إياس عبد المسيح
الحوار المتمدن-العدد: 843 - 2004 / 5 / 24 - 04:01
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لا أدري بماذا أبدأ .... أظنه ارتباك مبرر, خصوصا لشخص مثلي يعيش هذه النكبة، أجل النكبة، هذه الكلمة هي ما أطلقها أحد الأصدقاء على عملية اعتقالكم وهو يخبرني بها.
لا تدرون أيها الأصدقاء أي سوداوية استبدت بي عندما سمعت بما حل بكم.
سوداوية تتخللها بعض الابتسامات المترافقة مع زفير طويل يختزن الحرقة ، خاصة عندما كنت أستنفر ذاكرتي لتنجدني في تداعياتي بكل ما خبأته لي من ذكريات عن سهراتنا ومناقشاتنا ، مشاكساتنا ،أحلامنا ... أو عندما تمر في مخيلتي صوركم الغالية ( آه أيتها الذاكرة اللعينة كم تزيدين من ألمي ؟ ما أكثر ما خبأته لي !!!! ) .
سوداوية تعادل بشدتها ، الفرح الذي انتابني عندما جاءني نبأ مفاده :( إن الشباب قد أفرج عنهم ) , إلا إني سرعان ما عدت الى حالتي الأولى عندما عرفت انه " إفراج منقوص " ، فأيقنت أن السلطة قد عقدت العزم على الانتقام , ويكفيها لأجل ذلك – كما يصور لها غباءها – واحد من جامعة حلب وآخر من جامعة دمشق , ليكونا عبرة لمن يعتبر ومن لا يعتبر
" أي عبث نعيش فيه عندما يحكمنا الأغبياء "
هل أسر لكم بسر يا أصدقائي ، أن عملية اعتقالكم لم تزدني إلا قناعة برأي كونته منذ زمن ليس بقصير ، مفاده أن هذا الضجيج الثورجي الذي افتعلته السلطة حول عدم التفريط أو التنازل عن شبر واحد من أرض الوطن , ما هو إلا تهريج سلطوي مقرف بقصد الضحك على ذقون الشعب وأحكام الخناق عليه . ولهذا نراها الآن تتراجع عن وعودها وعهودها حول انجاز توازن استراتيجي مع إسرائيل يرغم هذه الأخيرة على الانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967 . وإقبالها على المفاوضات بشروط البيت الأبيض القاسية غير آبهة بهذه " الجماهير " التي طالما طنطنت باسمها واستنفرت حزبها وحزبييها ( السلطة )لمراقبتها ، لا للتأكد من أنها تمارس دورها في إدارة شؤون الأمة , بل لتغرس في وعيها أن هناك قائدا / أبا ، يبتسم ولكنه لا يرحم ، ينتظر منها دائما الطاعة والخنوع ، وبذلك كان هؤلاء الحزبيون دائما عونا لبوليس ذالك الأب القائد ومخابراته
نعم أيها الأصدقاء لقد أثبتت هذه السلطة باعتقالكم، بل بجميع ممارساتها السابقة، أنها تخافكم، تخاف هذه " الجماهير " ، أكثر مما تخاف أعدائها الخارجيين . ولذلك فهي مستعدة لأن تساوم على الوطن في سبيل بقائها في الحكم وهي من أجل هذا قد لا تكتفي للخضوع لهذا العدو، بل تسعى لاقتسام الوطن معه فقد ينولها من الجمل أذنه. وإلا كيف نفهم عملية " ضبط النفس " التي مارسها النظام تجاه العدوان الإسرائيلي المتكرر وخصوصا في عين الصاحب ، وبالمقابل نرى تنمره وبطشه المستمر بكل التعبيرات التي يفرزها المجتمع في محاولاته الخروج من حالته السديمية ، وخصوصا ما لاقاه طلاب جامعة حلب في السنتين الأخيرتين . وأيضا كيف نفهم تصريح وزير خارجية النظام بأننا " نقبل المطالب الأمريكية إذا كانت معقولة !!! " . ( الهي ألهذا الحد مطالبنا غير معقولة حتى نلقى ما نلاقيه ؟!!) .وهل من فراغ أيضا أتى تصريح أحد المسؤولين في جامعة حلب – أغلب الظن أنه رئيس جامعة حلب – لبعض الطلاب انه " مستعد أن يضع يده في يد إسرائيل وأن لا يضعها بيد محمد عرب !!! " . ( أحد الطلاب المحتجزين في أقبية الظلام حتى الآن ).
يقيني يا أصدقائي، إني لم أذع سرا.ولكني أطرح عليكم هذا الرأي لأول مرة ولا أدري إن كنتم معي فيه. نعم .... إني لم أذع سرا، الكثير إما انه قد عرف أو انه قد بدأ يعي هذا الكلام ويتحسسه. وإلا فما مبرر هذا العنف الذي تمارسه السلطة اتجاه المجتمع ؟!
انه فقدان المشروعية أيها الأصدقاء ... نعم المشروعية التي هي المشكلة الأساسية في السياسة كما ذهب ماكس فيبر . فهذه السلطة ما كان لها في البداية أن تبرر وجودها من حيث هي سلطة مستبدة وحسب، فكان لابد لها من إيديولوجيا تلبسها أثواب التقدم والتحرر والضرورة التاريخية والتحديث ... الى آخر هذه المصفوفة السلطوية . وبحجة هذه المصفوفة نفسها أخذت السلطة تعيد تشكيل المجتمع الذي تمت استباحته بما يتلاءم مع استمرارها وتسيدها ، مستندة في هذا على الأجهزة الأمنية وعلى مجموعة من المنظمات والهيئات ( الحزب والنقابات والاتحادات ... الخ ) وعلى بعض الآليات السلطوية ، كتنصيب الدولة نفسها البيروقراطي الكبير الذي بيده توزيع النقمة والنعمة . ولا داعي للتأكيد انه في ظل غياب دولة القانون ومؤسسات المجتمع المدني يصبح الفساد إحدى العاهات اللازمة بالضرورة لهذه البيروقراطية ، بل وأكثر من ذلك ، قامت السلطة بتكريس حالة الفساد هذه وتعميمها لتصبح نمطا لإنتاج أشكال استمرارها ، فقامت بمنح الامتيازات لبعض الفئات ( حزبيون ، مخابرات ... الخ ) على حساب باقي الفئات . وعندما أخذت هذه السلطة تتعرى وتهتز مشروعيتها، لم تعد تملك من وسيلة لفرض بقائها سوى العنف العاري و تعميم الإرهاب، و إتباع سياسة تجهيل منظم من خلال إعلامها الكاذب و الساذج، وسياساتها التعليمية الفقيرة. كل هذا حتى لا يستيقظ الشعب من غفوته. ألم يقل الشاعر أحمد مطر ذات مرة:
اثنان
يرتعدان خيفةً
من يقظة النائم
اللص والحاكم
فـ " جهالة الأمة والجنود المنظمة " على حد تعبير الكواكبي ، هو ما تستعين به السلطة لضمان حياتها .
لقد غدا الإنسان عندنا ، كما في رواية كاسيمو ، إنسان بلا ظل ، وكف عن أن يكون نفسه . فلقد تلبس الشخصية التي نسجتها له السلطة ، لباس الخوف والخنوع واليأس واللا مبالاة والقلق .... الخ. وقد أجاد أدونيس في وصف إنساننا بقوله :
وجدوا أشخاص في أكياس
شخص لا رأس له
شخص دون يدين
ودون لسان
شخص ... مخنوق
والباقون بلا هيئات ولا أسماء ...
هل عرفتم الآن يا أصدقائي لماذا خافوكم ؟ لأنهم شاهدوا شبانا بعمر الورود، وظلالهم معهم تعانق الأرض. وهذا ما استدعى إعلان النفير العام ، فهذا مؤشر خطر على أن الظلال التي تم حبسها في محاضر الاجتماعات الحزبية وفي المظاهرات المليونية وفي أقبية التعذيب وفي أحلام الناس بتأمين ما يسد الرمق ، ممكن لها أن تتحرر وتعود الى أصحابها .
إنهم جبناء يا أصدقائي ، ولذلك هم يبطشون إنهم يخافون كل شيء . يخافون الخارج. يخافون الشعب . ويخافون من بعضهم !!! أجل أيها الأصدقاء إنهم يخافون من بعضهم، فهذه السلطة التي استندت في فرض مشروعيتها على آليات البطش والقمع، ما لبثت أن تعرت وتجردت من أسلحتها أمام هذه الآليات نفسها.
وإلا كيف نفهم تعدد الأسماء التي خرجت لنا " من غائب علمه " ، وأخذت على عاتقها إدارة البلاد ونهبها بعد أن كان في العهد السابق لا يوجد غير اسم واحد أحد اضطلع ، إذا ما استعنا بميشيل فوكو ، بدور " الذات النبوية " ، من حيث أنه
"وسيط بين الحاضر و المستقبل ، فهو يكشف ما خبأه الزمان عن الزمان..." ،
و يفضح و يعري و يحبط ما خفي عن الشعب من مؤامرات تحاك لنا في الظلام.
أيها الأصدقاء ، عندما بدأ ربيع دمشق ، كانت الجامعات غائبة و الآن ها هو ربيع الجامعات السورية يبزغ. فهل سيضطلع الطيف الديمقراطي المعارض، في سورية، و المثقفون الديمقراطيون، بدورهم التاريخي بالدفاع عن استمرار هذا الربيع ودعمه ؟!!! . أم أنهم سيديرون ظهورهم كما حصل في بعض المرات، ليكون مصيركم كمصير " الثور الأبيض " ، فيأتي زمن نتحسر عليه قائلين :
" أكلنا يوم أكل الثور الأبيض " ؟
أيها الأصدقاء ، يقول زوربا ، " أن تفك حزامك و تبحث عن قتال ، هذا هو الشباب " ؛ فكيف إذا كان هذا القتال ، من أجل الحرية ؟!!
إياس عبد المسيح .
دمشق
#إياس_عبد_المسيح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟