|
ثنيوية الذهنية والسلوك البشري
جمان حلاّوي
الحوار المتمدن-العدد: 2765 - 2009 / 9 / 10 - 18:53
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تحدثني قراءاتي وحدسي أن الإنسان ثنائي الطبع والتفكير والاستنتاج ، ولا يمكن بأي حال أن يكون مفردا" بتصرفه وإدراكه واستنباطاته وقدومه على أي عمل ، ولعل فكرة وجود الشيطان في الكون عند الأديان جميعها مردودها هذا التفكير الثنيوي أو الميل الفكري عند الإنسان إلى إيجاد تعادل بين النقيضين ..الرب/ الشيطان .. والغلبة تعود في النهاية للخير (أو الرب ) لتمنح الإنسان الاستقرار والتوازن . ولو رجعنا إلى المذاهب الدينية القديمة كالمذهب الديونيسي نراه مبني على الثنيوية الكونية المتمثلة في النور والظلمة بمعنى الخير والشر ، وبمعنى وجود عالمين : عالم دنيوي وعالم آخروي مع اعتبار أن العالم الدنيوي عالما" مرذولا" موهوما" والآخروي عالما نقيا" صافيا". وكما فقي الفلسفة الصينية القديمة هناك توأمان احدهما ايجابي والآخر سلبي ، ومن صراع هذين التوأمين أو من تعاونهما نشأ العالم ، فالتوأم الايجابي يسمى( يانك ) والتوأم السلبي يسمى( ين )، ويمكن أن يسميا بالمذكر والمؤنث وبالفاعل والمفعول ، وبالمتقدم والمتأخر . ويانك هو الجنوب المشمس ، و ين هو الشمال المظلم . ولذلك فأن يانك هو النور والحرارة ، و ين هو الظلام والبرودة . وفي مجال الحياة يكون يانك رمز النمو والفرح والربح والشرف ، ويكون ين رمز الفناء والخسارة والكرب والشقاء . وهو تناقض ظاهري لدى الفلسفة الصينية القديمة لأن النقيضين صورتان لشيء واحد وأكيد هو العقل البشري كونهما من نتاج هذا العقل المبدع ! والزرادشتية تقول أيضا" بوجود روحين في الكون منذ الأزل : روح الخير ( سبنتا ماينيو ) وروح الشر ( أنكرا ماينيو ) , وان عمل الخير هو من روح الخير وهي أعمال الخالق الأعظم ، ولكن أعمال الشر لا يمكن عزوها إلى الخالق الأعظم ولذلك فأن زرادشت رأى أن أعمال الشر ناجمة عن قوة روحية أخرى اسماها انكراماينيو كما أسلفت تعمل عن طريق الإنسان بمعنى أن هناك تعارضا" بين الاتجاه الرباني والاتجاه الإنساني ، أي بين الله والإنسان ، وفي ذلك شبه وتقارب مع الأفكار الدينية اليهودية والمسيحية وفيها الشيطان وعن طريق استخدام الإنسان يعمل دائما" على إحباط التدبيرات الإلهية والمسيح في الديانة المسيحية قوة إلهية تعمل للخير وتقاوم الإغراء والمعصية وهو إغراء الشيطان بصورته الحقيقية أو بتجليات بشرية . والفلسفة اليونانية قبل سقراط كما في الفلسفة الآيونية وهي فلسفة مادية تؤمن بثوابت الطبيعة وهمها تعليل العالم الخارجي تعليلا" ماديا" عن طريق إيجاد عنصر أساسي هو الأصل في كل ما نراه في الكون المحسوس فقال بعضهم الماء والبعض الآخر الهواء ..الخ وهذه الفلسفة بالعموم بدأت ترى في الوجود اضطرابا" وتقلبا"وتغيرا" وان لابد من وجود ثبات ودوام واستقرار تكون هي الحقيقة المستورة وراء تلك المظاهر الفوضوية . ومن هنا نشأت فكرة ثنيوية تقوم على أساس الصراع بين التغير من جهة والثبات من جهة أخرى . ويبدو أن الإنسان ميال إلى حب الاستقرار والاستناد إلى شيء ثابت يعينه على الشعور بالاطمئنان الداخلي أمام تهديدات الطبيعة . وفعلا" نرى الإنسان بسيط التفكير يتشبث بالديانات الحالية تشبثا" أعمى لأنها تعلمه القناعة والركون والقبول بما مقسوم وتعلمه أن الخير قادم ولو بعد حين ! ففكرة الخير الذي يغلب الشر والنور الذي يغلب الظلام موجودة منذ القدم حيث نقرأ في إحدى الأناشيد الدينية المصرية أن أعداء فرعون سيهلكون كما تهلك الحيـّة أبوفيس في صباح السنة الجديدة ، فالحية هنا رمز الظلام ، وان نور الصباح في مستهل السنة الجديدة يقضي على الظلام . وفي ديانات وادي الرافدين القديمة الشيء الكثير من انتصار الخير على الشر في احتفالات رأس السنة عندهم رمز لتغلب الحياة على الموت متمثلة بخروج ( تموز ) من ارض الأموات والظلام ليعود إلى الحياة من جديد فتعود الخصوبة وتزرع الأرض في موسم الربيع سنويا" كبداية لسنة جديدة، ويتم الزواج بينه وبين ( عشتار )... وان قيام المسيح وصعوده إلى السماء بعد الصلب كما في الحكاية المسيحية هو رمز للتغلب على الموت .
إن فكرة الثنيوية عند الإنسان ناشئة في الأصل من التركيب الفسيولوجي للدماغ البشري حصرا" دون الكائنات الدنيا كونه يحمل وعيا" وتمثيلا" واستنتاجا"، ثم تنامى إلى تطبـّع منذ احتكاكه في أول عهده في العيش على الأرض البدائية وتفاعله مع محيطه ، وشعوره انه طرف والطبيعة طرف ثان ، وان الطرفين متناقضان ومتعارضان ، وان الشعور بالذات الذي نشأ في الإنسان بعد التجارب والمعاناة أهم تطور في هذا الكون لأن الإنسان بدأ بالتمييز بين نفسه والطبيعة وبين نفسه والغير ، وان هذه الثنيوية كانت مشفوعة بثنيويات محيطية كوجود التناقض بين الليل والنهار والنور والظلام والسماء والأرض والموت والحياة ، فالعالم في نظر الإنسان القديم كان مأهولا" بهذه الثنائيات التي تصارع بعضها البعض الآخر ، وكان هو في بؤرة هذا الصراع .
وعندما نصل في حديثنا إلى الإسلام نرى الثنيوية واضحة في السلوك المنهجي للإسلام وفي النص القرآني على الرغم من تمسك الإسلام بوحدانيته الإلهية ظاهريا" فأن عملية خلق ( إبليس ) من قبل الربّ ثم مشيئته أن لا يسجد لغير الله لألا يسقط في مسألة الشرك ، لكنه مع ذلك أمره أن يسجد لآدم ، والمشيئة الإلهية الأزلية لا ترد لذا كان الربّ مدركا" ومتعمدا" أن يخطـّيء إبليس ليوقعه في حبال المعصية ! فالنص القرآني صريح بتوجيه الأمر :
" ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين . قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ......إلى آخر النص / الأعراف"
نلاحظ هنا أن توجيه الرب للقيام بفعل السجود هو ( الأمر ) لكن المشيئة الإلهية الأزلية تجعل إبليس أن لا يسجد كونه أفضل من آدم من ناحية الجوهر ، وكذلك فالسجود لغير الرب هو الشرك به وكما يقول ( د. صادق جلال العظم في كتابه نقد الفكر الديني / فصل مأساة إبليس ) إن الله أمر إبليس بالسجود لآدم لكنه شاء له أن يعصي الأمر ، ولو شاء الله لإبليس أن يقع ساجدا" لوقع ساجدا" لتوه إذ لا حول ولا قوة للعبد على رد المشيئة الإلهية ( حسب الأسطورة المذكورة في القرآن ) . كان فعل التخطئة متعمدا" لخلق المعارض والنقيض ، فقد أراد الله أن يصنع نقيضه ، ولولا إبليس ما عرف الله ولن تكون هناك أهمية لوجوده ! كما أن لا أهمية للجمال إذا لم يكن هناك قبح كون كل ما يحيطنا سيكون شيئا" معتادا" لا نتمكن أن نصفه بالجميل لانتفاء وجه المقارنة !!
إن الثنيوية واضحة في الفكر والسلوك البشري لإتمام توازن ما .. فالكون عبارة عن متناقضات متضاربة ولا تفرد مستمر إلا وخلق نقيضه لديمومة الحركة ، إذ لا حركة بدون تناقض السلب والإيجاب ، ولا مادة بدون الحركة ..
#جمان_حلاّوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ممارسة الطقوس .. عبادة , أم تراكم مازوخي ؟
-
ماهيّة ما يسمى بالثقافة الأسلامية
-
أيقونات الانحطاط
-
ليس هناك مفهوم حياتي لديهم غير الكذب والدعارة
-
حوار الأديان أم تعريتها وتقويضها
-
أزمة المثقف العربي مع ما يسمى بالمقدس
-
المرأة في النص الإلهي
-
الدين الإلهي أم العلمانية هي النور المبين والحصن المتين ( رد
...
-
العمّ الأكبر والمجتمع اللامنطقي
-
الثقافة والصرح الثقافي ، وعاصمة الثقافة !
-
دروس في العلمانية 3 : (التحليل المادي للفكر الديني )
-
دروس في العلمانية 2 (الايدولوجيا الدينية والصراع الطبقي)
-
دروس في العلمانية
-
البصرة وغزّة
-
الدين الإلهي أم العلمانية هي النور المبين والحصن المتين
-
في ذكرى سقوط الهمجية وولادة الحوار المتمدن
-
تأبين روزخون
-
ماهيّة ( الثقافة الإسلامية )
-
فتوى اللحيدان
-
ثلاثي الانحطاط البشري
المزيد.....
-
إيران تعلن البدء بتشغيل أجهزة الطرد المركزي
-
مراسلنا في لبنان: سلسلة غارات عنيفة على ضاحية بيروت الجنوبية
...
-
بعد التهديدات الإسرائيلية.. قرارت لجامعة الدول العربية دعما
...
-
سيناتور أمريكي: كييف لا تنوي مهاجمة موسكو وسانت بطرسبرغ بصوا
...
-
مايك والتز: إدارة ترامب ستنخرط في مفاوضات تسوية الأزمة الأوك
...
-
خبير عسكري يوضح احتمال تزويد واشنطن لكييف بمنظومة -ثاد- المض
...
-
-إطلاق الصواريخ وآثار الدمار-.. -حزب الله- يعرض مشاهد استهدا
...
-
بيل كلينتون يكسر جدار الصمت بشأن تقارير شغلت الرأي العام الأ
...
-
وجهة نظر: الرئيس ترامب والمخاوف التي يثيرها في بكين
-
إسرائيل تشن غارتين في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بعشرات
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|