|
أسس الحداثة ومعوقاتها في العالم العربي المعاصر (1/5)
عبدالله تركماني
الحوار المتمدن-العدد: 2763 - 2009 / 9 / 8 - 07:28
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تشغل الحداثة حيزاً مهماً من الخطاب العربي المعاصر، حيث تختلف وجهات النظر، وتتعارض المفاهيم والمصطلحات، وتتنوع المقدمات والنتائج. ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق هو الارتكاس بالوعي العربي إلى مقولات قرون سابقة، تدور حول الغرب وحضارته وثقافته وفكره وموقعنا من هذه الحضارة والثقافة والفكر، حيث يستعاد الموقف القائل بـ " عدوانية الغرب " و " بربرية حضارته "، إلى جانب مقولة التفوق الروحي والإنساني الذي اختصت به حضارتنا وفاقت فيه مادية الغرب ووحشيته. هكذا يتم التخلي عن مقولات النهضة العربية الحديثة لا بالتقدم إلى ما بعدها بل بالارتكاس إلى ما قبلها، مما يشكل في حد ذاته تعبيراً مأسوياً عن إحباط التنوير والحداثة في عالمنا العربي المعاصر. وأمام هذا الارتكاس إلى عصور التأخر نتساءل: إذا كان المشروع التحديثي العربي قد فشل ولم يتمكن من بلوغ أهدافه، فهل لا تزال الحاجة قائمة إليه، في عصر تجاوز العالم حقبة الحداثة ذاتها، ودخل إلى أفق جديد مختلف السمات والقسمات ؟ وهل يتسنى للعرب ولوج العصر الجديد، عصر العولمة وما بعد الحداثة، دون المرور بمرحلة الحداثة التي فشلوا في الوصول إليها ؟ باختصار، وفي كل الأحوال، نحن بحاجة إلى معرفة دقيقة بأشياء كثيرة أصبحت تطرح نفسها علينا بإلحاح. ولكن قبل أن أدخل في تفاصيلها أود أن أنوه إلى أننا أصبحنا - على الأقل - نطرق موضوعات ما كنا نتجرأ على الخوض فيها قبل بضع سنوات فقط. وانطلاقا من تقديري لجهود بعض المفكرين المغاربة (عبدالله العروي، هشام جعيّط، محمد أركون .. ) الذين انخرطوا في مشروع نقدي لثقافتنا العربية، فإني سأتناول أهم أسس الحداثة ومعوقاتها في العالم العربي المعاصر. لقد تعطلت محاولات التحديث المتكررة في العالم العربي منذ القرن التاسع عشر، وتعود تلك العطالة إلى جملة عوامل بنيوية، تاريخية واقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، ولكنّ العامل الأهم تمثل – على الخصوص – في اعتقاد من تنطحوا لقيادة عملية التحديث أنها مجرد توطين المنتجات والمنجزات المادية للحداثة في البيئة العربية، دون الاهتمام الكافي بإعادة بناء المجتمعات العربية بالاستفادة من معطيات الحداثة ومكوناتها العقلانية، التي تضمن توطين قيم الحداثة في التربة العربية. وإزاء كل ذلك يبدو أنه من الضروري أن يعمل المرء على إعادة صياغة وترتيب أفكاره، بما يمكّنه من فهم وتشخيص الواقع العربي، ومن ثم الانخراط بتغييره في اتجاه التكيّف الإيجابي مع معطيات وتحولات العالم المعاصر، وبما ينسجم مع المصالح العليا للأمة العربية. ومن أجل كل ذلك، فإنّ هذا المبحث سيتناول القضايا التالية: الأسس النظرية للحداثة ومكوناتها، وتجليات الحداثة في التجربة العالمية المعاصرة، ومعوقات الحداثة في العالم العربي المعاصر (التاريخية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، السياسية)، العرب وما بعد الحداثة، وخاتمة تتضمن أهم الاستنتاجات المفيدة للمستقبل. الأسس النظرية للحداثة ومكوناتها يشير مصطلح الحداثة إلى مرحلة تاريخية طويلة نسبياً، بدأت في أوروبا الغربية منذ أواخر القرن السادس عشر وتميزت في القرن السابع عشر بسلسلة من التغيّرات الكبيرة والعميقة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وشملت بشكل متداخل ومتفاعل عملياً مجالات البحث والمعرفة العلميين والتطبيق التكنولوجي وأشكال ومؤسسات الحكم السياسية والمدنية والتشريعية والقانون والمعاملات التجارية، وذلك في إطار عمليات بناء الدول القومية وتزايد سلطاتها مع تزايد مساحات الحرية والمسؤولية الفردية أيضاً. وفي هذا السياق تكفي الإشارة إلى المحطات الفلسفية الأساسية في الفكر الغربي الحديث، التي هي فكر ديكارت الذي دشن نظرياً عصر الحداثة، وفكر كانط الذي بلور نقدياً ديناميكية الأنوار، وفكر هيغل الذي صاغ مفهومياً لحظة اكتمال الحداثة في نموذج الدولة القومية الحديثة. إنّ الحداثة ليست ترفاً فكرياً، بل هي تطبيق منهجية عامة للتحليل وطريقة في التفكير، وهي لا تحضر وتغيب بحسب أنواع الأحداث أو علاقاتنا العاطفية بها. وعصر الأنوار يحيل إلى هذه الظاهرة الفكرية، الواسعة الانتشار، التي عرفتها أوروبا في القرن الثامن عشر، حين تم التأكيد على أولوية الإنسان ودعم استقلاله وإرادته، ورفعه إلى مستوى يكون فيه مرجع سلوكه، والقاعدة المعيارية لممارسته الاجتماعية. لقد شكل عصر الأنوار قاعدة التفكير للحداثة كلها، إذ أنه الفضاء الذي يقوم على أربعة محددات: 1 - العقلانية، باعتبارها البحث المستمر في المعايير التي تقاس بها صحة الاستراتيجيات التي تصوغها الجماعات أو تسعى إلى صياغتها من أجل إحراز التقدم ومسايرة التاريخ، وتحسين مردودية الجهد الإنساني ورفع فعاليته. 2 - التاريخانية، أي أنّ الحداثة قامت على معقولية التحوّل، وأفضت إلى تصور حركي للمجتمع، يحدد مراحلاً لنموه وتطوره، وهو نمو يخضع لمعيار التقدم. 3 - الحرية، كأرضية تعيّن شرعية السلطة، وتؤكد حق الإنسان في تقرير شؤونه المدنية، دون إكراه أو قيد. 4 - العلمانية، أي فصل السلطة السياسية عن المؤسسة الدينية، وفي مقابل ذلك الانطلاق من الإنسان كمفهوم مرجعي للممارسة النظرية والسلوك الأخلاقي والسياسي. وهي تجد مرتعها الخصب في إطار من الديمقراطية، التي تمارس عقلانياً وتنويرياً، وذلك على نحو تغدو فيه الديمقراطية والعقلانية والتنوير أحد أوجه العلمانية وصيغة من صيغ التحفيز عليها. وعندما تطرح العلمانية، بمعنى عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية لمواطنيها وبحيث تكون المواطنة هي أساس العلاقة بين الدولة والمواطن، فإنها أقرب لأن تكون مفهوماً سياسياً، يشكل ضمانة أكيدة للمساواة ولتلاحم المجتمع، حيث تكون العلاقة بالوطن والدولة علاقة سياسية وليست علاقة دينية قد تحد من المساواة السياسية بين أصحاب الديانات المختلفة. إنّ الكثيرين في العالم العربي لا يدركون تماماً ماهية العلمانية هذه ومدى أهميتها من أجل بناء مجتمع ديمقراطي على مستوى تحديات العصر. ولعل السبب في رفضهم العلمانية هو أنهم يخشون أن تكون مرادفاً لمعاداة الدين، على أنّ هذا الخلط لا أساس له، بل أنّ العلمانية من شأنها أن تحرر الدين من استغلال السلطة له. ويبدو أنّ كثرة الحديث عن التحديث والحداثة في مجتمعاتنا العربية تؤدي إلى ضبابية مفهوم التحديث نفسه، والخلط بين بعض مظاهره وجوهر العمليات الفاعلة المقترنة به، ولذلك فإنه بالقدر الذي لابد من تأكيد تلازم التحديث المادي مع الحداثة المعنوية، لا بد من تأكيد أنّ استكمال عمليات التحديث وتطويرها يعتمد على المبادئ التالية: (1) - إنّ عملية التحديث لا تتجسد إلا في إرادة مشتركة تشمل كل فئات المجتمع ومجالاته، بلا تمييز بين فئة وأخرى. فلا ينجح التحديث، أو يكتمل، إذا تحول إلى مهمة ينهض بها فريق على حساب غيره، أو اقتصرت فوائده على شريحة اجتماعية قادرة على حرمان غيرها من الشرائح غير القادرة، فالتحديث عملية لا بد أن يسهم فيها الجميع كي يعود نفعها على الجميع. (2) - إنّ شمول عمليات التحديث والحداثة في تعدد جوانبها المادية والمعنوية ينبغي أن يجعل منها عملية متفاعلة العناصر والمجالات، التي تشمل التعليم والثقافة في موازاة الاقتصاد والسياسة مع العلاقات الاجتماعية وأدوات الإنتاج المعرفي. (3) - إنّ خصوصية عالمنا العربي في علاقته بتاريخه الموغل في القدم وحاضره الذي لا يمكن إغلاقه عن العالم المعاصر تجعل عمليات التحديث والحداثة في أقطارنا العربية عملية مركبة، تهدف إلى تحقيق أهداف ثلاثة في وقت واحد: أولها، إزاحة المعوقات الموروثة عن سلبيات الماضي. وثانيها، المواجهة الجسورة لمشكلات الحاضر في كل المجالات. وثالثها، تسريع إيقاع العمل لتدارك الهوة التي تفصل بين عالمنا العربي وعالم التقدم الذي أضحى يعيش أزمنة ما بعد الحداثة. (4) - إنّ الخبرة التاريخية تقول لنا: إنّ بداية التحديث المادي هي الفكر الذي ينبغي أن يتجدد في كل مجال، سواء في التعليم كونه قاطرة المستقبل، أو في الإطار السياسي الذي ينبغي أن يتجدد ليستجيب إلى رغبة التطور عند المواطنين ويغذيها بما يجعل الدافع إلى التحديث دافعا وطنيا عاما، أو في الوعي المدني الذي ينبغي أن يتحرر من الخرافات التي تعرقل تقدمه. (5) - في عصر ثورة المعلومات، أصبحت التحولات على الصعيد الثقافي حاسمة في إنجاز التطور المنشود، فالمعرفة هي كلمة السر التي تفتح الأبواب المغلقة في زماننا، والثقافة أصبحت منتجا استراتيجيا. مما يتطلب: أولا، إطلاق طاقات الابتكار والإبداع الفكري والفني والعلمي لدى الإنسان العربي. وثانيا، الشفافية الكاملة في المجتمع، وحرية تداول المعلومات، والقضاء نهائياً على أي شكل من أشكال الفساد أو العبث أو التساهل في حياة الناس وأرواحهم. وهنا تأتي مسؤولية الدولة بالدرجة الأولى، فعليها يقع عبء تطوير مرافق المعلومات، وتغيير البنية التشريعية بما يحقق التدفق المرن واليسير للمعلومات، وتطهير أجهزة الدولة من كل ما يعوق عمليات تحديثها، أو يجعل منها عمليات مظهرية. إنّ الحداثة أكثر من أن تكون نتاجاً لمرحلة تاريخية منقضية، وإنما هي أقرب لأن تكون برنامجاً لم يكتمل بعد ولا يزال قادراً على أن يلعب دوراً إيجابياً في المجتمعات المعاصرة، فالحداثة تتضمن انفتاحاً على مستقبل غير مغلق وبلا نهاية، يتميز بإمكانية تحقيق التقدم المادي والاستقرار الاجتماعي والتحقق الذاتي. على أنّ الحداثة كل لا يقبل القسمة، أو التجزئة، فلا يمكن أن نقبل على الحداثة في المجال الاقتصادي والتقني ونهمل الحداثة في الفكر والسياسة. وقد يتخذ إنجاز المشروع الحداثي أساليب متنوعة في عالم الممارسة، ولكنّ الأهداف والأسس النظرية لم تتغير.
#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أصول إشكاليات الحالة العربية في التاريخ المعاصر وآفاق تطورها
...
-
أصول إشكاليات الحالة العربية في التاريخ المعاصر وآفاق تطورها
...
-
أصول إشكاليات الحالة العربية في التاريخ المعاصر وآفاق تطورها
...
-
في الدولة الأمنية
-
في الثقافة السياسية
-
العلمانية المؤمنة ضمانة للتقدم العربي
-
تحديات الأمن الإنساني في العالم العربي
-
نحو تجديد الثقافة السياسية العربية
-
عبثية الانقسام الفلسطيني
-
هل تعود الشرعية الديمقراطية إلى موريتانيا ؟
-
العراق على طريق الاستقلال
-
خصائص الإسلام السياسي الديمقراطي
-
ما الجديد في خطاب - حماس - ؟
-
إيران .. إلى أين ؟
-
التنشئة السياسية وأدواتها
-
نحو تصويب العلاقات العربية - الأمريكية
-
المكان العربي وتفاعلاته في القرن العشرين (3)
-
المكان العربي وتفاعلاته في القرن العشرين (2)
-
المكان العربي وتفاعلاته في القرن العشرين (1)
-
أي لبنان بعد الانتخابات ؟
المزيد.....
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|