبر هذا الفصام أمام خيارات وجودية بدئية وقرارات تاريخية حاسمة رفضنا، كعرب أحياء اليوم والبارحة، الحسم وفضلنا تأجيل فعل الاختيار الأول لصالح التردد والنواس والتأرجح والتذبذب والترنح بين القديم والجديد، بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والتجديد، بين الهوية والحداثة، بين الدين والدنيا، بين الغيب والعلم، بين الإيمان والعقل، بين الشرع والعلمانية، وما زلت لا أرى بصيص نور يؤشر إلى اقترابنا من نهاية هذا النفق المعتم، خاصة مع بداية القرن الجديد.
بإمكاني القول أن الإحساس العام بالفشل في أي تدبّر خلاق لهذه التناقضات والتعارضات والاختيارات، ولا أقول تجاوزها إلى تركيب فعال أرقى وأعلى، قد حول العرب إلى هاملت القرن العشرين وما بعده على ما يبدو. وعلى طريقة الأمير الدانمركي الأشهر هذا، يبدو لنا "الزمن العربي مضطرباً" وأن "شيئاً فاسدا وعفنا ما قد استقر في دولة العرب والعروبة" مما أخذ يدعو البعض منا إلى التساؤل المأساوي، مع صاحب المسرحية الأشهر في العالم، "عمّا إذا كنا نحن المسؤولين عن الويلات التي تحل بنا أم أن هناك إله يرسم لنا مصائرنا".
عبر محنتهم مع الحداثة الأوروبية، لاشك أن العرب جمعوا في ذواتهم – على طريقة هاملت الشهيرة – بين الانفعال البدئي الكبير والشاعرية الغنائية الأخاذة والإطالة الإطالة في التأمل والتفكير وضرب الأخماس بالأسداس لا لشيء إلا ليتنقلوا، مثله، من مأساة إلى مأساة وبلا أمل يلوح بفرج قريب أو بعيد.
من هنا الشعور الطاغي بأن المستقبل لا يمكن أن يكون إلا من نصيب فورتينبراسات هذا العالم طالما بقي هاملتنا هذا عالقا في متاهة تلك اللعبة أو المسرحية الأوروبية القديمة والمتجاوزة منذ زمن بعيد والمسماة بـ "La querelle des Anciens et des Modernes »، (خناقة القدماء والمحدثين).
لذا أرى الآن أن اللحظة التي عرضت فيها مسرحية ممدوح عدوان "هاملت يستيقظ متأخراً" في دمشق منذ سنوات عدة كانت بالفعل لحظة سّباقة ومُعبرة. ويحضرني هنا كذلك الكتاب الرائع في تشخيصيته الدقيقة لواقع الحال الحداثي: "دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك في القرن العشرين" لحسين أحمد أمين والذي يحيل في عنوانه، على ما يبدو لي، إلى السفر اللاهوتي الفلسفي الشهير "دلالة الحائرين" لموسى بن ميمون. نجد العربي المسلم المعاصر في هذا الكتاب حزيناً، حائرا، كئيبا، مرتبكا، ضائعا لأن كل ما يعتقده ببراءة أولى عن أمته ونفسه وأمجاده وتاريخه وكل ما يؤمن به إيماناً عفوياً بسيطا راسخاً عن دينه وحضارته وثقافته وعظمته تكذبه وقائع الحياة اليومية في بيته وفي مدينته وفي بلده وفي دولته وفي عالمه العربي الكبير بالإضافة إلى عالمه الإسلامي الأكبر. إنه الوعي الشقي بهامشيته الحاضرة وتفاهته الراهنة وعطالته المستمرة هو وإسلامه وعروبته وشعره وأدبه وفتوحاته وأمجاده وخيالاته، في عالم معاصر لا يرحم.
هل من عجب إذن، إن وجدنا هاملت القرن العشرين هذا مسكوناً بحالات من العصاب الجماعي التي لا دواء جاهز لها، وبوساوس تلك الجراح النرجسية العميقة التي لا مسكّن سريع لها ولحدتها، وبعُقد النقص الكبيرة التي لا براء حقيقي من إحباطاتها، وبالهواجس التعويضية الشاسعة الواسعة – بكل طاووسياتها ومكابراتها وعنجهياتها – التي لا رادع لاندفاعها وجموحها، والهلوسات المؤامراتية المنفلتة من عقالها والتي ما من حقائق أو وقائع أو حجج تبدو قادرة على ضبطها أو لجمها، وبأوهام الأفعال السياسية العظمى التي ما من حساب أو ميزان قادر على الحد من تهورها، وبأشكال العنف اليائس والبائس التي ما من برامج أو نتائج أو خسائر قادرة على عقلنتها وترشيدها.
يتصور هاملت هذا في أعماق أعماقه أنه من أمة الفاتحين الأخيار وصانعي التاريخ ورواد الحضارة وأصحاب القيادة التاريخية والسيادة العالمية ولكن، وفي غفلة من التاريخ، كما نقول، اغتصبت أوروبا منه ومن أمته ومن إسلامه هذا الدور الأكبر فحكمت عليه بالهامشية والعزلة واللافاعلية، إلا أن إيمانه الذي لا يتزعزع يقول له بأنه لا بد للحق من أن يرجع إلى أصحابه في يوم من الأيام و مهما طال الانتظار (بما في ذلك يوم القيامة) بعد الإطاحة بالمغتصب المعتدي وعودة الشرعية التاريخية إلى أصحابها الحقيقيين لأنه في النهاية لا يمكن أن يصح إلا الصحيح – وأذكّر هنا بأن الاغتصاب في قلب مشكلة هاملت الأصلي ومحنته وتجربته وابتلائه.
نظر هاملتنا في عنوان كتاب Oswald Spengler –"انحطاط الغرب" فتراءى له فوراً بأنه إذا كان الغرب في طريقه إلى الانحطاط فلا بد أن يكون العرب والإسلام في طريقهما إلى الصعود والسيادة والازدهار. اطلع على مؤلّف أنور عبد الملك "ريح الشرق" فبدا له تلقائياً بأنه إذا كانت رياح التاريخ أخذت تتخلى عن أشرعة الغرب فلا بد لها من أن تكون قد قصدت أشرعة العرب والإسلام. وإذا كانت الحداثة الأوروبية قد أوصلت الغرب وباقي العالم معه إلى جاهلية القرن العشرين وما بعده فلا بد أن يكون العرب على حافة استعادة لحظتهم الكاريزمية المؤسِّسة والحاسمة لتضعهم مجددا على دروب المجد ـ مجد إنقاذ أنفسهم والغرب والعالم معهم من الحال الجاهلي الذي أخذوا يرفلون فيه جميعا. بعبارة أخرى لم يعقد هاملتنا هذا بعد مصالحته المبدئية مع واقعة أولية تقول أنه لم يعد للتاريخ العربي الحديث من معنى بدون أوروبا بعد القطيعة الحاسمة التي صنعتها حداثتها الفاتحة مع تاريخنا السابق تماماً كما أنه لم يعد من معنى لتاريخ بلاد فارس بعد معركة القادسية بدون العرب والإسلام وبعد القطيعة الحاسمة التي صنعها الفتح العربي مع تاريخ إيران الغابر.
سؤالي الآن هو هل من خيارات وجودية وقرارات هامليتية ملحّـة مطروحة اليوم على أصحاب الشأن في الدراما العراقية المتصاعدة في ظل الاحتلال؟ للإجابة أطلب منكم مشاركتي في التجربة الذهنية التالية:
لنفترض أن أهل العراق اجتمعوا عبر ممثلين حقيقيين لهم وتحت الإشراف الأمريكي المباشر: شيعة وسنة وأكراداً ومسيحيين وصابئة ومجوس، إلى آخر اللائحة. اجتمعوا لإنقاذ وحدة التراب العراقي ومنع مجتمعه من الانزلاق إلى حرب أهلية مدمرة والاتفاق على الخطوط العامة والعريضة بالنسبة لنوع الحكم الذي يمكن أن تستقر عليه الجمهورية الثانية هناك، أقصد حكم تقبل به الغالبية العظمى من العراقيين قبولاً معقولاً ونسبياً وليس بالمطلق.
لنسأل الآن، ما هي طبيعة التنازلات التي على كل كتلة من الكتل الكبيرة المؤلّفة للشعب العراقي أن تقدمها للكتل الأخرى وللقوة المسيطرة هناك وللغرب عموماً ولباقي العالم الذي يتابع ذلك كله بقلق كبير حتى تتحقق أهداف الاجتماع المذكورة بنسب متفاوتة ولكن مقبولة من الجميع ولو بحدود 70 في المائة لا أكثر؟ سأحاول تقديم اقتراح إجابة للتداول والنقاش.
أولاً، لا بد للكتلة الإسلامية من أن تتنازل تنازلا تاما ونهائيا عن كل ما يتعلق بما كان يسمى بأحكام أهل الذمة ـ تنازلاً مبدئياً de jure وليس تنازل الأمر الواقع de facto، بحيث يصبح وضع هذه الأحكام اليوم مثل أحكام العبيد والعبودية والرق ولاسترقاق والسبي التي تملأ كتب الفقه والشرع وما إليه. إذ كما أن زمن العبودية وأحكامها الشرعية قد انتهى بلا رجعة فإن زمن أحكام أهل الذمة، التي تملأ الكتب الفقهية ذاتها، قد ولى بلا رجعة هو أيضا.
ثانياً، لا بد للكتلة الإسلامية من أن تتنازل تنازلاً مشابهاً عن كل ما يتعلق بمسألة الحدود وبقانون العقوبات الشرعي التقليدي عموما: عقوبات مثل الجلد وقطع الأيدي والأرجل والألسن والرجم بالحجارة حتى الموت، أي الكف عن اختزال الحضارة الإسلامية بكل ثرائها إلى الشريعة ومن ثم اختزال الشريعة بكل تعقيداتها إلى قانون العقوبات وبعد ذلك اختزال قانون العقوبات إلى الجلد والرجم والتشويه الجسدي. يكتسب هذا التنازل أهمية إضافية وخاصة الآن بعد فظائع قطع الآذان وجدع الأنوف واستئصال الألسن وفقئ العيون وتشويه الأجساد التي ارتكبها النظام البائد هناك في حق المواطنين لأتفه الأسباب أو أبسط الهفوات والمخالفات.
ثالثاً، لا بد للكتلة الإسلامية من أن تتبرأ نهائياً أمام العالم كله من هذا الإسلام المهووس بالكفار والمشركين والمنافقين والملحدين والروافضة والفئات الضالة والمرتدين والزنادقة، بما في ذلك التبرؤ من المواقف التكفيرية العدائية من الطوائف الإسلامية الأصغر مثل الإسماعيلية والعلوية والبهائية والدرزية إلى آخر اللائحة. يعني هذا التنازل الكف تماما عن العودة إلى تقسيم العالم مجددا إلى دار الإيمان ودار الكفر، دار السلام ودار الحرب. كما يعني القطع مع هذا الإسلام الذي يقدم نفسه على أنه الوصي على الجنس البشري برمته والذي يحمل تكليفاً إلهياً بتحرير الإنسانية جمعاء من الكفر والشرك والضلال بإقامة سلطة إسلامية تحكم المعمورة بأسرها.
رابعاً، لا بد للكتلة الشيعية من أن تتنازل عن كل ما يتعلق بالحكم الإمامي وبولاية الفقيه ونيابة الإمام وما يترتب عليها من نتائج وإجراءات إذا كان للدولة العراقية الجديدة أن تكون دولة لكل مواطنيها حقاً حتى بحدود 60 في المائة لا أكثر.
خامساً، لا بد للكتلة الشيعية من أن تتنازل عن اعتبار الديموقراطية مجرد هيمنة الأكثرية وحكمها فقط لا غير دون إعارة أي اهتمام أو انتباه إلى أن الديموقراطية هي حكم الأكثرية مع حفظ حقوق الأقلية على المستويات كافة بما في ذلك أولاً، حقها في التحول إلى أكثرية انتخابية حاكمة هي أيضا وثانيا، حقها بضمانات دستورية وتوازنات مؤسساتية وكوابح قانونية تعمل على التخفيف من نزوع الأكثرية هي أيضا إلى الاستبداد بنفسها وبغيرها وبشعبها وبأقليات بلدها كذلك، إذ من قال أن الأكثرية لا تستبد؟!
سادساً، لا بد للكتلة الإسلامية أن تتنازل عن النظر إلى المرأة على أنها عورة وقاصرة وواقعة بالتالي تحت قوامة الرجل من المهد إلى اللحد لأن العور هنا هو في عين الناظر وليس في المنظور إليه بالتأكيد، وإلا لن يكون أي معنى جدي في العراق الجديد لمبدأ المواطنة ولمبدأ المساواة بين المواطنين ولما صارت الدولة العراقية دولة لكل مواطنيها قولاً وفعلا وإن كان بنسبة 60 بالمائة لا أكثر.
أخيراً وليس آخراً أقول: سمعنا بأن السلطات في روسيا قدمت اعتذارا علنيا إلى المجريين والبولنديين والتشيكيين عن الإساءات السابقة ، كما سمعنا باعتذار اليابان من الكوريين لأسباب مشابهة وباعتذار الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من الأكثرية السوداء هناك عن نظام الأبارتايد البائد وشناعاته. سمعنا كذلك عن المسعى العربي المحلي، والذي يتبوأ الزميل الدكتور جورج جبور مركزاً مرموقا فيه، لمناشدة البابا في روما تقديم اعتذار إلى العرب والإسلام عن الحروب الصليبية.
واقتداء بهذه السوابق والمساعي أريد أن أناشد الكتلة السنية في العراق، ممثلة بعلمائها ومشايخها ومؤسساتها، التوجه بالاعتذار العلني والتاريخي الصادق إلى الشيعة هناك وفي كل مكان آخر عن مذبحة كربلاء، أي عن أم الجرائم في الإسلام. وكما صفح البابا في روما عن الأجيال اللاحقة من اليهود وغفر لهم بالنسبة لدم المسيح، أناشد الهيئات الشيعية المعنية في العراق وغير العراق أن تصفح عن الأجيال اللاحقة من السنة وتغفر لهم بالنسبة لدم الحسين، لعل في السير على طريق الاعتذار والصفح والغفران شيئاً من الصابون المطلوب لغسل القلوب ولإنقاذ وحدة العراق ولمنع المجتمع العراقي من استبدال أعظم شعار رفعه العرب في القرن العشرين: "الدين لله والوطن للجميع" بما يبدو أنه شعار المرحلة العربية المنحطة في الحاضر: "الوطن على الله والطائفية للجميع"!
#صادق_جلال_العظم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|