|
جامعة حلب نموذجا : فشل سياسة تنشيف المنابع السورية
احمد مولود الطيار
الحوار المتمدن-العدد: 843 - 2004 / 5 / 24 - 03:34
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
إن إعادة الاعتبار للجامعة تستلزم من السلطات السورية التخلص من عقدة الحذر تجاه المعرفة وتجاه المؤسسة التعليمية برمتها تلك العقدة التي حاول النظام جاهدا حلها.. لكن عبر حلول تعسفية، مما فاقم عقدة الحذر لديه بشكل أكبر، تتأتي من كون الجامعة إحدي المجالات الاجتماعية التي يمارس فيها نقد السلطة سواء من طرف الأساتذة أو الطلاب. وتعتبر الجامعة مصدرا للشغب بالنسبة للنظام. لأن كافة التجارب العالمية تؤكد أن الشرارة كثيرا ما انطلقت من الجامعة إلي الشارع. لذلك كانت الجامعة وستبقي مصدر قلق سياسي للسلطة بجانب المعمل والثكنة والشارع والمسجد، بل أنه في الوقت الذي تغفو وتنام فيه المؤسسات الأخري (النوم هنا = تدجين. انظر حالة المؤسسة الرسمية الدينية !!) فان الجامعة ظلت تعكس أصداء المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المقموعة وان غابت لفترة فإنها عائدة ولن تكون مهما فعلت السلطة أداة تكييف وتطويع. إن المتتبع للحراك الذي تشهده الجامعات السورية، وخاصة جامعة حلب، كذلك قسوة تعامل السلطات السورية مع هذا الحراك، يدرك بما لا يدع مجالا للشك، بأن المنبع مهما حاولوا تجفيفه فأنهم خائبون. لقد دأب النظام السوري، منذ امتطائه للدولة والمجتمع، إتباع سياسة تجفيف المنابع وصولا إلي تنشيف وتيبيس الحياة السياسية السورية وتجريد وإبعاد المجتمع بكل تلاوينه عن السياسة ليتسني له كنتيجة حتمية لما دأب عليه، قيادة قطعان من الخراف والماشية، يطلق عليها بين الفينة والأخري من جنباته ذئاب شرسة تعيد انتظامها بالصف. إن طبيعة السياسة والممارسة التي اتبعها النظام منذ عام 1963 إلي الآن صحرت الحياة السياسية السورية، فلقد منع حتي حلفاءه، في ما يسمي بالجبهة الوطنية التقدمية، من العمل في أوساط الطلبة والجيش واحتكر العمل بمفرده، في هذين النبعين الهامين (مع ايماننا بعدم اقحام الجيش بالسياسة، كونه لكل الوطن وليس لحزب أو توجهات سياسية وعقائدية بعينها)، وأغلق كل المنافذ في وجه كل من يروم رود، هذا النبع أو ذاك. لم يكن النظام السوري (لن نقول البعث لأن النظام امتطي البعث ومن قبل الطائفة في جملة من امتطي) حريصا علي تلك المنابع، فأغلق كل الطرق المؤدية إليها، بل أراد الاستحمام لوحده، وليته لم يفعل. لقد تلوث النبع، واخضرّ ماؤه، وطفحت الاشنات والفطريات من جوفه، (طلائع البعث، اتحاد شبيبة الثورة، الاتحاد الوطني لطلبة سورية..) وعلا نقيق الضفادع، يعلن أنه سيد الموقف. ركدت مياه النبع وعاشت سورية استقرارا لا مثيل له حسب تعابير أهل النظام، واستقرارا يشبه، ركود المقابر، حسب تعبير الدكتور هيثم مناع. لقد استتب الاستقرار للنظام، وكيف لا فلقد وأد المستقبل في مهده، استرخي في كرسيه الوثير الدوار، وأخذ يهزأ بكل أطياف المعارضة، ولا يقيم لها وزنا، يسخر من مفرقعاتها، وبياناتها، وصالوناتها، واعتصاماتها، وكهولها الذين أصبحوا في العمر عتيا. علم أنها معارضة مقطوعة عن مستقبلها، مشدودة إلي الماضي، ولا توسط بين الماضي والمستقبل. أحكم قبضته، استباح الزرع والضرع والطير والبشر. قادنا إلي النهاية الفاجعة. أشعل النار فينا، وجلس غير بعيد يمارس ساديته وطقوسه النيرونية. وتستمر طقوس الاخصاء.... لكن الأرض رغم أنوفهم تدور. يتململ النبع. يتململ طلاب جامعة حلب. ينفضون عن كواهلهم، خدر أربعة عقود. لقد حركتهم طائرات المحتل الأمريكي للعراق الجار والعزيز، ينددون، يتظاهرون، يدخلون في اعتصام مفتوح هذا أقل ما يمكن فعله. تتحول خيمتهم في ساحة الجامعة إلي خلية نحل، يتوازعون المهام، يستقبلون المساعدات والتبرعات للشعب الشقيق، يقيمون الندوات والحوارات، تكتض الخيمة حتي لا تتسع لوافد جديد، الكل عطشي للحوار. لكن العيون المبثوثة والمتربصة تراقب وتسجل ما يجري: هناك خرق للاستقرار المزعوم، يوجد خروج علي النص، حركة الشارع في كل الاتجاهات تلخبط ما رسم وماهو مرسوم. اليوم السادس عشر للاعتصام المفتوح: نفد وعيل صبر النظام، بلغ السيل الزبي، طفح الكيل. تلقي المعتصمون في خيمتهم، رسالة مضمونها (..... انهوا الاعتصام وإلا). من يستطع ايقاف دفق الشباب؟! يعلنونها مجلجلة قوية: لن نوقف اعتصامنا، حتي تعلن الطائرات الأمريكية نهاية غزوتها البربرية، لن نوقف اعتصامنا حتي توقف تلك الطائرات عربدتها وانتهاكها لسماء وأجواء العراق. يشمر الرفاق البعثيون عن زنودهم ويدخلون المعركة (بالطبع ليست ضد الأمريكيين تضامنا مع الشعب العراقي الأعزل..) يقتحمون الخيمة، يقلبون أركانها الأربعة، عاليها /سافلها.. تتناثر علب الدواء التي من المفترض أنها ستذهب إلي الأشقاء العراقيين، ينهالون ضربا ولكما ورفسا علي الطلبة المعتصمين ناعتيهم بأقذر وأحط النعوت (...). ينتهي هنا اعتصام طلاب جامعة حلب الذي استمر ستة عشر يوما تضامنا مع الشعب العراقي الشقيق وتنديدا بتتار العصر الأمريكان، ينتهي نهاية حزينة علي يد حفنة من الرفاق البعثيين، تنفيذا لأوامر حزبية بالتأكيد. لكن النبع يأبي إلا الفوران، ولن يسمح لأحد تلويث زرقته بعد الآن. تتوالي الاحتجاجات والاعتصامات في فترات زمنية ليست متباعدة، والأسباب متعددة وكثيرة: ـ لن نسمح بتدخل الأجهزة الأمنية في جامعتنا. ـ لن نسمح لأحد بتمثيلنا والتحدث باسمنا الا عبر انتخابات ديمقراطية حقيقية بعيدة كل البعد عن المحسوبيات والوصائية وتدخل الأجهزة. لن ولن ولن فلقد بلغنا سن الرشد ونحن نبض الحياة. الأربعاء من شهر شباط عام 2004 يوم حزين آخر يضاف لطلبة جامعة حلب وللديمقراطية التي يحاول النظام السوري وأدها كلما رأي تباشير ولادتها تبزغ من جديد. اعتبرذلك اليوم اليقظة من سبات طويل وبالنسبة للأجهزة هلع وخوف وفزع ينذرها بأن ما زرعته سوف تحصده، وزرع الخوف في عقول وأفئدة السوريين ستحصده هي أشباح وكوابيس مرعبة في يقظتها ومنامها، وان غدا لناظره قريب. في ذلك اليوم تجمع أكثر من أربعمئة طالب وطالبة في ساحة الحرم الجامعي بجامعة حلب وحوالي مئتي طالب خارج أسوار الجامعة معتبرين أن المرسوم رقم / 6/ ينتهك عقدا بين الدولة والطلاب معتبرين أن المشكلة الأساسية ليست صدور القرار بحد ذاته وإنما المشكلة تكمن في آلية صدور هذا القرار الذي غيب أي نقاش علني سواء ضمن المؤسسات الطلابية أو ضمن مؤسسات الدولة كمجلس الشعب ومجلس الوزراء ونقابة المهندسين. واعتبر الطلاب المعتصمون أن هذا المرسوم إنما يعني دخول قطاع كبير من خريجي كليات الهندسة إلي سوق البطالة ويضعهم أمام خيار الهجرة أو التسول علي أبواب مكاتب القطاع الخاص. وكانت لجنة طلابية سمت نفسها لجنة (من اجل كرامة المهندس والمواطن) هي التي دعت إلي ذلك الاعتصام السلمي وطالبت باسم الطلاب بإلغاء المرسوم. لم يعتد نظام (نا) علي مدي عقود أربعة، ارتفاع صوت أحد واعتبر ذلك وقاحة من الطلاب فما كان منه إلا الإيعاز إلي أجهزته لتأديب الطلاب واعتبارهم عبرة لمن اعتبر. تولت الأجهزة الأمنية وبعض من القيادات والطلبة البعثيين المغرر بهم قمع ذلك الاعتصام وتفريق الطلاب وإخراجهم بالقوة إلي خارج الجامعة وفعلوا نفس فعلتهم في الاعتصام المفتوح للتنديد بالغزو الأمريكي علي العراق الشقيق (قدر السوريين أن يناضلوا علي جبهتين وضد استبداديين داخلي وخارجي). اعتدل النظام في كرسيه الدوار ولم يعد في حالة استرخاء بل إن شعر رأسه وقف، فما يجري خارج حدود تصوراته. لقد ظن أنه أتم بنجاح سياسة التدجين وغسيل الأدمغة وأنه نشّف حتي المآقي والعروق وهزم كامل المجتمع. لكن أتضح أن هناك جيوبا مقاومة تقض مضجعه. ما ا لعمل؟! كيف يتعامل معها؟ لغة القمع والسجون أضحت مكشوفة، قبضته تراخت بفعل الزمن، نظامه شاخ، شعاراته الزائفة تآكلت، العالم قرية كونية صغيرة، بفعل ثورة المعلوماتية والاتصالات، فهو إن همّ أو نوي باعتقال سياسي أو حقوقي أو ناشط أو طالب، قامت الدنيا ولن تقعد، والأهم: احتقان وتورم يعتمل في صدور الجميع. ما هي السياسة الرادعة التي تعيد الانتظام وتنسق صفوف القطيع؟ ـ لقد أطلق من جعبته الفارغة الرفاق البعثيين يدوسوا ويضربوا ويفعلوا ويتركوا بالمعتصمين ولكن.. (حل اسعافي). ـ الفصل النهائي لعدد من الطلاب ممن اعتبرهم رأس الفتنة . (ايضا حل اسعافي..). يدرك النظام بأن التورم والاحتقان يلف كافة شرائح وطبقات المجتمع، فماذا هو فاعل؟ القواعد البعثية بحكم الواقع والتجربة وبحسها الوطني، أضحت تدرك أنها مدفوعة وبإصرار لتكون بحسب المثل الشعبي الشائع وجه بهدلة وأن النظام يمتطيها ليس إلا.. اجراءات الفصل والعقوبات من وفي الجامعة بحق الطلاب لردعهم وردع غيرهم، إجراءات أضحت من مخلفات الماضي كما القمع وأنظمة الاستبداد أبشع شواهد ذلك الماضي البغيض. الحل الأمثل هو الاختيار الديمقراطي واحترام الإنسان. فهل هو فاعل؟ طريق العودة إلي البشر، إلي الناس، نسفه النظام وما من طريق يسلك !!! ما أود العروج عليه في نهاية هذا المقال: أسف وعتب علي جميع الفصائل والقوي الديمقراطية السورية المعارضة. ماذا فعلت لأولئك الطلبة وخاصة الذين فصلوا من الجامعة (بعد الانتهاء من كتابة هذا المقال علمت بالاعتقالات التي طالت معظم الطلبة المفصولين)؟ لا شيء بضع بيانات تستنكر وتندد وكفي الله المؤمنين شر القتال. بعض العقول الكلاسيكية في أحزاب المعارضة من ذوي الشعارات الهدارة والتكسب الحزبي راحت تبحث في أحياء حلب وزواريبها عن أولئك الطلبة ليكتبوا لهم طلبات الانتساب. أيها السادة: اتركوا أولئك الطلبة فهم أقدر منكم علي مواجهة الاستبداد. كاتب من سورية
#احمد_مولود_الطيار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق
...
-
محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا
...
-
ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة،
...
-
الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا
...
-
قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك
...
-
روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
-
بيع لحوم الحمير في ليبيا
-
توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب
...
-
بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
-
هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|