|
المثالية المحدثة بينيديتو كروتشه
ماجد محمد حسن
الحوار المتمدن-العدد: 843 - 2004 / 5 / 24 - 04:05
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
حـيـاتـه: ولد بينيديتو كروتشه في بسكا سيرولي عام 1866. وكان منذ طفولته يحب المطالعة فيقرأ كل ما يقع تحت يديه، وكان مولعاً بقراءة الرواياتبشكل خاص، فما إن بلغ التاسعة من عمره حتى كان قد قرأ أمهات الآثار الأدبية الإيطالية. وكان يحب الفنون والآثار القديمة، وكانت أمه تغذي فيه هذه الميول، فتصحبه إلى كنائس نابولي، وتقف معه أمام روائع اللوحات الفنية، وكانت عاطفته الدينية قوية مشبوبة، حتى لقد كان يتقشف ويفرض على نفسه أنواعا من الحرمان … وكان يؤنب نفسه على إنه لا يحب الله محبة خالصة من الرهبة، فقد كان شبح جهنم يرعبه كثيراً … وقضى طفولته المبكرة في نابولي، وقد كان أبواه من ملاك الأراضي، توفيا في هزة أرضية عام 1883 فتركاه طفلاً يتيماً ثرياً. وقد شغل كروتشه منصب وزير التربية مرتين وكانت ثانيتهما ضمن حكومة التحرير، وذلك فهو خلافاً لصديقه الكاتب المثالي اللامع جيوفاني جانتيلي، الذي خدم الفاشيستية ثم قتل على الوطنيين، وقد ظل كروتشه وفياً لآرائه في الحرية والديمقراطية. وتعد سنة 1903 هامة في حياته، إذ ظهر له خلالها أول عدد من مجلة النقد، وهي المجلة التي كانت تحبر معظم مقالاتها بقلمه. إذ إن تلك المجلة كانت ذات تأثير كبير على الحياة الفكرية الإيطالية حيث إن اهتمامها لم يكن منصباً على الفلسفة وحدها بل كان يتعداها إلى التاريخ وتاريخ الفن والأدب ومسائل السياسة. ويمكن القول إن كروتشه، كان مؤرخاً للفن وناقداً أدبياً أكثر منه فيلسوف. إلا إن ذلك لن يمنعه من إصدار كتاب شامل أسماه فلسفة الروح، وتضمن هذا الكتاب دراسات في علم الجمال وعلم الأخلاق إلى جانب فلسفة تطبيقية وفلسفة للتاريخ. وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى، أشتعل كروتشه غضباً ورأى فيها نزاعاً اقتصاديا يوقف تطور العقل الأوربي ونموه. وأن الواجب يقضي بمنعها. وإنها جنون وانتحار على الرغم من إن الضرورة دفعت بإيطاليا إلى الدخول في الحرب بجانب الحلفاء. وبقي كروتشه بمعزل عن قومه وأصبح مكروهاً منهم. لكن إيطاليا صفحت عنه وغفرت له موقفه، وقد الشباب عليه آمالهم ورأوا فيه مرشداً مستقيماً وفيلسوفاً وصديقاً.وأصبح لهم بمثابة المعهد العلمي الذي لا يقل أهمية في توجيهه عن الجامعات. وقد قيل عنه أن تفكيره سيبقى أعظم غزو فكري للفكر المعاصر. على أية حال، فأنه بالرغم من هذه المآخذ على فكر كروتشه، لكن يتوجب علينا أن نعترف إن كتاباته قد تناولت بالعرض والمناقشة جملة من المشكلات، وبأننا نجد فيها العديد من الآراء والأفكار الأصلية التي تسترعي الانتباه. وبالرغم من أسلوبه الأدبي الفضفاض وتعبيراته الدقيقة، فأن كتاباته ترتكز على فكر منهجي ذي مضمون، وهي تمدنا ببناء فكري للمثالية الهيجلية والمذهب التاريخي والمذهب الوصفي. بيد أن كروتشه يقر بنفسه بأنه لابد لكل مفكر من أن يكون قد عرف في تاريخه أساتذة قد أحدثوا في حياته العقلية صدمة فكرية فكانوا بمثابة نقطة الانطلاق التي شرع من بعدها في التفكير لحسابه الخاص. وليس من شك ف إن هيجل يمثل تلك الشخصية الفلسفية الكبرى التي تركت آثاراً عميقة هائلة في كل تفكير كروتشه، بدليل قوله: ( لقد كان هيجل آخر عبقرية نظرية عظيمة ظهرت في تاريخ الفلسفة: عبقرية من طبقة أفلاطون،أرسطو،ديكارت،فيكو وكانت. ولم تظهر بعده سوى مواهب صغرى، إن لم نقل مجرد تابعين لم يكن لهم كبير وزن ). فلسفة كروتشه فلسفة مثالية تتبع خطى هيجل فهو يرى أن الفكر هو الحقيقة، وما من حقيقة غير الفكر، فالفكر والحقيقة شيء واحد، وليست المعرفة إذن علاقة بين الفكر وموضوع مستقل عن الفكر، بل هي الفكر ذاته في إدراكه لذاته. وإذا كانت الحقيقة والفكر والحقيقة شيء واحد فقد ترتب على هذا انقلاب في الفهم التقليدي للفلسفة، فليست الفلسفة إذن عبارة عن مجردات بل هي إدراك العيني، وما من واقع عيني غير الفكر، فموضوع الفلسفة هو إدراك العيني وأولى بالعلم أن يقال أن موضوعه المجردات: فالمفاهيم العلمية مفاهيم كاذبة ينشئها العلم في سبيل الفائدة العلمية، وحتى الرياضيات ليس لها قيمة إلا قيمة علمية، فهي تفيدنا في استخدام معرفتنا للحقيقة الفردية. ينطلق كروتشه من مقدمة يسلم بها المثاليون عموماً وهي إن لا معرفة أكيدة لدينا ألا معرفتنا للتجربة المباشرة، وتجربتنا نحن بالذات. وحدها التجربة المباشرة أو المعرفة المباشرة تستحق أن تسمى معرفة حقيقية، أما كل ماعدا ذلك فهو حقيقي بمقدار ما يكون شرطاً مسبقاً للتجربة أو حالاً من أحوالها، كأن يكون مثلاً حركة منها أو منسوباً أليها أو عاملاً فيها أو شرطاً لها… والتجربة المباشرة إلى ذلك، فعلية وتنتمي إلى لحظة الحاضر أما الماضي والمستقبل فهما حقيقتان بمقدار ما يستندان للحاضر ويرتهنان به. وكروتشه يمزج بين مثاليته وبين قسوة آرائه عن الدينات، فهو ينكر الدين، ويعتقد بحرية الإرادة، وكذلك لا يؤمن بخلود الروح. ويستبدل الدين بعبادة الجمال والثقافة. بقوله (إن دينهم تراث فكري ورثوه عن الشعوب المتأخرة البدائية. أما ديننا فهو تراثنا الفكري الذي ورثناه عن أنفسنا… ولا ندري ما هي الفائدة التي يجنيها هؤلاء الذين يريدون المحافظة على الدين جنباً إلى جنب مع نشاط الإنسان النظري وفنه ونقده وفلسفته. فالفلسفة تنزع من الدين كل أسباب البقاء... وباعتبار إن الفلسفة علم للروح فهي تنظر إلى الدين نظرتها إلى ظاهرة عرضية، وحقيقة انتقالية مؤقتة ).
ما هو الجمال ( الأستاطيقا ): بدأ كروتشه دراسته التاريخ والآداب وانتهت به هذه الدراسة إلى الإقبال على الفلسفة فكان من الطبيعي أن يشغف في الفلسفة بمسائل النقد وعلم الجمال. وأن أعظم مؤلفاته هو كتابه في علم الجمال عام 1902، ومنه يفضل الفن على الميتافيزيقا والعلم. أن العلوم تقدم لنا فائدة ولكن الفنون تقدم لنا الجمال. يعد علم الجمال عند كروتشه مدخلاً لفلسفته المثالية في الروح. ونسب كروتشه للروح نوعين من النشاط، نشاط نظري ونشاط عملي. النشاط النظري مظهرين مظهر جمالي يتبدى في المعرفة الحدسية أداتها المخّيلة وغايتها الجمال ومظهر نظري يبدو في المعرفة المنطقية وأداتها العقل وغايتها الحق. ويعرّف كروتشه علم الجمال بأنه علم لغويات عام وذلك لأنه العلم الذي تنصرف عنايته إلى وسائل التعبير أيضاً، علم فلسفي أنه فلسفة اللغة وهو مرادف لفلسفة الفن. ) (إذا نحن استطعنا أن نسيطر على الكلمة الباطنية، أو أن ندرك صورة أو تمثالاً إدراكاً جلياً واضحاً. أو أن نكوّن موضوعاً موسيقياً، فأن التعبير لابد أن يجيء بعد ذلك كاملاً وذلك كل ما نريد. فلو انفتحت أفواهنا عن كلام أو غناء… فكل ما نفعله حينئذ هو أن نفصح في العلن ما قلناه بالفعل قولاً باطنياً، وأن ننشد في صوت مسموع ما أنشدناه فعلاً في دخيلة نفوسنا أما إذا مست أيدينا مضارب البيانو، أو تناولنا قلماً أو زميلاً، فلسنا نعمل إلا عملاً إرادياً، يتعلق بالجانب العلمي من الإنسان لا بفاعليته الفنية، أعني إننا عندئذ نفعل في حركات كبيرة ما فعلناه باطنياً في سرعة ة إيجاز ). وكما يعتقد كروتشه بأن الجمال هو التكوين العقلي للصورة الذهنية، أو يبدو فيها جوهر الشيء المدرك. فالجمال يمت إلى الصورة الباطنية أكثر منه بالصورة الخارجية التي هي تجسيد الباطنية. والجمال هو علم الحدس الحسي، وبحسب ذلك فإنها شرط للمنطق دون أن يكون النطق شرطاً مباشراً لها. ذلك إنه لاوجود لإدراك بدون حس، في حين إنه يوجد حدس بدون إدراكات… ويمثل علم الجمال الذي أتى به كروتشه مع فلسفته في التاريخ جانب الأصالة في أعماله الفلسفية… إن الفن في رأيه ليس واقعاً فيزيائياً، ذلك إن الفن هو في حد ذاته حقيقة في حين أن الوقائع الفيزيائية ليست سوى تأليف ناجم عن الذات، كما إنه ليس نشاطاً عملياً، زد على ذلك إنه لامنطقية في الفن إطلاقاً. الفن كل متكامل وبتعبير أدق: ( هو عملية تركيب سابقة متعدد الأوجه، وذلك من حيث المحتوى والصورة ومن حيث الحدس والتعبير الجمالي ). إن الجزء الأهم في فلسفة كروتشه : إن ملكة الإدراك الحسي هو أساساً ملكة الفنان والشاعر. لكن ذلك لا يعني إن الإدراك الحسي ملكة مقتصرة على الفنانين والشعراء وإنما هو يشير إلى أن آلية الإدراك الحسي تبدو، حسب مناحي كروتشه، كأنما هي وصف لسلوك الفنان والشاعر. وأن الفاعلية الجمالية أو الملكة الجمالية تنتج، لذاتها معطياتها، وأن للعقل حدسه وهو يظهر ذلك الحدس في شكل صور وأخيلة. ويفتتح كروتشه كتابه المجمل في فلسفة الفن، بالتساؤل عن ماهية الفن، لكن لا يلبث إن يجيب عن هذا التساؤل: ( إن الفن في أبسط صورة، رؤيا أو حدس فالفنان إنما يقدم صورة أو خيالاً، والذي يتذوق الفن يدور في بطرفه إلى النقطة التي دله عليها الفنان، ونظر من النافذة التي هيئها له، فإذا به يعيد تكوين هذه الصورة في نفسه ولا فرق هاهنا بين الحدس والرؤيا والتأمل والتخّيل والتمّثل والتصور وما إلى ذلك فتلك جميعاً مترادفات تتردد باستمرار حين نتحدث عن الفن وتنهض بالفكر إلى مفهوم واحد أو إلى منطقة واحدة من المفاهيم، مما يدل على اتفاق عام… إن الفن حدس يستمد في الوقت نفسه، دلالته وقوته من كافة الآراء التي أنكرها ضمناً، ومن سائر الأشياء التي أميزها عن الفن. فما هي هذه الآراء التي تنكرها هذه الإجابة ؟ سأشير إلى الرئيسية منها، أو على الأقل إلى أهمها في نظرنا، في هذه اللحظة التي وصلنا إليها من تطور الحضارة. تنكر الأولى أن يكون الفن واقعة مادية، أن يكون مثلاً، ألواناً أو نسباً بين ألوان، أن تكون أشكال جسمية، أن تكون أصواتاً أو نسباً بين أصوات، أن تكون ظاهرات حرارية أو كهربائية، أي أن تكون على الجملة شيئاً ما يشار إليه بقولهم مادي. فأن الفكر الإنساني أشبه بألئك الأطفال الذين يلمسون فقاعة الصابون، ويودوا لو يلمسوا قوس القزح. إنه إذ يعجب بالأشياء الجميلة يميل بطبعه إلى البحث عن أسباب ذلك في طبيعتها الخارجية، فيحاول أن يحكم على بعض الألوان بأنها جميلة، وعلى بعضها الآخر بأنها قبيحة … وثمة فكرة أخرى ينطوي عليها تعريفنا للفن بأنه حدس. فإذا كان الفن حدساً، وكان الحدس من باب النظر لا العمل، أي من قبيل التأمل، كان متغير الممكن أن يكون الفن فعلاً نفعياً ولما كان الفعل النفعي يتجه دائماً إلى بلوغ لذة واستبعاد ألم فأن الفن إذا نظرنا إلى طبيعته الخاصة، لا شأن له بالمنفعة، إذ لا شأن له باللذة والألم من حيث هي لذة، ليست بذاتها فنية، فما من فن في لذة الشرب إرواءً للظمأ، وما من فن في القيام بواجباتنا الشاقة التي من شأنها أن تنظم حياتنا العملية بل إننا نلاحظ بوضوح، أمام الآثار الفنية فما هناك من فرق بين اللذة والفن. فقد يكون المنظر الذي تمثله لوحة من اللوحات شيئاً حبيباً إلى قلبنا لأنه يوقظ فينا ذكريات جميلة، ثم تكون اللوحة قبيحة من الناحية الفنية، أو قد تكون اللوحة جميلة من الناحية الفنية، مع منظر ثقيل على النفس مقيت، ورب صورة نعترف بجمالها ثم هي تثير فينا الحنق والحسد لأنها من صنع إنسان لا نحبه أو منافس تدر عليه بعض الفوائد أو تمده بقوة جديدة. والخلاصة إن اهتماماتنا العملية وما يصاحبها من لذات والآم تختلط أحياناً باهتمامنا الفني، إلا إنها لا تستند إليه ولا تقوم عليه. وهناك من يعرّفون الفن بأنه اللذة، ثم يريدون أن يخففوا من غلوائهم حتى لا يكون تعريفهم واهناً، فيقررون إنه ليس اللذة على وجه العموم، وإنما هي صورة خاصة ولكنها فلسفة على كل حال كما إن الفلسفة دين، دين صفاء ونضج، وما هو ديني يصفو وينضج، ولكنها دين على أي حال، لأن موضوعها مطلق وخالد… وفي وسعكم منذ الآن أن ترد كيف أن قولنا إن الفن حدساً هذا القول إذا صبغ بعبارات أخرى مرادفة من مثل الفن أثر من آثار الخيال، وجد جارياً على ألسنة جميع الناس الذين يتحدثون يومياً عن الفن، ووجد في أقدم المعاجم والكتب تقليد ووهم. كيف إن هذا القول إذ يجري الآن مجرى العرض الفلسفي، ويمتلئ بمضمون تاريخي ونقدي جدلي وما أعطيتكم الآن إلا صورة مصغرة عما ينطوي …ولا أستطيع أن أذكر إلا عابراً قيمة فكرة التقليد التي أتى بها أرسطو، وقيمة المحاولة التي قام بها هذا الفيلسوف نفسه في التمييز بين الشعر والتاريخ، ثم أدت إلى فكرة لم توضح إيضاحاً كافياً، ولعلها لم تصل إلى الوضوح في ذهن أرسطو نفسه، وظلت لذلك مهملة مدة طويلة إلى إن أصبحت في العصور الحديثة نقطة البداية في التفكير الفني. وقد شهد القرن السابع عشر على وجه الخصوص من شعور قوي باختلاف المنطق عن الخيال، والحكم عن الذوق، والعقل عن العبقرية… فجرد الفن من كل نزعة نفعية أو أخلاقية أو مفهوماً، وذهب إلى أنه صورة خالصة، على حد تعبيره، أو حدس خالص. ولكن عند إقدام الحقيقة يولد الشك الذي يدفع بفكر الإنسان من قمة إلى قمة فإذا بالمذهب الذي يتصور الفن حدساً أو خيالً أو صورة، يؤدي إلى صورة جديدة. لا تنزع الآن إلى مقابلة الفن بالفيزياء واللذة والأخلاق والمنطق، وتمييزه عن ذلك كله بل تنحصر في نطاق الصور نفسها، فتشك في أن يكون الفن صورة فحسب، وتدور بالمسألة الآن حول التمييز بين الصورة الخالصة والصورة غير الخالصة، فنتساءل. ما هو الدور الذي يكمن أن تحياه في فكر عالم من الصور الخالصة المجردة من الفلسفة أو التاريخ أو الدين أو العلم بل ومن الأخلاق أو اللذة ؟ وهل أدنى إلى العقم والعبث من أن نحلم وأعيننا مفتوحة، في هذه الحياة التي لا تقتضي أن تكون الأعين مفتوحة فحسب، بل تقتضي كذلك أن يكون العقل مفتوحاً، وأن يكون هذا الفكر يقضاً قوياً ؟ الصور الخالصة إلا أنها أحلام كسولة مقلقة تافهة، فهل يكون هذا هو الفن ؟ لا شك إنه يحلو لنا أحياناً أن نقرأ بعض روايات المغامرات التي تتعقب فيها الصور بعضها وراء بعض على أنحاء قريبة غير متوقعة. لكن ذلك لا يحلو لنا إلا في لحظات التعب حين نضطر إلى تمضية الوقت وإننا لنشعر في هذه الحالة شعوراً واضحاً بأن هذه البضاعة ليست فن. فإنما نحن في سبيل تمضية الوقت واللعب. ولكن إذا كان الفن لعباً وتمضية للوقت فقد وقع ثانية في أحضان مذاهب اللذة التي تنتظره بفارغ الصبر وترحب به أجمل ترحيب… من صور اللذة. وأعتقد إن هذا التضييق لا يذود عن ذلك التعريف، بل هو تراجع حقيقي عنه، فحين نسلم بأن الفن صورة خاصة من اللذة، لا تكون صفته الخاصة هي اللذة بل ما يميز هذا النوع من اللذة عن غيره من أنواع اللذة. وعن هذا العنصر المميز إنما يحسن أن نمضي باحثين عنه وعن المذهب الذي يعرّف الفن بأنه لذة يسمى خاصة باسم مذهب اللذة في فلسفة الفن… والإنكار الثالث الذي ينطوي عليه تعريفنا للفن بأنه حدس ينظر إلى الفن على أنه فعل أخلاقي، أي على أنه ذلك النوع من التأثير العملي، الذي على اتصاله بالمنفعة واللذة والألم ليس نفعياً ولا لذاً بصورة مباشرة، وإنما يحلق في أفق روحي أسمى وأرفع. ولكننا نقول: ( مادام الحدس فعلاً نظرياً فهو متعارض مع كل نوع من أنواع التأثير العلمي، حتى لقد لوحظ من قديم الزمان أن الفن ليس ناشئاً عن الإرادة. فلئن كانت الإرادة قوام الإنسان الخيّر فليست قوام الإنسان الفنان. ومتى كان الفن غير ناشئ من الإرادة، فهي في حل من ذلك ومن كل تمييز أخلاقي، لا لأنه وهب ميزة التحلل، بل لمجرد إنه لا سبيل إلى انطباق التمييز الأخلاقي عليه، فقد تعبر الصورة عن فعل يحمد أو يذم من الناحية الأخلاقية. وليس ثمة قانون جنائي يحكم على صورة بالسجن أو بالإعدام، بل ولا ثمة حكم أخلاقي يمكن أن يصدر عن إنسان عاقل ويكون موضوعه صورة. إنك لا تستطيع أن تحكم على كوميديات دانتي بأنها منافية للأخلاق، وعلى مسرحيات شيكشبير بأنها أخلاقية، إلا إذا استطعت أن تحكم على المربع أنه أخلاقي وعلى المثلث بأنه لا أخلاقي… أن صفة المثالية التي تميز الحدس عن التصور، وتميز الفن عن الفلسفة والتاريخ، أي عن التقرير العام وإدراك الحادث وروايته هي الميزة الداخلية العميقة التي يمتاز بها الفن. فمتى تجرد التفكير من صفة المثالية هذه تبدد الفن ومات… وتمييزنا للفن عن الفلسفة، إن الفلسفة بكامل اتساعها وبحساباتها الشاملة لفكرة الواقع كلها، يتبع تمييزاً آخر، في طليعتها تميز الفن عن الخرافة أو عن الأسطورة. فالخرافة تبدو لمن يؤمن بها أمراً منزلاً، ومعرفة للواقع في مقابل الغير واقعي، ونجاة من مختلف الاعتقادات التي يعدها وهمية خاطئة. ولا يمكن أن تصبح الخرافة فناً إلا متى أصبح المرء لا يعتقد بها. فإذا هي في نظرة أشبه باستعارة من الاستعارات، وإذا كان عالم الآلهة العابس عالم من الجمال، وإذا الله صورة من مبدعات الخيال، وإنما هي أمر ديني، والدين والفلسفة، فلسفة، لم تكتمل أو لم تنضج، ولكي نجعل المسألة أكثر دقة يحسن أن نحذف منها على الفور القسم الذي تسهل الإجابة عليه والذي لم أشأ أن أغفله لأنه يكون في العادة ممتزجاً بها. فالحقيقة أن الحس يجنح إلى إيجاد صورة لا كتلة غير منسجمة من الصور، مما يمكن الحصول عليه يتذكر صور قديمة. أو جعل الصور تتعاقب بعضها وراء بعض بفعل إرادي، أو ضم صورة إلى أخرى بفعل إرادي آخر، كما يضم رأس الإنسان إلى عنق حصان لصنع لعبة من لعب الأطفال. وقديماً عمدت (البوئيطيقيا)، تمييزاً للحدس عن نزوات الخيال، إلى مفهوم الوحدة على وجه الخصوص، فكانت تقتضي أن يكون الأثر الفني بسيطاً واحداً، وعمدت كذلك إلى مفهوم آخر قريب من ذلك، هو مفهوم الوحدة في التنوع، فكانت تقرر أن تدور الصور الكثيرة حول مركز واحد، وأن تنصهر في صورة تركيبية. كما إن كثيراً من فلسفات القرن التاسع يميز لهذا الغرض نفسه، بين التخيل وبين الخيال والواقع أن جمع الصور، والتخير بينها وضم بعضها إلى بعض، كل ذلك يفترض أن يكون الفكر متمتعاً بملكة الإبداع، خليقاً بإيجاد صور خاصة. وهذا هو التحليل المبدع. أما الخيال فهو طفيلي يعيش على حساب غيره، ويوجد مركبات صناعية خارجية، وليس أهلاً لتوليد الحياة توليداً عضوياً… علينا أن نطلب المفهوم بعنصر محسوس فضلاً عن العنصر المحسوس الذي ينطوي عليه في ذاته، من حيث هو مفهوم عيني، فذلك شيء زائد. أما إذا أصررتم على هذا المطلب، فإنكم تتخلصون بلا شك من فهم الفن على إنه فلسفة وتاريخ. ولكنكم تنتقلون إلى فهم الفن على إنه رمز بمعنى Allegorie فالرمز جمع خارجي اتفاقي تحكمي بين واقعتين روحيتين: المفهوم أو الفكرة من جهة والصورة من جهة أخرى، جمع يفترض أن تشير هذه الصورة إلى هذا المفهوم. ولن نصل بواسطة فكرة الرمز، إلى تفسير طابع الوحدة في الصورة الفنية. بل إننا حين نأخذ بهذا الرأي إنما نقرر بإرادتنا وجود الثنائية. فإن الفكرة في هذا الجمع تظل فكرة والصورة تظل صورة، بدون أن يكون بينهما علاقة. فإذا تأملنا الصورة نسينا المفهوم، وإذا تأملنا المفهوم بددنا الصورة الزائدة المربكة… إن الفكرة تنحل بكاملها في التصور، كانحلال قطعة السكر التي تذوب في قدح الماء فتبقى فيه، والفكرة التي اختفت وأصبحت بكاملها تصوراً، ولم يعد من الممكن التقاطها في صورة فكرة لم تبق فكرة، وإنما هي علاقة لمبدأ الوحدة الذي لم يكتشف بعد، ولكنه موجود في الصورة الفنية. حقاً أن الفن رمز. إنه بكامله رمز، إنه بكامله دلالة. ولكن رمز أي شيء هو ؟ ودلالة أي شيء هو ؟ أن الحدس يكون فنياً حقاً يكون حدساً حقاً، لا كتلة مفككة من الصور، حين له مبدأ حيوي يحركه ويكون من صلبه. إن الجواب على هذا يأتي من الخارج، يأتي من النظر إلى ذلك النزاع الكبير، الذي لم تشهد ساحة الفن نزاعاً اكبر منه، بين الرومانسية والكلاسيكية. وإذا أردنا أن نضع تعاريف عامة، كما ينبغي أن نفعل هنا ونغض الطرف عن التعاريف الثانوية العريضة، قلنا إن المذهب الرومانسي هو المذهب الذي يطلب من الفن أول ما يطلب أن يكون انصباباً عفوياً عنيفاً لما يختلج في نفس الإنسان من عواطف الحب والكره، والغم والفرح واليأس والتفاؤل، ويكتفي بصور غائمة غير محدودة وأسلوب مقتضب مؤلف من لمعات خاطفة، وإشارات غامضة وعبارات تقريبية وإندفاعات قـوية مضطربة. أما المذهب الكلاسيكي فإنه يحب العواطف الهادئة، والأهداف الحكيمة والشخصيات المدروسة طبائعها. الواضحة حواشيها ويحب الاعتدال والتوازن والوضوح، ويميل إلى التصور، خلافاً للمذهب الرومانسي الذي يميل إلى العاطفة. ويقول الكلاسيكي ماذا يجدينا أن تهز العواطف وتحرك المشاعر. إن لم يسترح الفكر إلى صورة جميلة ؟ وإذا كانت الصورة جميلة وركن إليها الذوق، فماذا يضيرنا أن لا تحتوي على تلك العواطف التي يستطيع كل الناس أن يحصلوا عليها في الفن… ولا نستطيع أن تصف الآثار العظيمة أو الأجزاء القوية من هذه الآثار بأنها رومانسية أو كلاسيكية، بأنها عاطفية أو تصورية، لأنها كلاسيكية رومانسية معاً، لأنها عاطفية وتصور في آن واحد: هي عاطفة قوية صنفت لنفسها تصوراً رائعاً. فكذلك هي آثار الفن الهيليني، وآثار الفن والشعر الأيطالي من ثلاثيات دانتي البرونزية، إلى قصائد بترارك الأربع عشرية الشفافة، إلى ثمانينات أريوست الرائعة… إن العاطفة هي التي تهب الحدس تماسكه ووحدته. فإنما كان الحدس حدساً حقاً لأنه يمثل عاطفة. ومن العاطفة وحدها يمكن أن يتفجر الحدس. إن العاطفة لا الفكرة هي التي تضفي على الفن ما في الرمز من خفة هوائية. تشوّف محصورة في دائرة تصور: ذلك هو الفن. وفي الفن لا يكون التشوف إلا بالتصور، ولا يكون التصور إلا بالتشوف. أما أن تقولوا هذه ملحمة أو هذه غنائية. إن الفن هو الغنائية أبداً وقولوا إن شئتم هو ملحمة العاطفة ودراميتها. وما نعجب به في الآثار الفنية الحق هو الصورة الخيالية الكاملة التي نكسبها حالة نفسية، وذلك ما ندعوه في الأثر الفني في الحياة والوحدة والتماسك والرحابة… فالحدس لا يكون إذن إلا حدساً غنائياً. وليست الغنائية صفة أو نعتاً للحدس، وإنما هي مرادفة له، هي أحد المرادفات الكثيرة، أعني الحدس الحقيقي الذي يؤلف جسماً حياً، وينطوي لذلك على مبدأ حيوي هو الجسم الحي نفسه، وبين ذلك الحدس الزائف الذي هو كومة من الصور جمعت على سبيل التسلية أو في سبيل غاية عملية أخرى، بحيث إذا نظرت أليها بمنظار الفن لم تبدو لك جسماً آلياً. أما فيما عدا هذه الغاية الجدلية فليس لاستعمالنا لفظة الغنائية في صورة النعت من قيمة. وحسبنا أن نقول إن الفن حدس حتى نعرّف الفن اكمل تعريف). وبينما يتحدث كروتشه عن ماهية الجمال والفن. نجده يقول إضافة لذلك: إنه ليس أمعن في الخطأ من الظن بأن المهارة اليدوية هي كل شيء في العمل الفني، وكأن في استطاعة أي فرد منا أن يكون رافائيل، لو تهيأت له أسباب الصفة، بحيث ينقل إلى القماش تلك الصورة التي تخيلها في ذهنه ! والحق إن فاعلية الفنان إنما هي أولا وقبل كل شيء فاعلية تعبيرية تتجلى في القدرة على تكوين الصور الذهنية، في حين إن المهارة اليدوية هي مجرد عادة تكنيكية تكتسب بالمران والتعلم، وبالتالي فأنها لا تدخل في صميم العبقرية الفنية. وقد روي عن الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي إنه أتفق يومياً مع أحد الرهبان على رسم لوحة العشاء الأخير. وجلس دافنشي أمام لوحته عدة أيام ساكناً وصامتاً لا يكاد يلمس الفرشاة، فكان الراهب يستحثه يومياً على البدء في العمل، لكن بدون جدوى، والحقيقة إن دافنشي لم يكن ساكناً ولا يعمل شيئاً وإنما كان يرسم الصورة في ذهنه، وكان يستكمل شتى تفاصيلها في خياله، موقناً بأن إخراجها بعد ذلك لن يكون إلا عملاً آلياً أو مهارة يدوية.
التاريخ والفلسفة : يقول كروتشه إنه لابد لنا من التميز بين التاريخ. التاريخ الذي هو تاريخ ميت وحدث عملي.إن التاريخ الحقيقي هو تاريخ الزمان الراهن، الذي ينطلق من البناء الروحي للعصر ويتطابق مع الخلق وصيرورة الروح. إن عملية الحكم التاريخية بما هي عليه في الحقيقة عملية حكم جزئية، ومهما تكون منصبة على الجزئي فإنها بالرغم من ذلك لا تتضمن مجرد محمولات كلية بل أن موضوعها بحد ذاته كلي أيضاً. لقد كان الكاتب الفرنسي فوستيل دي كولانج يقول:(إن هناك بلاشك تاريخ وفلسفة، ولكن ليس هناك فلسفة وتاريخ). وكروتشه يعلق على هذه العبارة فيقول: (إنه ليس ثمة فلسفة ولا تاريخ، كما إنه ليس ثمة فلسفة تاريخ. بل هناك تاريخ هو في صميمه فلسفة، وفلسفة هي في صميمها تاريخ، أو هي باطنة في صميم التاريخ ). وكروتشه يرفض فلسفة التاريخ لأنه يرفض أولاً التصور الحتمي للتاريخ، ولأنه يستبعد ثانياً كل نزعة طبيعية صرفه. إذن فإن التاريخ يتحد مع الفلسفة، والفلسفة مع التاريخ، وذلك لأن الفلسفة تمثل عملاً محسوساً وتاريخياً فإن المرء يمكنه أن يفصلها عن الصيرورة. يرى كروتشه إن الفلسفة والتاريخ هما دائماً أبداً معرفة بالحاضر. فالماضي مجرد وهو لا يصبح عينياً أو شخصياً، إلا حين يعرف بوصفه حاضراً، أو حينما يصبح من جديد بالنسبة إلى الفكر الذي يعقله، ماثلاً في الحاضر. وليس من شأن هذا الحاضر أن يجئ فـيذوب في الديمومة أو الاستمرار الزمني، بل هو لابد من أن يتطابق في الزمني، بل هو لابد من أن يتطابق في فعل الآن مع سرمدية الروح الماثل أمام ذاته في كل لحظة من لحظات صيرورته. وكروتشه يجزم إذن بكلية التطابق بين الفلسفة والتاريخ، ويعتبر كل فيلسوف مؤرخاً وكل مؤرخ فيلسوفاً في آن واحد، ذلك إنه في فلسفة كل إنسان يوجد تاريخ… أي توجد فيها حياة هذا الإنسان برمتها. فالإنسان الفرد وكذلك النظريات الفكرية المختلفة من فلسفة وعلم بمعناه الواسع، ليست جميعها سوى لحظات عابرة لحقيقة فريدة تحتوي جميع العناصر المتباينة في وحدة واحدة هي الذات. النص التالي هو فصل عنوانه المعرفة التاريخية بوصفها المعرفة الكاملة من كتاب كروتشه التاريخ بوصفه قصة الحرية. [ لا يكفي القول إن التاريخ هو حكم تاريخي، ولابد من إضافة أن كل حكم هو حكم تاريخي، أو بكلمة مختصرة تاريخ. إذا كان الحكم علاقة بين الموضوع والمحمول بين المسند والمسند إليه، فأن الموضوع أو الحدث أياً كان الشيء الذي يصدر عليه الحكم هو دائماً واقعة تاريخية صيرورة. عملية تجري لأنه لا توجد وقائع بلا حركة، ولا يمكن تصور أشياء من هذا القبيل في عالم الواقع. والحكم التاريخي موجود حتى في أبسط مدركات العقل الذي يصدر الحكم، إذا لم يصدر حكماً فلن يكون هناك حتى إدراك، بل إحساس أعمى غامض فقط. مثال ذلك أن إدراك الشيء الذي يوجد أمامي هو حجر، وإنها لن تطير من مكانها من تلقاء نفسها، كما يطير العصفور لدى سماع صوت اقترابي منه، يجعل من المناسب أن أزيحها من مكانها بعصاي أو بقدمي. والحجر في الحقيقة عملية تجري، تناضل ضد قوى التفكك، ولا تستلم إلا قطعة فقطعة. وحكمي يرجع إلى مظهر واحد من تاريخها. لكن يمكننا إلا نقف هنا أيضاً إلا نرفض نتائج أخرى: الحكم التاريخي ليس لوناً من المعرفة لكنه المعرفة ذاتها، إنه الشكل الذي يملأ حقل المعرفة ويستنفذه تماماً من دون أن يترك مكاناً لأي شيء آخر. والحقيقة أن كل معرفة ملموسة، مهما كانت تعادل الحكم التاريخي، وهي مرتبطة بالحياة، أعني بالفعل الذي تتوقف عنه لحظة أو تتنبأ به لكي نستطيع كما قلنا التغلب على أية عقبات تحجب الرؤية الواضحة للموقف الذي لابد أن تنبثق منه بصورة نوعية وبإصرار. المعرفة من أجل المعرفة، دون أن تملك أي شيء أرستقراطي أو علوي كما يعتقد البعض تصبح الهبة بليدة للبلداء، أو لنا في اللحظات البليدة التي توجود لدينا جميعاً. لا يوجود في الحقيقة شيء من هذا القبيل، لأنه مستحيل من ذاته والمثير يتوقف لدى إخفاق مادة المعرفة ذاتها ولدى إخفاق هدفها. وأولئك المثقفون الذين يرون الخلاص في انسحاب الفنان أو المفكر من العلم المحيط به، في عدم مشاركته بشكل مقصود في المسابقات العامية العملية. عامية بمقدار كونها عملية أولئك المفكرون يسببون، من دون أن يعلموا، موت الفكر والدولة المثالية التي لا يوجد فيها عمل أو نضال، والتي لا توجد فيها عقبات، لا يمكن أن يكون فيها فكر، لأن كل حافز للفكر لابد أن يختفي فيها ولا يمكن أن يكون فيها أي تأمل حقيقي لأن التأمل النشيط والشاعري يحوي في صميمه عالماً من الكفاح العملي والمشاعر. ليس هناك حاجة كذلك إلى جهود كبيرة للبرهان على إن العلوم الطبيعية مع أداتها وتتمتها الرياضيات، هي أيضاً مبنية على المتطلبات العلمية للحياة وتسعى لإرضائها، وقد بشر بهذا داعية العلوم الطبيعية العظيم فرنسيس بيكون، بدرجة كافية من الإقناع. لكن السؤال المطروح هو: في أية مرحلة من نموها تمارس العلوم الطبيعية هذه المهمة المفيدة وتصبح معرفة حقيقية وصحيحة ؟ ولاشك إن ذلك لا يتم حين تصنع تجريدات وتبني فئات أو أنواعاً، وتعطي لهذه القوانين صيغاً رياضية… فكل هذه أعمال ثانوية تنفع في خزن المعرفة التي اكتسبتها أو التي يجب اكتسابها لكنها ليست هي فعل المعرفة. فالإنسان قد يمتلك في الكتب أو يحفظ في الذاكرة كل المعرفة الطبية وكل أنواع الأمراض، وفروع أنواعها مع خصائص، وبهذا يمتلك جالينوس بصورة جيدة، لكن دون امتلاك المريض، على الإطلاق على حد تعبير مونتين ولن يعرف من التاريخ أكثر من شخص آخر يمتلك واحداً من كتب التاريخ العمومي الكثيرة التي تم جمعها والتي زود بها ذاكرته. أن الأخير لن يعرف أي شيء معرفة حقه حتى تفقد تلك المعرفة، تحت ضغط الأحداث، قسوتها المميتة، ويأخذ فكره بدراسة بعض المواقف السياسية أو غيرها، والشيء ذاته يصدق على الخبير في الطب إلى أن تأتي اللحظة التي يكون فيها إزاء مريض يعالجه ويضطر بالحدس والفهم تشخيص داء ذلك المريض، وذلك وحده بتلك الصورة وفي تلك الظروف وهو يمسك لا بصيغة المرض لكن بحقيقة المرض الملموسة والفردية. إن العلوم الطبيعية تنطلق من الحالات الضرورية التي لا يفهمها العقل بعد أو لا يفهمها فهماً كاملاً. وهي تنفذ سلسلة طويلة ومعقدة من الجهود لكي تضع في آخر الأمر العقل، الذي جرى أعداده بهذه الصورة، إزاء هذه الحالات ذاتها وتجعله على اتصال مباشر بها لكي يكوّن حكماً صحيحاً. العلوم الطبيعية إذن لا تختلف بصورة جدية، ولا تتعارض مع النظرية القائلة. إن كل معرفة حقيقية هي معرفة تاريخية، وهي كالتاريخ تبحث في العالم الراهن التواضع، وليس كذلك بالنسبة إلى الفلسفة، أو أن شئت بالنسبة التقليدية عن الفلسفة التي لها عينان مثبتتان في السماء وتتوقع الحصول على الحقيقة العلوية من تلك الجهة أن هذه القسمة إلى أرض وسماء، هذا المفهوم الثنائي لحقيقة تتعالى على الحقيقة، للميتافيزيقا الكائنة فوق العلوم الطبيعية. هذا التأمل للمفهوم بلا حكم أو خارج الحكم، سيظل دائماً يحمل الطابع ذاته مهما كان الاسم الذي قد تحمله الحقيقة المتعالية: الله أو المادة، الفكرة أو الإرادة، لا فرق هناك، مادام يفترض بأنه يوجد مقابل كل من هذه أو تحتها حقيقة أدنى منها أو حقيقة ظاهرية فقط. لكن الفكر التاريخي أحتال حيلة خبيثة على هذه الفلسفة المتعالية المحترمة كما أحتال على صنوها الدين المتعالي، الذي تعتبر الفلسفة شكله المعقول أو صورته اللاهوتية، حيلة تحويلها إلى تاريخ، بتفسير جميع مفاهيمها، ونظرياتها وخلافاتها، وحتى إنكارها أو رفضها الريّبي اليائس، بأنها حقائق وأقوال تاريخية نشأة من متطلبات معينة تم إرضاء بعضها ولم يتم إرضاء بعضها الآخر، بهذه الصورة عامل الفكر التاريخي معاملة عادلة السيطرة القديمة للفلسفة المتعالية، السيطرة التي كانت أيضاً خدمة للمجتمع البشري، وكتب نهايتها بطريقة مناسبة. ويمكن القول إنه ما إن خضعت الفلسفة المتعالية للنقد التاريخي، حتى توقفت الفلسفة ذاتها عن التمتع بوجود مستقل لأن ادعائها الاستقلال، مبنياً على طابعها الميتافيزيقي، والذي حل محلها لم يعد هو الفلسفة بل التاريخ أو ما يساوي الشيء في ذاته، الفلسفة بقدر ما تكون تاريخاً والتاريخ بقدر ما هو فلسفة : (التاريخ – فلسفة)، الذي مبدأه تماثل العمومي والفردي، العقل والحدس، والذي يعتبر قسرياً وغير شرعي أي فصل بين هذين العنصرين الاثنين، اللذين هما في الحقيقة عنصر واحد. إنه لمصير غريب أن يظل التاريخ مدة طويلة يعتبر ويعامل كأكثر أشكال المعرفة تواضعاً بينما كانت الفلسفة أرقى شكل لها، أما الآن فالتاريخ لا يعلو على الفلسفة فقط بل يمحوها أو ينفعها. هذا التاريخ المزعوم الذي كان متروكاً في مقعد أخير لم يكن في الحقيقة تاريخاً بل سجلاً للأحداث المرتبة ترتيباً زمنياً وتحقيقات مدروسة بشكل سطحي ومبنية على السماع: أما النوع الآخر من التاريخ الذي اثبت وجوده الآن فهو الفكر التاريخي، الشكل الوحيد والمتكامل للمعرفة. وحين حاولت الفلسفة الميتافيزيقية أن تمد يد العون إلى التاريخ لتنقذه من الأعماق، فليس للتاريخ مدت يدها،وإنما لسجل الأحداث اليومية، ولما كانت هذه عاجزة عن النهوض إلى مستوى التاريخ بسبب طابعها الميتافيزيقي، فقد ركب فوقها (فلسفة التاريخ)، عملية تأمل مسبق وتكهن، نوع من برنامج إلهي ينفذه التاريخ كما يحاول شخص أن يصنع نسخة دقيقة نوعاً ما عن نموذج. إن فلسفة التاريخ، كانت ثمرة عجز فكري، أو نتيجة لإفلاس العقل، كما قال فيكو عن الأساطير. بين أشكال الأدب التعليمي المختلفة يوجد حتماً مؤلفات يمكن أن تصنف فلسفة لا تاريخاً لأنه يبدو إنها تعالج مفاهيم مجردة خالية من أية عناصر حدسية. لكن هذه المؤلفات إذا لم تكن دوراناً في الفضاء فقط، فهي تحتوي أحكاماً تامة وملموسة، لأن العنصر الحدسي موجود فيها دائماً، وإن كان غير منظور من العين العامية إلا إذا ظهر بهيئة سجل الأحداث الزمنية أو المعرفة الموسوعية. العنصر الحدسي موجود في هذه المؤلفات لأن الحجج الفلسفية التي ترد فيها تلبي الحاجة إلى إلقاء ضوءً على بعض الظروف التاريخية، إن معرفة هذه الظروف تفسر الحجة الفلسفية كما أن الحجج ذاتها تفسر هذه الظروف. كنت أود أن أقول، على سبيل إيراد مثال من الأمثلة الحية أنه حتى الإيضاحات المنهجية التي أقدمها هنا لا يمكن فهمها حقاً إلا برجوع الفكر بصورة صريحة إلى الظروف السياسية والأخلاقية والفكرية القائمة في أزمتنا والتي تساعد في صفها والحكم عليها. ثم هناك الأخصائيون أو أساتذة الفلسفة الذين يبدو أن مهمتهم هي أن يقوموا بدور البديل المعادل لفقهاء اللغة، أعني للعلماء الذين يعلنون إنهم مؤرخون، وهؤلاء يجمعون الوقائع الاعتيادية ويخرجونها بصورة تاريخ، بينما أولئك يرتبون الأفكار المجردة وبهذه الصورة يكملون نوعاً من الجهل بنوع آخر منه وهي وسيلة لا تؤدي إلى إحراز أي تقدم. هؤلاء هم القيمين الطبيعيين على الفلسفة المتعالية، الذين حتى حين يؤكدون، بالقول وحدة الفلسفة والتاريخ، ينكرونها بالفعل، أو في أحسن الأحوال ينزلون من وقت إلى آخر من عالمهم الأعلى لكي يعلنوا بعض التعميمات الضيقة أو الافتراءات التاريخية. وكلما ازداد الحس التاريخي تهذيباً وصقلاً، وأصبح أسلوب التفكير التاريخي أعم فأن الفقهاء المؤرخين سوف يعودون إلى ميدان فقه اللغة النقي البسيط النافع. أما الفلاسفة المحترفون فيمكن شكرهم وصرفهم من الخدمة بلباقة، لأن الفلسفة ستكون قد وجدت في المؤلفات التاريخية الحقيقة ميداناً لجهودها لم يكن متوفراً لها. فقد كانوا يفلسفون ببرودة. ويبتعدون عن يقظة العواطف والاهتمامات ويكتبون من دون الإشارة إلى أية مناسبة. لكن كل تاريخ جدي، وكل فلسفة جدية يجب أن تكون فلسفة وتاريخاً للمناسبة كما قال غوتـه عن الشعر الصحيح، بالرغم من إن مناسبة الشعر هي في الأهواء، بينما مناسبة التاريخ هي في سلوك الحياة والأخلاق ].
#ماجد_محمد_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفن العراقي القديم
-
الفلسفة البراجماتية
-
الفلسفة الوجودية
-
السؤال الفلسفي
-
دور الإنسان والموروث في غياب الممارسة الديمقراطية في واقعنا
...
-
إشكالية التخلف في واقعنا الاجتماعي
المزيد.....
-
الحكومة الإسرائيلية تقر بالإجماع فرض عقوبات على صحيفة -هآرتس
...
-
الإمارات تكشف هوية المتورطين في مقتل الحاخام الإسرائيلي-المو
...
-
غوتيريش يدين استخدام الألغام المضادة للأفراد في نزاع أوكراني
...
-
انتظرته والدته لعام وشهرين ووصل إليها جثة هامدة
-
خمسة معتقدات خاطئة عن كسور العظام
-
عشرات الآلاف من أنصار عمران خان يقتربون من إسلام أباد التي أ
...
-
روسيا تضرب تجمعات أوكرانية وتدمر معدات عسكرية في 141 موقعًا
...
-
عاصفة -بيرت- تخلّف قتلى ودمارا في بريطانيا (فيديو)
-
مصر.. أرملة ملحن مشهور تتحدث بعد مشاجرة أثناء دفنه واتهامات
...
-
السجن لشاب كوري تعمّد زيادة وزنه ليتهرب من الخدمة العسكرية!
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|