كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 841 - 2004 / 5 / 22 - 09:13
المحور:
حقوق الانسان
نسبة مهمة من سكان العراق من النساء والرجال ومن مختلف الأعمار تعرضت خلال العقود المنصرمة إلى صنوف التعذيب النفسي والجسدي على أيدي مختلف الجلادين الذين حكموا العراق. كما أن الغالبية العظمى من الشعب العراقي قد ذاقت مرارة العنف وقسوة والاستبداد والإرهاب والحرمان وضاقت بها ذرعاً, وكانت أكثر تلك الفترات قسوة ومرارة تلك التي عمقت الحقد والكراهية والتي بدأت مع انقلاب شباط/فبراير الدموي 1963 واستمرت حتى ربيع 2003 على أيدي حزب البعث العربي الاشتراكي وأجهزة البعث المختلفة والدولة البعثية. ومارس الحكام الإرهاب لفرض هيمنتهم على المجتمع, إذ بالقوة انتزعوا السلطة وبها مارسوا الحكم واحتفظوا به طويلاً. كان التعذيب النفسي والجسدي في معتقلات النظام واحداً من أكثر الأساليب شهرة وديمومة من بين أساليب البقاء في السلطة, إلى جانب استخدام أسلوب المراوغة والخديعة والكذب والنفاق والاغتيالات وتوزيع الهدايا ولأموال وشراء الذمم على المستويات العراقية والعربية والدولية وبعض المنظمات غير الحكومية الدولية والإقليمية والأحزاب السياسية في المنطقة العربية وأوروبا. وكان التعذيب وسيلة أساسية بيد الحكم يراد من خلالها الوصول إلى تخريب الإنسان صحياً وعقلياً ونفسياً وتدمير قدرته على المشاركة في الحياة العامة إن بقي على قيد الحياة وعزله اجتماعياً من خلال خشية الناس الآخرين الاتصال به أو إقامة علاقات معه.
قامت الفئة البعثية الحاكمة خلال فترة سيطرتها المطلقة على العراق بقتل جمهرة واسعة من قياديي وكواد وأعضاء ومؤيدي الأحزاب والقوى السياسية العراقية من مختلف التيارات الفكرية, بمن فيهم مجموعات من القوميين والبعثيين, سواء تم ذلك تحت التعذيب أم دس السم لهم أم اغتيالهم في الطرقات والشوارع أو تغييبهم عبر الاختطاف والقتل أو تنفيذ أحكام الإعدام بهم خارج القانون أو هرس جسم الإنسان بواسطة مكائن عملاقة لفرم لحم وعظام الإنسان ورميها للأسماك. وتحولت السجون والمعتقلات العراقية إلى معسكرات للتعذيب والتشويه والموت شبيهة بمعسكرات الاعتقال النازية من حيث الأساليب الوحشية التي كانت تمارس فيها.
وفق المعلومات التي توفرت لدي في ضوء لقاءاتي مع أشخاص كثيرين تعرضوا للتعذيب في تلك المعتقلات والسجون, إضافة إلى إجابات عن أسئلة وجهتها للمعتقلين بعد إطلاق سراحهم, سواء أكانوا من العرب أم الكرد, أم نتيجة تعرضي الشخصي المباشر للبعض من تلك الأساليب أثناء فترة اعتقالي في عام 1978, أمكنني تسجيل مجموعة من الأساليب التي فاق عددها أل 50 نوعاً بكثير, علماً بأن السجون المختلفة كانت تمارس أساليب مختلفة أو أساليب إضافية وفق "إبداعات" وسادية الجلادين في ممارسة التعذيب والغرض من ممارسته والقضايا التي يراد الحصول عليها من الضحية.
امتلك النظام أجهزة متخصصة بإعمال التعذيب ومارس تشكيلة مريعة من أعمال التعذيب الجسدي والنفسي, إذ كانت تجمع بين أساليب التعذيب في الدول الاستبدادية في العراق القديم, والتي كانت تمارس على أساس أنها عقوبات تصدر بحق المخالفين والتي يمكن متابعة بعضها في مسلة حمورابي أو القوانين التالية لهذه الفترة, وأساليب خلفاء وولاة وحكام الدول الإسلامية, العربية منها وغير العربية على امتداد القرون المنصرمة, إضافة إلى الأساليب التي كان الأمراء الإقطاعيون يمارسونها بحق الفلاحين الفقراء في السجون الخاصة بهم ولأسباب مختلفة, وبين أساليب التعذيب كانت تمارسها الدول الأوربية في القرون الوسطى وأساليب التعذيب الهتلرية, إضافة إلى إدخال التقنيات الأكثر حداثة في عمليات انتزاع المعلومات أو فرض الاعتراف على الضحية التي تقوم بتصنيعها الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة. وأجهزة البحث التابعة لأجهزة الأمن والاستخبارات كانت لها من يساعدها على وضع نماذج مختلفة من وسائل ممارسة التعذيب.
كان التعذيب الذي يمارسه جلادو النظام يبدأ بتوجيه الإهانات لكرامة الإنسان مثل الشتائم والبصاق والضرب والركل المتواصل بالأقدام في كل مكان من جسم الإنسان, بما في ذلك على الخصيتين, كمقدمات لعمليات تعذيب أكثر قسوة. فاعتمدوا الفلقة, أي الضرب المبرح على باطن القدمين, والهرولة بعدها لكي لا تصاب الضحية بالغنغرينة, والتي تهيئ للضحية فصلا خاصا مليئا بالعذابات الشديدة والآلام المبرحة التي يصعب تحملها, والتعليق بالمراوح أو على مسامير كبيرة مثبتة على جدران غرف التحقيق الخاصة, والجلد بأعواد الرمان (الخيزران), وتسليط الأضواء القوية على العينين ومنع الإنسان من النوم لأيام عديدة واستخدام ما يثير الأعصاب من أصوات رتيبة متكررة, أو إسقاط قطرات من الماء البارد على يافوخ الإنسان بصورة متتابعة ولفترة طويلة ترهق الضحية إلى أبعد الحدود وتدفع به إلى حد الجنون وتسئ إلى حالته النفسية, خاصة وأن التحقيق يستمر معه ساعات وساعات, وأياما عديدة, واستخدام الصوندات وخراطيم المياه والحرق بالسجائر في المناطق الحساسة من الجسم, وإدخال الخازوق أو القنينة في مؤخرة الضحية أو إجلاس الضحية على صوبة نفطية تحرق مؤخرته, أو استخدام الشمعة لحرق أسفل القدمين المعلقتين في الهواء والمقيدتين بالحديد, واستعمال الكاويات الكهربائية والتيار الكهربائي الذي يربط بالمناطق الحساسة من جسم المرأة والرجل (الفرج والحلمتين والذكر مثلا) لتوجيه صعقات كهربائية إلى تلك المناطق الحساسة التي تتسبب بآلام مبرحة جداً ترهق الإنسان وتدمره داخلياً, وتجري محاولة أو اغتصاب فعلي الضحية جنسياً, سواء أكان رجلاً أم امرأة, صبياً كان أم شاباً أم عجوزاً, إذ أن الغاية منها بشكل خاص إذلال الإنسان واغتصاب كرامته وإسقاطه سياسياً. واستخدم لجلادون شدّ قضيب الرجل بحبل ثم جر الحبل بقوة أو شد ثديي المرأة بحبل وجرها أو حرق الحلمتين بشعلة السجائر, وقلع أظافر أصابع اليدين والقدمين, وإدخال الرأس في أحواض الماء إلى حد الاختناق, أو صب الماء الساخن أو الماء المثلج على المناطق الحساسة من جسم الضحية أو على كامل جسمه, أو ترك الضحية تحت أشعة الشمس المحرقة لساعات طويلة دون ماء أو شيء يستر جسده العاري, أو ترك الضحية على سطح دور الأمن دون ملابس في ليالي الشتاء القارسة, أو إعطاء الضحية السم بأنواعه المختلفة ذات المفعول السريع أو البطيء مذوبا باللبن أو الشاي المحلى أو الطعام, وإلقاء الفطريات على جسم وملابس الضحية أو حتى تصفيته بالمواد الكيميائية أو التيزاب, أي تذويب جسمه بالحوامض. وكان الجلادون البعثيون يفرضون على الضحية الجلوس في وسط مرحاض معطل مليء بالغائط وسقي الضحية بوله قسرا, أو وضعه في غرف مليئة بالحشرات القارصة بدون غطاء أو حتى ملابس تقيه شرها, وتركه في غرف مظلمة ورطبة لأشهر ودفع وجبات الطعام الشحيحة والرديئة والماء له من ثقب في باب حديدية موصدة دوما...الخ. وكان الجلادون يمارسون التعذيب والضحية عار تماماً, سواء أكان رجلاً أم امرأة, ويضعون في غالب الأحيان على عيني الضحية قطعة قماش سوداء لكي لا يتعرف عليهم أو ليفقد القدرة على ضبط اتجاهات حركته أو على توازن جسمه, خاصة وأن الضحية, امرأة كانت أم رجلاً, كاننا يتعرضان إلى الضرب المبرح بالهراوات والأيدي التي تتواتر من مختلف الجهات ومن عدد من المحققين الجلادين, كما كانت تطلق باتجاه الضحية العديد من العيارات النارية من مسدسات وبنادق رشاشة الجلادين لإرعاب الإنسان وإيهامه بأنهم ينوون قتله, ويقتل حقا في بعض الأحيان. وكان التعذيب النفسي, بما فيه مشاهد تعذيب الآخرين, يتواصل سوية مع التعذيب الجسدي. وغالبا ما كان الجلاد يحتسي الخمر فتزداد قسوته ويفقد أعصابه بسبب عجزه عن إسقاط الضحية رغم كل تلك العذابات فيغرق في وحل التعذيب أكثر فأكثر ويفقد كلية كل ذرة من إنسانية الإنسان التي ربما كان يحملها في لحظة من لحظات حياته. واعتمد الجلادون في الكثير من الحالات على جلب زوجة الضحية أو الزوج أو الابن أو البنت أو الأب والأخ والأخت لممارسة الضغط على الضحية في سبيل الحصول على المعلومات المطلوبة, حيث كانوا يمارس التعذيب بحق الرجل أم المرأة أمام أعين الأقارب وربما تتم تعريته أو تعرية الأقارب وممارسة الاغتصاب الجنسي المهين على الضحية أو على واحد أو أكثر من أفراد عائلة الضحية, وهم ضحايا إضافية. إنها جرائم يصعب على الإنسان ذكرها أو حتى الحديث عنها. وكان الجلادون ينظمون في غالب الأحيان حفلات تعذيب جماعية لضحية واحدة, وأحياناً أكثر من واحد, حيث يشارك في الضرب بالعصي والهراوات والركل بالأرجل والدفع مجموعة من الجلاوزة الأوباش بحيث يفقد الضحية توازنه ويسقط على الأرض ثم يجبر على النهوض والركض بعينين مشدودتين يصطدم بالجدران المحيطة بالمكان. واستخدم النظام في السنوات الأخيرة ماكنة عملاقة لفرم جسد الإنسان, سواء أكان حياً أم ميتاً ورمي اللحم والعظام المهروسة إلى الأسماك. ومارس النظام في سنوات العقد الأخير من القرن العشرين حتى سقوطه أساليب تعذيب أخرى مثل قطع أذن الإنسان أو جدع أنفه أو قطع يده أو قطع لسانه أو قطع رأسه بالسيف أو وشم جبهته لأسباب كثيرة. وكان النظام يستخدم الكلاب المدربة لتهديد الضحية أو دفعها فعلاً لنهش لحم الضحية. وكان الجلادون يمارسون القتل البطيء للضحية والمليء بالعذابات من خلال قطع الأصابع أو قلع العينين أو تقطيع لحم الإنسان تدريجاً أو حتى سلخ جلده بعد نفخه ... الخ. لقد كانت سجون النظام مسالخ حقيقية موجهة لقتل الإنسان المعارض أو المختلف مع النظام ورأسه. وهناك من الأساليب التي يتفنن الجلادون في ممارستها في لحظة غضب ضد الضحية يصعب تصورها. لقد كان على الضحية أن يحفر قبره بنفسه ثم توضع متفجرات في جسمه ثم يفجر من خلال توجيه طلقات نحوه من بنقية رشاشة. وغالباً ما كان الضحية يوضع في كيس كبير مع كمية من الأثقال ويرمى في نهر دجلة وهو ما يزال حي يرزق ويلقى حتفه غرقاً, بعد أن يكون قد تلقى من التعذيب الجسدي والنفسي ما كان الموت خلاصاً له من ذلك الجحيم.
لقد قُتل تحت التعذيب عدد كبير جداً من المواطنات والمواطنين العراقيين من مختلف الأعمار, ومن مختلف الأحزاب والمنظمات, ومن مختلف القوميات والأديان والطوائف, يصعب حقا تقدير العدد الفعلي, إذ أن البعض يقدره بالآلاف من المناضلات والمناضلين الشجعان, ويقيناً أنه يصل إلى عشرات الآلاف, بعد أن نعرف بأن عدداً كبيراً من شباب الكرد الفيلية أو من عرب الوسط والجنوب أو من العائلات الكردية من كردستان العراق أو من ضحايا الأنفال لقد لقوا مصرعهم في المعتقلات والسجون العراقية وبأساليب شديدة القسوة والشراسة. ومن خرج منهم سالما لا زال يعاني من كابوس تلك العذابات سنوات طويلة, أو أصبح مقعدا ومشلولا, كما حصل لعدد من الضباط الوطنيين العراقيين. فقبل فترة وجيزة رجوت أحد الأصدقاء أن يكتب لي عن التعذيب الذي تعرض له في عام 1979 في دائرة الأمن العامة ببغداد, والصديق طبيب عراقي, فاعتذر مشيراً إلى أنه كان ولا يزال يتعرض لأزمة نفسية ثقيلة وخانقة كلما تذكر تلك الفترة والعذابات التي أجبر على تحملها والأساليب التي مورست ضده وضد رفاق له على أيدي جلادي النظام العراقي.
لم تقتصر عمليات التعذيب على المناضلات والمناضلين الذين كانوا قيد التحقيق فحسب, بل كانت تشمل أيضا السجناء السياسيين الذين كانوا يقضون مدة الأحكام الصادرة بحقهم من المحاكم غير الشرعية في السجون العراقية الكثيرة. وجدير بالإشارة إلى أن عددا كبيرا من مواطني الدول العربية كانوا ضحية أجهزة الأمن والاستخبارات العراقية والقوات الخاصة بسبب رفضهم مسايرة النضال أو تأييد جرائمه أو المشاركة في حروبه المجرمة. وحسب المعلومات التي نشرت عن البصرة أنهم عثروا على سرداب كبير في بناية ضخمة في البصرة وجد فيه 12-15 معتقلاً تم اختطافهم أو اعتقالهم ثم غيبوا طيلة الفترة منذ بداية انتزاع حزب البعث للحكم حتى أيام الانتفاضة الشعبية في البصرة في ربيع عام 1991, حيث أمكن في حينها تحريرهم. كان هؤلاء قد فقدوا الصلة بالعالم الخارجي طيلة عقدين من السنين, كانت لحاهم وشعر رؤوسهم وأظافرهم طويلة, كما كانت وجوههم شاحبة اقرب إلى وجوه الموتى منها إلى وجوه الأحياء, كانوا لا يعرفون مدى الفترة التي قضوها في هذا السرداب المعتم, حيث كان الطعام والماء يرمى إليهم من كوة لا يدخل منها النور. لم يغتسلوا بالماء طيلة تلك السنوات. كان البعض منهم قد فقد عقله ولم يعد يدرك شيئا ولا يعرف سببا لاعتقاله. وقد أخذ بعض المنتفضين البعض من هؤلاء إلى إيران بعد فشل الانتفاضة لمعالجتهم هناك.
هذا قليل من كثير مما يمكن أن يكتب عن الأساليب البشعة في التعذيب النفسي والجسدي. ومن عانى من بعض أو الكثير من هذه الأساليب يدرك بأن الغاية كانت تتلخص في تركيع وإذلال المعتقل وفرض الاعتراف عليه وانتزاع المعلومات منه, أو حتى انتزاع أقوال غير صحيحة, لمجرد فرض الرضوخ عليه لإرادة الجلادين.
غالباً ما تشوه عمليات التعذيب الإنسان وتخرب أوضاعه النفسية, ولكنها لا تخلق بالضرورة جلادين جدد يريدون الانتقام من جلاديهم. ووفق تتبعي للواقع العراقي على مدى نصف قرن, حين تعرضت لأول مرة للتعذيب على أيدي جلادي جهاز التحقيقات الجنائية في النظام الملكي العراقي وانتهاءً بتعذيب جلاوزة البعثيين, أستطيع أن شخص بروز حالتين مختلفتين لدى الناس الذين تعرضوا للتعذيب على أيدي النظم الدكتاتورية, وهما:
الحالة الأولى: أما أن يمتلأ الإنسان الضحية حقداً وكراهية ضد جلاديه ويسعى إلى الانتقام منهم ومن الذين أصدروا الأوامر بتعذيبه في أية فرصة سانحة له, وبالتالي يمكن أن يتحول هذا الإنسان الضحية في لحظة معينة إلى جلاد لا يختلف عن الجلاد السابق بأي حال من الأحوال. فالكراهية والحقد وحب الانتقام والثار تشكل القاعدة العامة في المجتمعات المتخلفة أو ضعيفة التطور, وهو ما عشناه في العراق في فترات مختلفة. وغالباً ما يسعى الضحية إلى الانتقام بنفسه من جلاديه, وبالتالي ينصّب نفسه قاضياً ومنفذاً لإحكام يصدرها بنفسه ضد جلاديه السابقين أو ضد حكامه السابقين دون مراعاة للدولة والقانون, فهو الدولة والقانون في آن. وهذه الحالة تشكل خطراً كبيراً على المجتمع, إذ أنها تشيع الفوضى والرغبة في الثار الفردي المباشر والشخصي وممارسة القتل المتبادل والغوص في وحل خانق للجميع. إنها سلوكية مدمرة يفترض أن ترفض كلية. فمع فهم الدوافع التي تدفع بالإنسان إلى الثار من جلاديه, إلا أنه محرم ومرفوض في مجتمعاتنا المعاصرة ويفترض أن تدان وتكافح ويقدم المسئولون عنها للمحاسبة الصارمة.
ثانياً: وأما أن الضحية يدرك عمق مأساة الإنسان الذي يتعرض للتعذيب ويكره هذه الأساليب ويرفضها كلية, سواء وجهت ضده أو ضد غيره أو حتى ضد جلاديه. وهي حالة نادرة بحاجة إلى مزيد من الوعي الإنساني وإدراك حقيقة النظم التي تمارس الإرهاب والقسوة والتعذيب ويرفضها كلية ويسعى إلى تغييرها باتجاه الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ويترك أمر محاسبة هؤلاء للدولة والقانون. إذ من غير المعقول أن نرفض وندين التعذيب الذي نتعرض له ثم نمارسه في حالة توفر فرصة ممارسته ضد الجلادين. فالجلاد الذي أصدر الأوامر أو التي نفذها يفترض أن يقدم إلى المحاكم لنيل العقاب الذي يستحقه من قبل الدولة ووفق الأصول القانونية الديمقراطية.
عاش مجتمعنا العراقي في أعقاب سقوط النظام حالة من التوتر والهيجان وفقدان التوازن لنسبة كبيرة منه, رغم افرحة العارمة لما حصل, ومارس البعض الكثير من أفراده أساليب الثأر والانتقام من الجلادين, سواء أكانوا فعلاً جلادين أم كانوا من أتباع النظام أو أعضاء في الحزب الحاكم, إذ انتشرت المليشيات والجماعات الخاصة والأفراد تقتل بالبعثيين حيثما وجدوا بغض النظر عن الجرائم التي ارتكبوها أو الأدوار التي لعبوها أو الأسباب التي جعلتهم أعضاء في حزب البعث الحاكم طيلة سنوات. إذ تم قتل الكثيرين على هذا الطريق غير الشرعي وخروجاً على القانون ولوائح ومواثيق حقوق الإنسان. وقد عرضت بعض الفضائيات العربية والأفلام الملتقطة في العراق بعد الأحداث العديد من الأشخاص الذين قالوا بصراحة أنهم كانوا وما زالوا حتى اليوم يطاردون البعثيين ويجهزون عليهم حيثما وجدوهم لأنهم كانوا السبب في هذه القضية أو تلك من الكوارث العامة أو الخاصة التي مر بها الشعب العراقي أو العائلات والأفراد في العقود المنصرمة. كما أن أجواء الحقد والكراهية وحب الانتقام إزاء البعثيين تسببت في رفع البعض الكثير تقارير كيدية غير قليلة إلى سلطة الاحتلال في مناطق مختلفة من العراق ضد البعثيين أو حتى غير البعثيين تسببت في اعتقالهم وزجهم في السجون وقضاء فترة غير قصيرة فيها, وربما تعرض هؤلاء إلى التعذيب على أيدي قوات الاحتلال أيضاً.
لا شك في أن نظام البعث في العراق كان نظاماً استبدادياً وقمعياً لم يعرف تاريخ العراق الحديث مثيلاً له في قسوته ووحشيته وذهنية قادته السادية والنرجسية المريضة. إلا أن هذا لا يعني بأي حال أن أعضاء هذا الحزب أو مؤيديه الذين عدوا بالملايين كانوا مؤمنين بهذا الحزب وسياساته أولاً, أو أنهم شاركوا بأفعال النظام العدوانية وجرائمه البشعة ثانياً, أو أنهم لم يكونوا حتى معادين لهذا الحزب وقيادته, وخاصة شخص صدام حسين. ومن هنا كانت وما تزال الحاجة ماسة إلى التمييز الواضح بين البعثيين بحيث لا يحرق الأخضر بسعر اليابس ويقود الأمر إلى مآسٍ جديدة في العراق الذي يسعى الشعب إلى إقامته. لا يجوز التعرض للبعثيين بصورة فردية وعشوائية, ولا يجوز مسهم بأذى, بل يفترض تقديم المسئولين عن النظام وعن الجرائم التي ارتكبها إلى القضاء لمحاسبتهم بصورة دستورية وفي ضوء القوانين الديمقراطية, فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته. كما لا يجوز تعريض للبعثيين في المعتقل أو خارجه إلى التعذيب أياً كان نوعه, فهذا محرم ومن يمارسه يستوجب تقديمه للمحاسبة ومقاضاته أمام القانون. إن من يريد إقامة دولة مدنية حرة وديمقراطية جديدة ينبغي عليه أن يتصرف بصورة مدنية حرة وديمقراطية أيضاً لا أن يعيد المأساة الماضية من جديد.
إن مآسي القدر أن "محررينا" من نظام صدام حسين ومن كان يريد بناء المجتمع المدني والحرية والديمقراطية وإرساء دعائم حقوق الإنسان في العراق, هو أول من تجاوز وانتهك الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق بعد سقوط النظام. وهو أمر ليس فقط مخزٍ لمرتكبيه, بل للدولة التي أصدرت ووافقت على ممارسة عشرين أسلوباً من أساليب التعذيب أثناء التحقيق لانتزاع المعلومات من المعتقلين والأسرى في غوانتانانو, وكما يبدو, في العراق أيضاً. هذا هو بالضبط ما فضحه الصحفي الأمريكي الشهير سايمور هيرش في صحيفة "نيويورك", تماماً كما فضح قبل ذاك أفعال التعذيب الشرسة والمخزية التي مارستها قوات الاحتلال الأمريكية في الحرب الفيتنامية في قرية ماي لاي في فييتنام في عام 1968. إن من يصدر قراراً يسمح باستخدام عشرين أسلوباً في التعذيب الجسدي والنفسي يفترض أن يدرك ويأخذ بالحسبان أن المنفذ سيشدد في ممارسة تلك الأساليب أو يتفتق ذهنه المريض عن ممارسة أساليب أخرى لانتزاع الاعترافات من المعتقلين, وهو ما حصل في غوانتانامو وأفغانستان وفي العراق. إنها المأساة بعينها, أن توافق الدولة الأعظم على إصدار قرارٍ توافق بموجبه على ممارسة التعذيب, وهي التي تدعي بأنها بلد الحرية والديمقراطية, وهي التي تريد أن تدفع الشرق الأوسط, المليء بالقسوة والتعذيب, سواء أكان في السجون أم خارجها, إلى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن مصداقية الولايات المتحدة تذكرنا بوعاظ السلاطين, إذ كان يعلم على الصلاة ولكنه كان لا يصلي!, أو كما يقول الغربيون: يعظ بشرب الماء, في حين أنه يشرب الخمر!
إن الإنسان الذي يمتلك قدراً معيناً من الحس الإنساني السليم والعقل الراجح أو من تعرض يوماً ما في حياته إلى التعذيب على أيدي جلاوزة النظام العراقي يفترض فيه أن يكره التعذيب جملة وتفصيلاً وأن يناضل ضده ويسعى إلى تطبيق المبادئ الواردة في الوثائق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان وبحقوق المعتقلين والسجناء, سواء أكانوا سجناء الرأي أم الحق العام, التي تحرم التعذيب بكل أشكاله بما في ذلك تلك التي وافقت عليها وزارة الدفاع الأمريكية ومجلس الأمن القومي والبيت الأبيض. إنها المأساة بعينها ومصداقية هذه الدولة هبطت في العالم العربي والإسلامي إلى الحضيض حقاً, وعليها أن تساهم في تحسين سمعتها من خلال إجراءات صارمة تتخذ في العراق حالياً, وكذلك إزاء الأسرى والمعتقلين في غوانتانامو وأفغانستان بغض النظر عن طبيعة التهم الموجهة لهم.
إن على مجلس الحكم الانتقالي والأحزاب والقوى السياسية العراقية والمنظمات غير الحكومية وجماهير الشعب الواعية التي ترفض ممارسة التعذيب ضدها, رفض ممارسة التعذيب ضد الآخرين وفرض الرقابة على السجون العراقية والمشاركة في التفتيش الفعلي والحقيقي حول ما يجري في السجون من تجاوزات على السجناء. إن السجناء أمانة في عنق الدولة والقانون ولا يجوز التعامل معهم كما فعل المحققون الأمريكيون في العراق وفق تعليمات قادتهم ووفق القرارات الصادرة لهم أو تجاوزها لتلك القرارات أيضاً.
دعوة صريحة وملحة إلى جميع العراقيات والعراقيين للعمل من أجل ظهور حركة شعبية مدنية واسعة ترفض وتقاوم ممارسة التعذيب بمختلف أشكاله في السجون والمعتقلات العراقية الآن وفي المستقبل, وترفض محاولات تجاوز القانون بتعذيب أو الإساءة أو قتل البعثيين في السجون أو في الشوارع بغض النظر عن الجهة التي تمارس ذلك. إنها الطريقة الوحيدة لحماية الجميع من التعذيب وعواقبه على الإنسان العراقي وتطبيق الوثائق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان وتحريم التعذيب ضد السجناء وتحسين أوضاعهم وشروط وظروف السجن.
20/5/2004 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟