أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد زكرياء - المرحلة الاشتراكية















المزيد.....


المرحلة الاشتراكية


فؤاد زكرياء

الحوار المتمدن-العدد: 2767 - 2009 / 9 / 12 - 11:37
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


كتبه: د. فؤاد زكرياء
المصدر : "آفاق فلسفية" الباب الأول ص9-71
العنوان الأصلي : "الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية"
الناشر : مكتبة مصر - دار مصر للطباعة
نسخ الكتروني: وجدي حمدي (أبريل-مايو 2005)

ظهرت الفكرة الاشتراكية، في صورتها المحدَّدة المعالم، من قلب الرأسمالية، بوصفها رد فعل على ذلك النظام الذي ظن الناس في وقت ما أنه سيجلب لهم مزيدا من الرخاء، فإذا به يصيب الأغلبية الساحقة منهم بالفقر والشقاء، ويصيب الإنسان بأنواع من العبودية ربما كانت أشد مما كان يعانيه في كثير من مراحل التطور الاجتماعي السابقة. ولما كانت الاشتراكية قد ظهرت بهدف نقل المجتمع الإنساني إلى مرحلة جديدة يتخلص فيها من نقائص المرحلة الرأسمالية، فإن قدرا كبيرا من الجوانب الإيجابية في المرحلة الاشتراكية يمكن التوصل إليه، استنتاجا، مما قلناه من قبل عن المرحلة الرأسمالية.

والواقع أننا أطلنا الكلام عن المرحلة الرأسمالية لسببن: أولهما أن هذه المرحلة، التي لا يزال يمر بها جزء لا يستهان به من العالم، تمثل تحديا أمام المجتمعات التي قررت أن تسير في الطريق الاشتراكي، ولا بد من معرفة نقاط القوة والضعف فيها معرفة كاملة حتى تبدأ هذه المجتمعات مسيرتها وهي على علم تام بكل ما لدى الخصم الذي تحاربه من إيجابيات وسلبيات. أما السبب الثاني فهو أن الرأسمالية مرحلة اكتملت بالفعل، ومرت بأطوار متعددة حتى وصلت إلى شكلها الحالي الذي لا ينتظر أن تطرأ عليه تغييرات كبيرة في المستقبل. صحيح أن الرأسمالية تحاول في المجتمعات المتقدمة صناعيا أن تقاوم التيار الاشتراكي عن طريق اقتباس عناصر كثيرة منه، ولكنها تحارب في الوقت الراهن معاركها الأخيرة، ولا ينتظر منها أن تمر بتطورات مفاجئة غير متوقعة في المستقبل. أما الاشتراكية فما زالت، بالرغم من نجاحها السريع، تمر بمرحلة التجارب، والدليل على ذلك كثرة المذاهب والاتجاهات وتعدد التطبيقات فيما بين البلاد الاشتراكية المختلفة. ولذلك فإن الحكم على المرحلة الرأسمالية أيسر، لأن عيوبها ظهرت واضحة للجميع، أما تحديد المعالم الإيجابية للاشتراكية فيبدو أمرا أكثر صعوبة، لأن هذه المعالم بسبيل التجدد والتشكل في المرحلة الراهنة من تاريخ العالم.

ولقد كانت نقطة البدء في التفكير الاشتراكي هي محاولة استرداد القيم الإنسانية التي أهدرها النظام الرأسمالي. وكان لهذا الإهدار مظاهر متعددة، تحدثنا من قبل عن الكثير منها. ولكن هناك مظهرا لم نتحدث عنه بعد، وتعمدنا أن نستبقيه حتى المرحلة الراهنة، نظرا لارتباطه الوثيق بظهور الاشتراكية – وأعني به ما يسمى في الفكر الاجتماعي والفلسفي "بالاغتراب"



فكرة الاغتراب:

كان "الاغتراب"، ولا يزال، ملازما للرأسمالية منذ بداية عهدها. فحين اكتسبت النقود، في أول العصر الرأسمالي، كيانا قائما بذاته، مستقلا عن السلع التي كانت في الأصل مساوية لها، وحين أصبحت قادرة على النمو بذاتها، وعلى التوالد والتزايد، بغض النظر عن العمل الإنساني الذي كان في الأصل منتج كل قيمة – عندئذ أصبحت النقود تجسيدا لحقيقة الاغتراب. ذلك لأن قدرة النقود على التزايد بذاتها، وقدرة رأس المال على التوالد، تعني الانفصال بين القيمة – التي تمثلها النقود – وبين الجهد الإنساني الذي يُبذل من أجل اكتسابها، وتعني أن الاقتصاد قد أحدث انشقاقا بين الإنسان من حيث هو منتج للقيمة، وبين نتاج عمله، بحيث أصبح هذا النتاج يتخذ طابعا تجريديا منقطع الصلة بالمصدر الذي نبع منه. وهذا الانشقاق والانفصال هو الحقيقة المعنوية الكبرى المميزة للمرحلة الرأسمالية.

1– فحين بلغت هذه المرحلة أوج اكتمالها، كانت أولى الخصائص التي تنبّه إليها نقاد النظام الرأسمالي هي خاصية الاغتراب هذه، التي اتخذت في عصر التصنيع طابع الانفصال بين العامل من جهة، وبين وسائل إنتاجه وحصيلة هذا الإنتاج من جهة أخرى. فالعامل يشتغل في مصنع لا يملك منه شيئا، وهو لا يستطيع أن يحصل على قوت يومه إلا بأن يشتغل أجيرا لدى من يملك تلك الآلات والأدوات التي بها وحدها يستطيع أن يكون منتجا. أي أن العامل مغترب عن الوسائل التي بدونها لا يكون عاملا. ومن جهة أخرى فإن حصيلة إنتاج العامل تسير في مسالك لا يعلم عنها شيئا. فالسلع التي ينتجها العامل تذهب إلى "السوق" – تلك الحقيقة الكبرى في العالم الرأسمالي، التي هي مع ذلك حقيقة غامضة مجهولة لا يعرف أحد كيف يُتحكم فيها. فالسوق قوة تجريدية تتحكم في كل ما ينتجه العامل دون أن تكون له أية صلة بما يدور فيه. وهنا أيضا نجد العامل مغتربا عما ينتجه، ونجد العمل الذي يفني عمره فيه يضيع بين أيد لا يعرفها، ويتبدد وسط قوى مجهولة لا يدري عنها شيئا.

2– إن الاغتراب هو فقدان العنصر الإنساني في المعاملات الرأسمالية، وهو اقتلاع الإنسان من جذوره في المجتمع الذي لا تحكمه غاية سوى تحصيل المزيد من الربح. وهذا الاغتراب لا يقتصر على العامل وحده، بل إن المنافسة الحامية، التي تسود الاقتصاد الرأسمالي، تباعد ما بين البشر، وتنشر العداوة، وتجعل العلاقات بينهم مفتقرة إلى الروح الإنسانية. وحتى لو أراد الرأسمالي أن يكون إنسانيا في معاملاته، فانه لا يملك ذلك، لان قوانين المنافسة هي التي تملي عليه طريقة معاملته للعمال، ومقدار الأجر الذي يدفعه لهم، وساعات عملهم، وهي التي تحدد طبيعة علاقاته مع غيره من الرأسماليين الذين ينافسونه في ميدان إنتاجه الخاص. فهو ليس حرا في معاملاته، بل إن هناك ما يشبه القدر الذي لا يرحم، والضرورة المحتومة، التي تتحكم في تصرفاته. ذلك لأن رأس المال، كما قلنا من قبل، يختنق إذا لم يتوسع، والتوسع يقتضي عمل حساب قوانين المنافسة.

والواقع أن الرأسمالي ذاته يغترب عن نفسه، بمعنى ما. ذلك لأن عمله كما قلنا من قبل، يتخذ صبغة مستقلة عنه، بحيث يصبح هدفه الوحيد في الحياة هو أن تزداد أعماله توسعا وازدهارا، دون أن تعود نتيجة هذا التوسع عليه هو ذاته بفائدة ملموسة: فكثيرا ما تتدهور صحته وتسوء علاقاته بالناس وتتحطم أعصابه وتتخذ حياته طابع التوتر الدائم نتيجة لطموحه الزائد عن الحد. وهكذا يصبح التوسع في الأعمال أشبه ما يكون بقوة خارجة عنه، تملي عليه شروطها وتفرض عليه قانونها الخاص.

3– وأخيرا، فإن المستهلك بدوره مغترب عن نفسه في المجتمع الرأسمالي. ذلك لأن النظام لا يعمل على إشباع حاجات الإنسان الحقيقية، وإنما يخلق حاجات زائفة، الهدف الوحيد منها أن تكون مجالا لمزيد الربح والتوسع، ولكن على حساب تكامل الشخصية الإنسانية وتوازنها، وعلى حساب الاستخدام الرشيد لموارد المجتمع. فالمفروض أن يكون الإنتاج تلبية لحاجات موجودة بالفعل، ولكن كثيرا ما يحدث في المجتمع الرأسمالي أن يكون الإنتاج هو الأصل، وأن تظهر الحاجات فيما بعد، لا لشيء إلا لتصريف هذا الإنتاج فحسب. وهكذا يعمل الإعلان على إقناع الناس بأمور تافهة تتحول لديهم بالتدرج إلى ضرورات، مع أنها في الأصل لا تلبي أية حاجة حقيقية لديهم: ففي البلاد الرأسمالية الكبرى تصرف الملايين على أنواع متعددة متنافسة من "أكل الكلاب"، وعلى السيارات الفاخرة التي يحتاج الإنسان فعلا إلى ربع الطاقة التي تسير بها، والتي يتغير طرازها عاما بعد عام. ويستعين الإعلان بأحدث أساليب البحث النفسي ليبث في الناس اقتناعا زائفا بأن قيمتهم في المجتمع يحددها طراز السيارة التي يركبونها، وبأن ضخامة السيارة واتساعها وزيادة طاقة محركها علامة من علامات علو المكانة. وهكذا تفسد طباع الناس، وتُخلق فيهم عادات سلوكية سطحية تافهة، ويعتادون بالتدرج التعلق بالمظهر السطحي بدلا من الجوهر الحقيقي، وتُفرض عليهم حاجات مزيفة تنطوي على تبديد للموارد المادية، فضلا عن تحطيم المبادئ المعنوية، لا لشيء إلا لغرض الربح. وحين تسود على هذا النحو عقلية الاستهلاك لأجل الاستهلاك، لا من أجل تلبية حاجات حقيقية، وتحقيق ماهية الإنسان، فعندئذ يكون المستهلك بدوره قد اغترب عن ذاته، لأنه لم يعد يعرف ما هو في حاجة إليه من أجل استكمال إنسانيته، ولأن المطالب العرضية الزائفة أصبحت لها الغلبة على مطالبه الجوهرية – كل ذلك لكي يستطيع رأس المال أن يواصل توسعه، ولكي تستمر أرباحه في التدفق.

وهكذا يبدو الاغتراب منتميا إلى صميم الكيان الرأسمالي ذاته، ويصبح هو الوضع المميز للعامل إزاء وسائل إنتاجه وحصيلة عمله، وللرأسمالي إزاء عماله ومنافسيه، بل وإزاء ذاته، وللمستهلك إزاء حاجاته ومطالبه الإنسانية. إنه هو التعبير الصادق عن الوضع الإنساني في ذلك المجتمع، ومن المستحيل مواجهة هذا الوضع مواجهة حاسمة إلا بالخروج على النظام الرأسمالي نفسه.



الاشتراكية نزعة إنسانية:

كانت تلك نقطة بداية كثير من المذاهب الاشتراكية في دعوتها إلى ضرورة القضاء على النظام الرأسمالي، الذي يجعل الإنسان عبدا لنفس القوى التي خلقها بيديه. فالاشتراكية تدعو الإنسان إلى السيطرة مرة أخرى على القوى التي أصبحت مسيطرة عليه، خارجة على إرادته. وهي تطالب بإعادة هذه القوى مرة أخرى إلى الإنسان، بدلا من تبديدها وتشتيتها خارجا عنه. وعلى هذا الأساس تكون الاشتراكية في صميمها نزعة إنسانية، هدفها أن تستعيد الإنسان المتكامل، الذي يجمع كل ما فرّقته الرأسمالية من شتات، ويعيد ضمها إلى ذاته.

ومن هذه الزاوية تبدو المرحلة الاشتراكية سعيا إلى تحقيق جميع الإمكانات المادية والمعنوية للإنسان. وهي حين تفعل ذلك لا تستهدف التقدم المادي وحده على حساب التقدم المعنوي. ذلك لأننا لو قسنا المراحل المختلفة بمقياس ما أحرزته من تقدم مادي، فإن المرحلة الرأسمالية ستحتلّ، دون شك، مكانة هامة في تاريخ الإنسانية، لأن البشرية حققت فيها مكاسب مادية لا يمكن إنكارها. ومع ذلك فإن هذه المكاسب كانت تتم في كثير من الأحيان على حساب معنويات الإنسان وأخلاقياته.

فحين نستعرض أسباب النجاح الاقتصادي للرأسمالية، يجب ألا يغيب عن أذهاننا أنها لم تقتصر على استغلال الموارد الاقتصادية لأوروبا الغربية وقارتي أمريكا، وهي مناطق حافلة بالموارد الطبيعية الغنية، التي لم تكن قد استغلت بعد في حالة أمريكا بالذات، بل أنها قد استفادت أيضا، بفضل الاستعمار المباشر والاستغلال الاقتصادي، من موارد العالم بأكمله، وذلك بوسائل هي أبعد ما تكون عن التبادل النزيه. ففي الحالات التي لم يكن فيها الاستغلال استعماريا مباشرا يستنزف موارد شعب واقع تحت قبضة الاستعمار، كان الغش والاغتصاب هو القاعدة التي يتم على أساسها التبادل، وكانت المعاملات بين الدولة الرأسمالية والدول الأضعف بعيدة كل البعد عن التكافؤ. في مثل هذه الحالات لا يكون من المستغرب أن تحرز الدولة الاستعمارية والاستغلالية تقدما اقتصاديا سريعا، ولا ينبغي أن يعزى هذا التقدم إلى فضيلة كامنة في نظامها الرأسمالي، بل إن سببه الأهم هو أنها لا تتورع عن الالتجاء إلى أبعد الطرق عن الشرف في سبيل التفوق على الغير. ولقد أشار أحد زعماء الزنوج في أمريكا ذات مرة إلى التقدم الاقتصادي الهائل لبلاده، فأرجعه إلى عوامل من أهمها استغلال عمل الملايين من الزنوج، لمدة عشرات بل مئات من السنين، بلا أجر، حين كان الزنوج عبيدا، وبأجر أسمى زهيد، بعد أن تحرروا شكليا من حالة العبودية، وتساءل في هذا الصدد: هل من المستغرب، إذا وجد تاجران أحدهما لا يدفع لعماله أجورا، والآخر يدفع لهم أجورهم بانتظام، أن يتفوق الأول على حساب الثاني ؟

هذه مدرك مثل بسيط يوضح سببا من أسباب التقدم في المرحلة الرأسمالية، ولكنه في الوقت ذاته يكشف عن ضخامة المسئولية الملقاة على عاتق النظام الاشتراكي. ذلك لأن على هذا النظام أن يحقق، بوسائل نزيهة يقضي فيها على استغلال الإنسان للإنسان، تقدما يفوق ما أحرزته الرأسمالية بوسائل سهلة تفتقر إلى النزاهة. فالتحدي الأكبر الذي يواجه النظام الاشتراكي ليس مجرد التقدم، وإنما هو بلوغ التقدم في ظل علاقات إنسانية سليمة.



القيم الإيجابية في النظام الاشتراكي:

1– إن الاشتراكية تتخلص من روح المقامرة التي تسود النظام الرأسمالي، حيث تنتشر المضاربة في الأسهم سعيا وراء ربح لا يقابله أي عمل ومجهود، بل إن أقصى ما يمكن أن يكون قد بذل فيه من جهد هو استخدام ذكاء المقامر. وهي تسعى إلى القضاء على الانفصال بين رأس المال وبين العمل المنتَج، وذلك حين تجعل الملكية وظيفة اجتماعية بحيث يشعر كل من يعمل بأن له فيها نصيبا. وتقوم الاشتراكية على إدراك صحيح لقيمة العمل، ومن هنا فإنها تحاول بقدر طاقتها أن تجعل لكل فرد في المجتمع مستوى يعادل مقدار الجهد الذي يبذله ذلك الفرد في خدمة المجتمع. ويترتب على ذلك أن تستغني الاشتراكية عن الطفيليات الاجتماعية التي تعيش على عمل الآخرين، وعن أولئك "العاطلين بالوراثة" الذين لا فضل لهم سوى انتمائهم إلى أسر من مستوى اجتماعي معين.

2– وبالمثل فإن الاشتراكية، في سعيها إلى التقدم، لا تعمل على خلق حاجات زائفة لدى جمهور المستهلكين من أجل توسيع دائرة النشاط الاقتصادي في مجال ما. ذلك لأن ما يحدث في المجتمع الرأسمالي من إصرار على التوسع لأجل التوسع، يمكن أن يؤدي إلى اختلال هائل في توازن الحاجات الاجتماعية، بحيث يتوقف مقدار نجاح أي مرفق اقتصادي على قدرته على الدعاية لنفسه واجتذاب العملاء، لا على تلبيته لحاجات حقيقية في المجتمع. وهكذا تزدهر صناعة أدوات الزينة، مثلا، ازدهارا هائلا، وتتعدد أنواع هذه الأدوات بلا مبرر، لأن أجهزة الدعاية تنجح في خلق طلب زائف على كل نوع جديد تبتدعه هذه الصناعة منها. أما في النظام الاشتراكي فإن الحاجة إلى سلعة كهذه تقاس بالحاجة إلى سلع أخرى أكثر حيوية –كالكتاب مثل – وتعطى كل سلعة ما تستحقه من جهد واهتمام تبعا لحاجة المجتمع الحقيقية إليها.

وهكذا يظهر مبدأ التخطيط في المجتمع الاشتراكي بوصفه وسيلة لتحقيق التوازن بين حاجات المجتمع وبين ما يستطيع أن ينفقه على هذه الحاجات من موارد. فالتخطيط في أساسه جهد يبذل من أجل التخلص من فوضى الإنتاج، ومن أجل تحقيق النظرة الشاملة إلى موارد المجتمع وتوزيعها، حسب الأولويات، على مطالبه وحاجاته. ومثل هذه النظرة الشاملة يستحيل أن تتحقق في المجتمع الرأسمالي، الذي تسعى فيه كل صناعة، وكل شركة، إلى نفعها الخاص، وحتى ولو كان ذلك على حساب الآخرين. ومن الواضح أن لمبدأ التخطيط في المجتمع الاشتراكي قيمة معنوية كبرى، إلى جانب قيمته المادية. فهو من جهة يساعد على ترشيد الإنتاج في المجتمع على النحو الذي يضمن له نموا متوازنا لا يطغى فيه جانب على جانب إلا بمقدار ما يلبّي من حاجات حقيقية للمجتمع. وهو من جهة أخرى يساعد على انتشار مبادئ معنوية لا غناء عنها لكل مجتمع يسعى إلى تقدم حقيقي: كمبدأ النظرة الكلية إلى الأمور، بدلا من النظرة الجزئية، والبحث عن نفع المجتمع ككل بدلا من نفع قطاعات معينة منه، والتخلص من أنانية الأجيال عن طريق التخطيط للمستقبل القريب والبعيد.

3– ومن هنا كانت الاشتراكية هي وحدها المرحلة التي تتحقق فيها للإنسان حريته الحقيقية. ومن الضروري أن نفرق في هذا الصدد بين الحرية الحقيقية والحرية الوهمية: ذلك لأن أنصار الرأسمالية هم أكثر الناس حديثا عن الحرية وتشدقا بها، حتى لقد وصل بهم الأمر إلى حد تسمية العالم الذي يطبق فيه نظامهم باسم "العالم الحر". وبالفعل كان الاقتصاد الرأسمالي منذ بداية عهده، ولا يزال حتى الآن، يسمي نفسه باسم الاقتصاد الحر، وكان ازدهار الرأسمالية مرتبطا بفهم معين للحرية، هو حرية الأعمال التي لم يكن من المشروع التدخل في مسارها لأنها – كما يعتقد – تنظم نفسها وفقا لمقتضيات السوق، ووفقا لمصالح المنتج والمستهلك في نهاية الأمر.

على أن هذه الحرية التي ساعدت الرأسمالية على توطيد مركزها في بداية عهدها، سرعان ما تكشّف وجهها الحقيقي، فإذا بها عبودية لمعظم طبقات المجتمع. ذلك لأنك تستطيع أن تقيم علاقة مع صاحب العمل القوي والعامل الضعيف على أساس من "الحرية" ولكن لمن ستكون الحرية في هذه الحالة ؟ لا جدال في أن عدم التناسب في القوة بين الاثنين، واحتياج العامل إلى صاحب العمل لكي يضمن عيشه، سيجعل مثل هذه الحرية في التعامل بينهما وسيلة لاضطهاد الأول للثاني. وفي هذه الحالة لا يعد تدخل الدولة لحماية العامل حدا من الحرية، بل إنه إقرار وتأكيد لها.

مثل هذا يقال عن سائر "الحريات" المشهورة في العالم الرأسمالي. فحرية الصحافة شيء رائع دون شك، ولكن أين صحافة البلاد الرأسمالية من الحرية ؟ إن اعتمادها على الإعلان، الذي تتحكم فيه المؤسسات الرأسمالية الكبرى، يجعلها ألعوبة في يد نفس القوى التي تدعى أنها حرة إزاءها. أما الصحافة التي تتسم بقدر من الحرية يتيح لها أن توجه النقد إلى الأسس التي يقوم عليها النظام القائم، فإن الأموال تقبض عنها إلى أن تفلس، وتصدر بصورة لا تسمح بقراءتها إلا لعدد محدود جدا من القراء. ومثل هذا يقال عن حرية التعاقد بين العامل وصاحب العمل، إذ أن هذه حرية شكلية لا أساس لها في الواقع، الذي يكون فيه مركز العامل من الضعف بحيث لا يستطيع على الإطلاق أن يقف ندّا لصاحب العمل في عملية التعاقد، مما يضطر العمال إلى التجمع في اتحادات تقوي مركزهم على المساومة، وقد يلجأون – إذا أعيتهم الحيل – إلى إضرابات طويلة الأمد، تعود على معيشتهم اليومية بأضرار لا يستهان بها. أما حرية تكوين الأحزاب، فإنها في الدول الرأسمالية الكبرى أشبه ما تكون بلعبة مسلية تتغير فيها الوجوه دون أن يطرأ على السياسة ذاتها أي تغيير حقيقي. والمثل الواضح لذلك هو الحزبان الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة، وهما الحزبان اللذان لا يستطيع أقطابهما ذاتهم أن يضعوا حدا فاصلا واضحا بين اتجاهاتهما السياسية. ومثل هذا يقال عن حزبي العمال والمحافظين في بريطانيا. وأخيرا، فإنّا نسمع في العالم الرأسمالي عن حرية المنافسة، بوصفها فضيلة من فضائل ذلك النظام، ولكن تجربة التاريخ أثبتت أن المنافسة تتحول في الدول الرأسمالية الكبرى إلى احتكار يؤدي إلى تنظيم العلاقات بين المنتجين على حساب جمهور المستهلكين.

مثل هذه الحرية الشكلية ليست هي الهدف الذي يسعى إليه النظام الاشتراكي. فهذا النظام يحاول أن يكفل للإنسان حرية حقيقية، تنبع من الجذور، لا حرية تطفو على السطح. وهو حين لا يترك لشخص واحد، ومجموعة من الأشخاص، حرية التحكم في وسائل الإنتاج الاقتصادي، يضمن بذلك تحرر الجماهير العريضة من طغيان رأس المال، ويرسي الأساس الحقيقي لسائر أنواع الحريات. صحيح أن هذه الحريات قد لا تكون صارخة كتلك التي يتشدق بها دعاة الحرية الليبرالية، ولكنها مع ذلك حريات حقيقية تستمتع بها الغالبية العظمى من المواطنين. فحرية الكلمة تصبح عندئذ بحثا وراء الحقيقة، وحين تصبح الحقائق في متناول أيدي الجميع فإنها تحررهم من الأوهام والأكاذيب والتضليل، ومن التشنيع السطحي الذي يُقدّم إلى الناس على أنه نقد اجتماعي عميق. أما الأحزاب فإنها عندما تعكس موازين القوى الحقيقية بين طبقات المجتمع، ولا تعود مجرد أداة في يد فئات من الأفراد الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، فإنها تصبح عاملا أساسيا من عوامل التعبير عن الرأي في المجتمع الاشتراكي. وأخيرا، فإن حرية المنافسة مكفولة في النظام الاشتراكي بدوره، ولكنها منافسة في خدمة المجتمع، وليست منافسة في استنزاف الأرباح من أفراده. ففي كل هذه الحالات إذن تُوفر الاشتراكية للمجتمع حرية حقيقة، مبنية على التخلص من الاستغلال الاقتصادي والظلم الاجتماعي.

وهكذا يتبين لنا أن الاشتراكية في صميمها مذهب إنساني يسعى إلى أن يرد للقيم الإنسانية معناها الحقيقي الذي شوهته الرأسمالية وابتذلته، ويهدف في نهاية الأمر إلى أن ينشر بين الناس اتجاهات معنوية لم تعرفها البشرية في عهودها السابقة التي كان يشيع فيها كلها استغلال الإنسان للإنسان وامتهانه لكل ما يعتز به من قيم.



#فؤاد_زكرياء (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السمات الفكرية للمرحلة الرأسمالية المبكرة:


المزيد.....




- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
- تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل ...
- في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو ...
- التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل ...
- السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي ...
- الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو ...
- بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
- محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان ...
- المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
- القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟ ...


المزيد.....

- الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل / آدم بوث
- الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها ... / غازي الصوراني
- الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟ / محمد حسام
- طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و ... / شادي الشماوي
- النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا ... / حسام عامر
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ... / أزيكي عمر
- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد زكرياء - المرحلة الاشتراكية