|
أسس الحداثة ومعوقاتها في العالم العربي المعاصر (5/5)
عبدالله تركماني
الحوار المتمدن-العدد: 2768 - 2009 / 9 / 13 - 00:51
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ولذا، فإنه ليس من قبيل الترف الفكري الدعوة إلى ضرورة تطوير نسق عربي ديمقراطي مؤسس على مشروعية التعددية وحق الاختلاف، مما يتطلب: (1) - وفاقاً بين السلطات القائمة في أقطارنا العربية وبنى المجتمع المدني لصياغة حل انتقالي تدريجي نحو الديمقراطية، بحيث تتم دمقرطة هياكل السلطة وبنى المجتمع المدني في آن واحد، ضمن إطار توافق على مضمونه ومراحله مجموع القوى والتيارات السياسية والفكرية الأساسية. ويبدو واضحاً أنّ نجاح هذا المسار مرهون بمدى استعداد السلطات العربية لترشيد بنائها على أسس عقلانية وديمقراطية. (2) - استحضار الخريطة الاجتماعية العربية للتعرف على مدى قدرة المجتمعات العربية على استيعاب القيم الديمقراطية وفسح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني. وذلك لأنّ أغلبية النخب السياسية العربية تخشى الديمقراطية الحقيقية، وتتخوف من نتائجها، بسبب كون علاقاتها بجسم هذه المجتمعات لا تمر عبر قنوات ومنظمات المجتمع المدني التي تجعل في الإمكان احترام قواعد الممارسة الديمقراطية. (3) - إنّ الديمقراطية عملية مستمرة، تتضمن معاني التعلم والتدريب والتراكم، ولذلك فإنّ أفضل طريق لتدعيم الديمقراطية هو ممارسة المزيد من الديمقراطية. كما أنها ليست عملية قائمة بذاتها، بل لها متطلباتها وشروطها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والمؤسسية. ولذلك فإنّ العبرة ليست بتحقيق التحول الديمقراطي فحسب، ولكن توفير ضمانات استمراره وعدم التراجع عنه. وذلك بتجذيره في البنى السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للمجتمع. كما أنّ الديمقراطية ليست نظاماً بلا أخطاء أو بلا مشكلات، بل لها مشكلاتها حتى في الديمقراطيات العريقة، وهنا تبرز أهمية القدرة على تطوير أساليب وآليات فعالة لتصحيح مسارات التطور الديمقراطي. وبغض النظر عن المعاني المتعددة لمفهوم الديمقراطية، فإنّ المفهوم يدور بصفة أساسية حول ثلاثة أبعاد رئيسية: توفير ضمانات احترام حقوق الإنسان، واحترام مبدأ تداول السلطة طبقا للإرادة الشعبية، والقبول بالتعدد السياسي والفكري. إنّ إعادة اكتشاف الديموقراطية اليوم يعيدنا أولاً إلى إعادة اكتشاف مفهوم المواطن من خلال استحضار مجموعة من الأبعاد التي يحيل إليها هذا المفهوم: (1) - البعد الإنساني : فالمواطن ليس فرداً فحسب، إنه المواطن – الإنسان، فالمفهوم الحقوقي يحيلنا بالضرورة إلى مفهوم أوسع: مفهوم حقوق الإنسان القابل دائماً للتجريد والتعميم، وبالتالي للتطوير كلما برزت عقبة في وجه المساواة والعدالة في مجتمع من المجتمعات. هذا البعد الإنساني، يتطلب نظرة ثقافية وتربوية تقوم بشكل أساسي على التسامح وتعلّم قبول الآخر والتعامل معه بذهنية أخوة المواطنة وأخوة الإنسانية معا. ولكي ندخل هذا الخلق في مسلكيات المواطن العربي، تبرز أهمية شروط التنشئة الوطنية الإنسانية التي تفترض استيعاب المناهج النقدية في الدراسات الإنسانية: نقد العنصرية والتمييز على اختلاف أشكاله، ونقد العقلية الخرافية، والتعريف بأسباب المسلكيات اللاعقلانية ... الخ (2) - البعد التنموي البشري: الذي يحيل بدوره إلى حلقات مترابطة في معاني المفهوم الجديد للتنمية وشروطه: - تنمية وعي المواطن السياسي كإنسان مسؤول للمشاركة في الحياة السياسية. - تنمية حس النقد والبحث عن الحقيقة ليكون الخيار والرأي عقلانيان. - اعتبار مستوى التعليم ومستوى الصحة ومستوى الوعي البيئي ومستوى المشاركة معايير أساسية في درجات التنمية. كل هذه الأمور شكلت رافعات جديدة للوعي بأهمية المواطن إنساناً فاعلاً في السياسة والثقافة والتنمية معا . (3) - البعد العالمي للمواطنة: ليس المقصود بالبعد العالمي للمواطنة القول بـ " المواطنية العالمية "، وكأنها استجابة للنزوع الذي تنحو نحوه العولمة اليوم، ولا الاعتقاد بالفكرة الداعية إلى توحيد العالم في ظل حكومة عالمية. فثمة من يدعو اليوم إلى إعادة تأسيس مجال المواطنة وثقافتها بعد أن شابها، في مرحلة ازدهار دور الدولة القومية، مشاعر قومية، وأحيانا شوفينية وعنصرية كان لها دورها التسعيري في حربين عالميتين. بل أنّ هذه المشاعر الشوفينية والعنصرية عادت فتفاقمت بعد أن حولت العولمة الاقتصادية والإعلامية المواطن إلى مستهلك شره، وحولت المنطق السياسي إلى منطق سوق، فاستنفرت الهويات الذاتية في مواجهة الهويات المغايرة حتى في الوطن الواحد ولدى المواطنية الواحدة بذريعة البحث عمن يحمل مسؤولية الأزمات الاجتماعية والضائقة الاقتصادية. إنها حركة تعمل على إعادة تركيب العالم بمواطنة في مجتمع ديموقراطي يسعى إلى المزيد من تنوعه، لا إلى المزيد من شموليته ووحدته، وكما كان الأمر في مرحلة بناء الدولة القومية أو في مرحلة حركات التحرر الوطني. هذا جانب من جوانب البعد العالمي لمواطنة أضحى عليها أن تستوعب اختلافاً قريباً أو بعيداً عنها، ولكن محيطاً بها بصورة دائمة، لا بفعل انعدام المسافات فحسب، بل بسبب حضور هذا الاختلاف في العيش والحياة اليومية. العرب وما بعد الحداثة غدت قضية الحداثة وما بعدها مسألة سجالية لم تزل الثقافة العربية منشغلة بها انشغالاً ساذجاً، وكثيراً ما تحمّل ظواهر فكرية معاصرة في حياة الغرب بأكثر مما يمكن تحمّله سياسياً من قبل البعض من كتابنا العرب. أما " ما بعد الحداثة "، فقد عكس نوعاً من تأزم الحداثة نفسها وقام على ثلاث ركائز: الوعي بالذات بتحريرها، وتجاوز أكذوبة المركزية وعقلها التسلطي، والتحول من معقولية التوحيد إلى معقولية التنوع. لقد شهدت كتابات " ما بعد الحداثة " انتشاراً واسعاً في الثقافة العربية خلال العقد الأخير، واتخذت أشكالاً متعددة ومتمايزة، منها: البحوث المستقبلية المبشرة بحضارة " ما بعد الحداثة "، لا في شكل نقدي، وإنما من منظور رصد التحولات في مستويات إدارة المجتمعات وبلورة القيم وضبط المعارف، وصولاً إلى تأكيد حالة القطيعة بين الموجة الجديدة وحقبة الحداثة بكل عناصر مناخها الفكري والمجتمعي. وهنا سنكتفي بسؤال نعتقده الأساس والمحوري في استكناه دلالة ومرجعية انتشار كتابات " ما بعد الحداثة " في سياقنا العربي وهو: إلى أي حد تعبر هذه الكتابات عن حاجة موضوعية في ثقافتنا وأرضيتنا المجتمعية والفكرية، وما هو بالتالي الفرق بين عوامل نشأتها في تربتها الأصلية وظروف بروزها في خطابنا الفكري ؟ إذ من الواضح لنا، أنه إذا كانت كتابات " ما بعد الحداثة " في السياق الغربي، لا تنفصل عن تصدعات ديناميكية الحداثة ذاتها، حتى ولو اتخذت أحياناً طابعاً نقدياً تجاوزياً أو عدمياً، فإنها في الفضاء العربي تعبر عن موقف مغاير هو العجز عن ولوج هذه الديناميكية، والإخفاق في بلوغ مرامي التحديث التي تأسس عليها المشروع النهضوي العربي. وهكذا، فإنّ المراحل المقبلة من حياتنا العربية تتطلب منا جميعا الكثير والكثير، فمسؤولية التحديث والحداثة ليست مسؤولية الدولة وحدها بل مسؤولية الدولة والمواطنين في وقت واحد، والمرأة والرجل دون تمييز ولا أفضلية، فهي مسؤولية مجتمع يحتاج إلى تغيير في المفاهيم الاجتماعية، وتطوير للقيم السلوكية، وإصلاح للممارسة السياسية، وتثوير للمجالات العلمية والثقافية والإعلامية. إنّ المستقبل يدعونا إليه، ويدفعنا نحو آفاق تطوره التي لا حدود لتقدمها، ولا سبيل أمامنا سوى أن نستجيب إلى نداء المستقبل، فالمستقبل هو الحياة الواعدة والنكوص عنها جريمة لا يمكن أن يقترفها عاقل في زمن تغيّر كل شيء فيه. وفي هذا السياق، نطرح الأسئلة الآتية: هل تطور أي مجتمع من المجتمعات يمكن أن يحصل من دون تأثيرات خارجية ؟ وهل من طريق عربية للإصلاح والحداثة ؟ في كل الأحوال، يجب أن نعترف بأنّ دول المنطقة العربية بحاجة ماسة إلى التطور في اتجاه ديمقراطي حقيقي. لكن لابد من التأكيد، في الوقت نفسه، على أنّ الديمقراطية لا يمكن أن تكون مجرد وصفة مستوردة من الخارج، وإنما هي – أساساً - فعل محلي داخلي وطني وتفاعلات ونضالات شعبية. إذ يبدو واضحاً أنّ المسألة الديمقراطية في نظر الولايات المتحدة الأمريكية هي عبارة عن " أداة " من أدوات السياسة الخارجية، فمثلما تستخدم المعونات في دعم الأنظمة والدول من أجل خدمة مصالحها كذلك تستخدم هذا الشعار تبعاً لمدى قرب أو بعد النظام المعني من السياسة والمصالح الأمريكية، إذن نحن أمام حالة تتعلق بالمصالح والاستراتيجيات الأمريكية. باختصار يدور الأمر حول وحدة معركة الحرية: استقلال الوطن وحرية المواطن والإنسان، التحرر من السيطرة الخارجية لا كبديل عن الحرية السياسية والثقافية وحقوق الإنسان، بل كأفضل شرط لتحقيقها. فبكل بساطة لا يمكن للشعوب أن تدافع عن سلطات دول تجوّعها وتحاصرها وتساومها حتى على حقها في مناقشة الشؤون العامة. ولكن، فلنجرؤ على توكيد وجود أخلاقية كونية، هي تلك التي ألهمت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948. فعلى العكس من مزاعم أعداء الحرية والأصوليين من كل حدب وصوب، ليست هذه الأخلاقية نموذجاً غربياً، بل إنها ميزة إنسانية. وهي ميزة كل الشعوب، وكل الأمم، وكل الديانات. لذا يجب علينا، أكثر من أي وقت مضى، أن نعمل على حمايتها وإحيائها وأن نكون على مستوى قيمتها الكونية. والتوكيد على هذه الكونية يعني التشديد على التضامن الذي يوحد كل الناس، كما يعني البحث في كل ثقافة عن تعبيرات مثال أعلى مشترك، ويعني الإقرار بأنّ الحقيقة يمكن أن تعبر عن نفسها بعدد لا متناهٍ من اللغات. ليس ثمة أي تناقض بين الأخلاقية الكونية وتنوع الثقافات، لأنّ احترام هذا التنوع هو من صلب هذه الإنسانية التي ننادي بها ونتمناها. إنّ انخراط العرب في العالم المعاصر يتطلب منهم البحث عن مضمون جديد لحركتهم القومية التحررية، بما يؤهلهم لـ " التكيّف الإيجابي " مع معطيات هذا العالم، وبالتالي الانخراط في مقتضياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يقلل من الخسائر التي عليهم أن يدفعوها نتيجة فواتهم التاريخي، لريثما تتوفر شروط عامة للتحرر في المستقبل. فالعرب ليسوا المبدأ والمركز والغاية والنهاية، هم أمة من جملة أمم وثقافات، لا يمكن أن ينعزلوا عن تأثيرات وتطورات العالم الذي يعيشون فيه. ومن أجل ذلك، تبدو الديمقراطية في رأس أولويات التجديد العربي، فمسألة التقدم العربي تستدعي مقولات جديدة: المجتمع المدني، الديمقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة. وتبدو أهمية ذلك إذا أدركنا أننا، بشكل عام، لا نملك لغة سياسية حديثة، منظمة وممأسسة، في بنانا السياسية والثقافية، إذ بقينا خارج تسلسل وتاريخ الأحداث، فماضينا مازال ملقى على هامش حاضرنا، بل يهدد مستقبلنا.
#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسس الحداثة ومعوقاتها في العالم العربي المعاصر (4/5)
-
أسس الحداثة ومعوقاتها في العالم العربي المعاصر (3/5)
-
أسس الحداثة ومعوقاتها في العالم العربي المعاصر (2/5)
-
أسس الحداثة ومعوقاتها في العالم العربي المعاصر (1/5)
-
أصول إشكاليات الحالة العربية في التاريخ المعاصر وآفاق تطورها
...
-
أصول إشكاليات الحالة العربية في التاريخ المعاصر وآفاق تطورها
...
-
أصول إشكاليات الحالة العربية في التاريخ المعاصر وآفاق تطورها
...
-
في الدولة الأمنية
-
في الثقافة السياسية
-
العلمانية المؤمنة ضمانة للتقدم العربي
-
تحديات الأمن الإنساني في العالم العربي
-
نحو تجديد الثقافة السياسية العربية
-
عبثية الانقسام الفلسطيني
-
هل تعود الشرعية الديمقراطية إلى موريتانيا ؟
-
العراق على طريق الاستقلال
-
خصائص الإسلام السياسي الديمقراطي
-
ما الجديد في خطاب - حماس - ؟
-
إيران .. إلى أين ؟
-
التنشئة السياسية وأدواتها
-
نحو تصويب العلاقات العربية - الأمريكية
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|