عبد الإله بقزيز
الحوار المتمدن-العدد: 2763 - 2009 / 9 / 8 - 15:45
المحور:
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
لا تكف الحياة السياسية الفلسطينية الداخلية عن إنتاج المفاجآت التي تصعق وتحبط. نكاد لا نخرج من هول مفاجأة حتى تأخذنا التي تليها إلى أهوال أدهى. وفي كل مفاجأة مفارقة تغلق قدرة الفهم على أن تحمل على المألوف والمعقول وتشلها أو تبطلها. كأن العقل استقال في المصرين الفلسطينيين المحتلين والمحكومين بسلطتين غير شرعيتين: إحداهما أقيلت بمقتضى “القانون” وصلاحيات الرئاسة، وثانيتهما احتيل على إخراجها إلى الوجود من دون مسوغ من “القانون” نفسه الذي أقال الأولى.
ولقد كان فعل الإقالة والتنصيب (إقالة الأولى وتنصيب الثانية) إقالة للعقل وتنصيباً للهوى والمزاج، وتساوى المقيل والمقال في الأخذ بذات النصيب من ذينك الهوى والمزاج. ومن ذلك الحين تفنن الفريقان واستجادا في استعراض مواهبهما في ممارسة اللامعقول. فهذه صلاة جماعية تمنع في غزة لأنها “صلاة سياسية”، وهؤلاء شباب يعتقلون في الضفة لأنهم يحملون سلاحاً “غير شرعي” وعشرات غيرهما من الأشباه والنظائر.
آخر نوازل الغرابة في المصرين الفلسطينيين، في الشهرين المنصرمين، ثلاثة: مؤتمر “فتح” السادس، ومنع مندوبي الحركة إلى المؤتمر من مغادرة غزة، والتصفية الدموية لتنظيم أصولي في رفح.
أخذت حركة “فتح” بالقوة إلى مؤتمر لن تتعافى الحركة معه، وبعده، مما حل بجسمها من علل منذ سنين. كانت تستحق مؤتمراً وطنياً يليق بتاريخها ويناسب حالتها المرضية التي استفحلت منذ “أوسلو” وبلغت ذراها الدراماتيكية منذ أربعة أعوام ونصف العام. غير أن مصيرها التنظيمي والسياسي اختطف من قبل رهط من سياسييها على أدواره ألف علامة استفهام وجيء بذلك المصير إلى مكان تحت الاحتلال وشروطه حتى يتقرر بعيداً عن حقوق الآخرين من أبنائها فيها.
وفي المؤتمر، احتيل على حقوق كثير ممن منعتهم ظروفهم من السفر إلى بيت لحم من المؤتمرين فأقصوا من الحق في التصويت، وكانت الحجة سخيفة. وفي المؤتمر، تحكمت العصبيات في تقرير النتائج، فكان لمن أوصلوا “فتح” إلى الهزيمة في “التشريعي” وإلى فقدان السلطة في غزة حصة مخيفة. وفي المؤتمر، أزيح من لم يعد مرغوباً في بقائه من وجوه “الحرس القديم” بوسائل طعن فيها بعض من أصابتهم تلك الإزاحة.
والنتيجة أن “فتح” خرجت من المؤتمر بعدة ذاتية نخشى من أنها لن تسعفها في الرد على سؤال الدور والمكانة الذي بات يحاصرها منذ استشهاد قائدها ياسر عرفات وأيلولة قرارها إلى من أخذوها إلى الهزيمتين.
وإذا كان مما يريح المرء أن يرى في جملة قادتها في “اللجنة المركزية” و”المجلس الثوري” رموزاً وطنية من الجيل الجديد، ومروان البرغوثي عنوان لهم جميعاً، فإن الخشية (هي) ألا يكون في حوزتهم الوسائل الكافية (النصاب التمثيلي في الجهازين) لإحداث التوازن المطلوب في القرار الفتحاوي على النحو الذي يقيد أيديهم، أو حتى يحولهم إلى شهود زور، لا سمح الله، على ما يجري في الحركة.
وكان أن عززت ثاني “النوازل” أولاها ووفرت لواقعتها سبيل النجاح. فلقد اختارت حكومة “حماس” في غزة أن تشارك في مؤتمر “فتح” بطريقتها، ومن طريق منع مندوبي المؤتمر من غزة من مغادرة القطاع إلى الضفة. والحجة هي “المعاملة بالمثل” (تيمناً بالقاعدة المرعية في الخصومة بين دولتين)، فلا يجوز أن يحرم الحمساويون في الضفة من حريتهم فيقذف بهم في السجون فيما يتمتع فتحاويو غزة بحرية التنقل.
وكما كان رخيصاً وحقيراً أن يساق مناضلو “حماس” في الضفة إلى السجون، كان رخيصاً وحقيراً أن يمنع مناضلو “فتح” من حق التنقل داخل وطنهم. فهذه أفعال خلنا أن “إسرائيل” وحدها تقدم عليها لولا أن تشبهت بها في ذلك هاتان القبيلتان السياسيتان اللتان تعتركان على طعم مسموم دس في حياة الشعب الفلسطيني اسمه: السلطة (سلطة أوسلو لمن نسي دينها وعرقها وأرومتها).
وأخشى ما يخشاه المرء، وقد نرجحه، أن يكون منع مندوبي فتح من مغادرة غزة بغية سياسية حمساوية لرفع القيود عن حرية الحركة للتيار السائد في “فتح” وهي قيود تفرضها معارضة جسم فتحاوي كبير في غزة لخيارات القيادة المتنفذة من أجل دفع ذلك التيار السائد إلى الذهاب بعيداً في انقلابه السياسي على تراث “فتح” الوطني حتى ترى “حماس” حركة “فتح” على النحو الذي تريد أن تراها عليه أي حتى تأكل من رصيد “فتح” التاريخي وترثه. وليس يهمنا إن كان هذا الحساب دقيقاً وذا عائدات، الأهم أنه يدشن أسلوباً كيدياً في العلاقات الداخلية الفلسطينية، ويخرج بالسياسة من حدود أخلاق المنافسة الشريفة التي تتوسل بالإنجاز ومقبولية الشعب والرأي العام إلى “أخلاق” الاحتيال.
ثالث النوازل، وأشدها هولاً وخطورة، المذبحة الرهيبة التي نفذتها أجهزة أمن غزة ضد جماعة “جند أنصار الله” في رفح. الذريعة سخيفة: إعلان الجماعة عن قيام “إمارة إسلامية” على طريقة سلطة محمود عباس في رام الله تتصرف “حماس”: لا سلاح شرعياً غير سلاح السلطة.
الفارق الوحيد وهو ليس قليلاً في حساب السياسة أن أجهزة رام الله تودع “الخارجين” عن سلطانها في السجون، الثانية في غزة تأخذهم إلى حتفهم. تنتزع الأولى أبسط حق من حقوق الإنسان (الحرية)، أما الثانية فتودي بأقدس حق من حقوقه التي منحته إياها السماء: الحق في الحياة. تملك الأولى أن تكفر عن خطئها فتعيد الحق المصادر إلى أهله بإفراغ سجونها. أما الثانية، فلا تملك أن تكفر عن خطيئتها فتنفخ في أرواح قتلاها. لا حول ولا قوة إلا بالله.
متى تضع هذه المهازل حداً لفصولها المتلاحقة فيكون لشعب فلسطين حقه في حياة سياسية داخلية نظيفة، فلا يسرق تمثيله من نخبة ولا يعتدى على حريته أو يهدر حقه في الحياة من سلطة؟
#عبد_الإله_بقزيز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟