|
أفول التيار الإنساني والعقلاني..مشكلة العقل والنقل
ألطاف عبد الله عبد الكريم
الحوار المتمدن-العدد: 2762 - 2009 / 9 / 7 - 17:41
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
العقل هو أحسن الأشياء توزعا بين الناس (بالتساوي). إذ يعتقد كل فرد أنه أوتى منه الكفاية، حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره، ليس من عادتهم الرغبة في الزيادة لما لديهم منه. وليس براجح أن يخطئ الجميع في ذلك، بل الراجح أن يشهد هذا بأن قوة الإصابة في الحكم، وتمييز الحق من الباطل، وهي في الحقيقة التي تسمى بالعقل السليم أو النطق، تتساوى بين كل الناس بالفطرة، وكذلك يشهد بأن اختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة، ولا ينظر كل منا فيما ينظر فيه الآخر، لأنه لا يكفى أن يكون للمرء عقل، بل المهم هو أن يُحسن استخدامه. وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل استعدادها لأكبر الفضائل. والذين لا يسيرون إلا جد مبطئين يستطيعون حين يلزمون الطريق المستقيم أن يسبقوا كثيرا من يعدون ويبتعدون عنه". نصيب الإنسان العربي من العقل ليس أقل من نصيب غيره من إخوته في الإنسانية، ولو ألقى تجار الآلام في روعه غير ذلك. فالأرجح ـ كما أسلفنا ـ أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس. وعليه يصير مقبولا، ونحن بصدد الحديث عن العقل العربي، ألا نفرق بينه وبين غيره من عقول أمم الأرض. فالعقل الذي يسكن أجسادنا معشر البشر واحد، سواء كان صاحبه عربيا أو أفريقيا أو أوروبيا أو آسيويا أو أمريكيا! كل ما في الأمر أننا معشر العرب نوجه أفكارنا في اتجاهات خاطئة ونسلك طرقا مجدبة، ناسين أنه لا يكفى أن يكون للمرء عقل، بل المهم أن نُحسن استخدامه، فهو بوصلتنا في طريق الحياة، إن ضل ضللنا وإن أصاب أصبنا! العقول البشرية تستطيع التوصل إلى معرفة صحيحة عن ظواهر الطبيعة إذا هي شاركت في العقل الكلي، أي إذا هي اجتهدت في البحث في نظام الطبيعة وأدركت ما يتصف به هذا النظام من ضرورة وشمول. فهذا العقل الكوني أشبه ما يكون بـ "نار إلهية لطيفة"، بل هو "نور إلهي"، هو حياة العالم وقانونه. والنفس البشرية قبس من هذه النار الإلهية، أي من هذا القانون الكلي الذي يسري في الطبيعة ويحكمها، فعليها إذن أن تعرف هذا القانون وتعمل بموجبه. و إذا كانت الفكرة عن العقل الكلي تميل إلى إقرار نوع من وحدة الوجود، باعتبار أن العقل الكوني هذا محايد للطبيعة غير منفصل عنها، فإن تصور العقل الكلي، يختلف من حيث إنه مبدأ مفارق، غير مندمج في الطبيعة ولا محايد لها. و الأجسام مركبة من أجزاء متشابهة تقبل القسمة إلى غير نهاية من حيث المبدأ، ولكن مع افتراض وجود أجزاء في غاية الصغر لا تنقسم، هي أشبه بالبذور الأولى، لا تُدرك بالحواس وإنما تُتصور بالعقل فقط. ولقد كان الكون في أول أمره عبارة عن خليط فوضوي من هذه البذور، والعقل هو الذي نظم كل شيء وهو العلة لجميع الأشياء. ذلك لأنه كي يتمكن ذلك الخليط الأولى، أو العماء الكلي، من الخروج من عطالته لابد من قوة محركة تقوم بالفصل بين الأجزاء ثم الوصل بينها وإعادة تركيبها. وهذه القوة المحركة سميت"النوس" أو العقل الكلي. وهى تدرك جميع الأشياء التي امتزجت وانفصلت وانقسمت، وهى التي بثت النظام في جميع الأشياء التي ُوجدت والتي توجد الآن والتي سوف توجد. وهكذا فالعقل يحكم العالم، فهذه النظرية لا تترك أي مجال للصدفة، فكل شيء حسبها نظام وضرورة. وإذا كان هناك ما يبدو، كأنه مجرد مصادفة، أي غير خاضع للحتمية والضرورة، فليس ذلك راجعا إلا إلى عجزنا عن اكتشاف سببه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فـ "النوس" ليس عقلا يفكر وحسب، هكذا بعيدا عن العالم متعاليا، بل إنه أشبه بالنفس: هو بالنسبة للعالم كالنفس بالنسبة للجسم، بل هو نفس كل ما له نفس، أو أن نفوس الكائنات الحية قبس منه، ومع ذلك فهو غير محايد للطبيعة إذ يظل مستقلا عنها خارجا عن دائرتها. إنه عبارة عن نفس مستقلة تصدر عنها نفوس مستقلة كذلك. ولعل فترة العصور الوسطى هي الفترة الأقل ثراء وخصوبة في رحلة العقل عبر التاريخ، فالعصور الوسطى لم تكن في الواقع غير دور من أدوار تطور العقل الإنساني وهو يسعى إلى تحقيق ممكناته، دور عامر بالتفكير الحي الخصب المناضل من أجل حرية العقل في التفكير والبحث عن الحقيقة واكتناه أسرار الطبيعة وتحقيق الوسائل المؤدية إلى تقدم الإنسانية! إن العقل الإنساني وجد نفسه مغلقا عليه داخل أسوار متينة هي أسوار العقيدة الدينية، فكان عليه أن يقتصر على التجوال بين هذه الجدران. ولما بدأ يشعر بشيء من الحرية كان عليه مع ذلك أن يحدد موقفه من مسألة حق العقل بإزاء النقل، أعنى الصلة بين نفسه وبين مضمون العقيدة الدينية. وكان عليه في أول الأمر أن يقول بأن الاتفاق تام فيما بين ما يقول به العقل وما أتى به الدين، لأن الحق لا يتعدد، والفلسفة ما هي إلا البحث عن الحق، والحق هو الدين. لهذا نجد عند الآباء الأولين أن كلمة "لاهوت" وكلمة "فلسفة" أو "حكمة" تدلان على أمر واحد. ثم تطورت الصلة شيئا فشيئا، فحاول العقل أن يؤكد كيانه إزاء هذا المضمون. فبدأ أولا بالخضوع في شيء من الدهاء، بأن قال إن الحقيقة هي الحقيقة الإيمانية، غير أن هذه الحقيقة مجملة، فهي في حاجة إلى التفصيل والشرح، وكلاهما يتم عن طريق العقل. وهذا الموقف نراه واضحا في القرنين العاشر والحادي عشر، إذ نجد أن المسلم ينشد من وراء استقلال التفكير أن يتعقل الإيمان، أي يفسره حتى يتعقله، ولهذا كان شعاره "أومن لأتعقل. إن الحقيقة الدينية تتفق في كل أجزائها مع ما يقضي به العقل. بيد أننا نجد عنده تقدما أكثر من ذلك، لأن هناك أيضا تعارض بين أقوال اللاهوت بعضها وبعض، وبين أقوال اللاهوت وأقوال الفلاسفة، وما إن أقبل القرن الثالث عشر حتى بدأ ميدان العقل يحدد أكثر فأكثر ويتميزه من ميدان الإيمان، تمييزا يمضي قدما لدى كبار الفلاسفة اللاهوتيين نحو التمييز الواضح البين بين ما للعقل وما للنقل، وهذا التيار يستمر قويا حتى نصل إلى معرفة الحقائق، فنرى ميدان النقل الذي يمكن إثباته بالعقل قد انحسر شيئا فشيئا وضاق مداه، فتوما الاكويني أبعد من ميدان البرهان العقلي عددا وافرا من العقائد الدينية التي ظن أسلافه أن من الممكن إثباتها بطريق العقل، مثل التثليث والتجسد والخلاص، فقال إنه ليس من الممكن أن يُبرهن عليها عقليا. وجاء من بعده سكوت أريجين فأنكر إمكان إثبات خلود النفس إثباتا عقليا. وبحلول القرن الرابع عشر انفصل ميدان العقل عن ميدان الدين انفصالا يكاد يكون تاما، بمعنى أن ما يأتي به الوحي قد لا يكون قابلا للبرهان العقلي، وما يقضي به العقل ليس من الضروري أن يكون الوحي قد جاء به. وكانت نتيجة هذا كله أن أصبحت مشكلة العقل والنقل مشكلة غير ذات موضوع، مما كان إيذانا بقيام الفلسفة الحديثة التي لن تحاول التوفيق بين العقل والنقل، بل تدع هذه المشكلة خارج نطاق البحث الفلسفي. هذا ما حصل في أوروبا المسيحية، أما فيما يخص العالم الإسلامي، فالآراء عديدة ومتباينة، ولا يتسع المجال لذكرها جميعا. لذا نكتفي بأن نُورد رأيا قد يراه الكثيرون الأبرز والأكثر انسجاما مع القراءة المتأنية لما آلت إليه أوضاع عالمنا الإسلامي، وهو قول المفكر محمد أركون بأن المواجهة بين العقل الديني أو اللاهوتي/الفقهي والعقل الفلسفي بلغت أوجها في الفترة الواقعة بين القرنين التاسع والحادي عشر الميلاديين. وولدت عندئذ أعمالا فكرية وأدبية رائعة ترهص بالحداثة أو تمثل ما كان أركون نفسه قد دعاه بالحداثة البدائية الأولية. ففي القرن العاشر مثلا استطاع الموقف الفلسفي أن يكسب مساحة اجتماعية وسياسية واسعة بما يكفى لتغذية تيار إنساني حقيقي يستوعب المرجعية الدينية دون أن يعترف لها بالأولوية (إلا فيما يخص سلوك العوام) ولا حتى بالأسبقية. ولكن هذا التيار الإنساني والعقلاني كان للأسف سريع الأفول. فبعد وصول السلوجوقيين إلى السلطة في القرن الحادي عشر أخذت الأطر الاجتماعية والسياسية للمعرفة تضيق وتفتقر. وراحت بالتالي تحبذ أولوية العقل اللاهوتي/الفقهي على العقل الفلسفي. وما انفك هذا الاتجاه يتزايد ويتفاقم منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا عمليا. وهو ما دعا أركون إلى القول بأن تصفية الموقف الفلسفي من ساحة الفكر الإسلامي تصفية شبه كاملة، إن لم تكن كاملة بالمرة، إنما يُعد نتيجة طبيعية لأفول التيار الإنساني والعقلاني. الفكر الأوروبي الحديث يظل ، رغم كل ثوراته على "القديم" متمسكا بفكرة "العقل الكوني"، متصورا إياه على أنه "القانون المطلق للعقل البشري". وأراني مقتنعا بعدم تعارض أن العقل في أوروبا الغربية بدا من القرن السادس عشر أو السابع عشر ينطلق على أسس جديدة غير تلك التي كان يعرفها سابقا. فقد تحرر ـ العقل الفلسفي من هيمنة العقل اللاهوتي المسيحي، إذ أعطيت الاستقلالية الذاتية للعقل البشري وللذات البشرية بعد ما انتزعت من براثن العقل اللاهوتي القروسطى.. والمقصود بالاستقلالية الذاتية هنا أن الذات البشرية هي التي أصبحت تبلور الأخلاق وقواعد السلوك وتنظيم المجتمع على مسؤوليتها الخاصة. أصبح التشريع وسن القوانين مسألة بشرية بحتة. وهذا شيء ما كان ليحدث في العصور السابقة، ما كان الإنسان ليجرؤ أبدا على أن يصبح هو معياريته الخاصة ويستقل عن المعيارية الخارجية عليه والتي تحكمت به طيلة قرون وقرون. وهكذ اختلفت مكانة العقل كليا عما كانت عليه في العصور الوسطى، وانتقلت أوروبا الغربية من مرحلة العقل اللاهوتي القروسطى إلى مرحلة العقل الحديث الكلاسيكي، المرتكز على اليقينيات المطلقة. والآن، أما وقد وصل تتبعنا لرحلة العقل عبر التاريخ لنهايته، يبيت لزاما علينا القول بأن أوروبا تنتقل الآن من مرحلة العقل الحديث الكلاسيكي المرتكز على اليقينيات المطلقة إلى مرحلة العقل النسبي أو النقدي الذي يعود على نفسه باستمرار من أجل تصحيح مساره أو تعديله إذا لزم الأمر! وهو ما يدعوه البعض الآن بعقل ما بعد الحداثة، أي عقل أكثر تواضعا، لكن أكثر دقة وحركية في آن معا(عقل ما بعد انهيار الإيديولوجيات الكبرى واليقينيات الراسخة). ولعل في قول أركون بأن الفرق الوحيد بين عقل الحداثة وعقل ما بعد الحداثة هو أن الثاني وهو يبلور المعارف الجديدة يعرف أنه لن يصل إلى الحقيقة المطلقة، ويعرف أنه يصل إلى حقائق نسبية، مؤقتة، قد تدوم طويلا أو كثيرا، ولكنها حتما لن تدوم أبدا. أقول إن قول أركون يشي بمأساة العقل العربي الذي أراه لا يزال بمحاولاته المتواضعة وأغلاله الثقيلة يسعى لولوج "الحداثة" وما أظنه يلجها بوضعه الراهن! ناهيك عن مرحلة "ما بعد الحداثة" التي يرفل الآن في غلائلها العقل الغربي! وللذات العربية أن تثور غيرة على ما قد تتصوره إهانة لكبرياء العقل العربي وكرامته، هذا إن اعتبرنا القول بتواضع وضآلة مساهمة العقل العربي فى رحلة العقل عبر التاريخ إهانة، وللذات العربية أيضا أن ترمي كاتب هذه السطور بما يروق لها ويطفئ نيران ثورتها، و أن تمضى قُدما في قراءة البحث الماثل حتى نهايته، عسى أن تجد فيه ما يهدئ روعها وينفى عنا ما قد تكون تلك الذات قد رمتنا به من تُهم بغير حق. أقول هذا وأنا أعلم علم اليقين أن الأمر ليس بالهين، فتجار الآلام في عالمنا العربي لم ولن يملوا تعمية مواطنيهم عما يحدث من هدر للثروة العقلية العربية، تكريسا لمصالحهم ولو كان الثمن كبرياء وكرامة العقل العربي المغلول!! أقول إن تجار الآلام، لا يعدمون الطرق والحيل للتغرير بضحاياهم، حتى أنى ـ مع ما أزعمه لنفسي من دراية كافية نسبيا بتلك الحيل ـ كثيرا ما راودني الشك في مسألة هدر العقل العربي!! فكثيرا ما سألت نفسي: هل هناك هدر فعلى للثروة العقلية العربية؟! أم أن الاتهام بالهدر اتهام جائر ليس له أساس من الصحة على أرض الواقع؟! غير أن الواقع حولي والتاريخ ورائي يؤكدان لي دوما أني ما ضللت الطريق وما تجنيت حين عمدت لرصد تلك الظاهرة الخطيرة، بوصفها مسئولة بصورة مباشرة عن خروجنا المخزي والمهين من التاريخ...
#ألطاف_عبد_الله_عبد_الكريم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
-معاد للإسلام-.. هكذا وصفت وزيرة داخلية ألمانيا المشتبه به ا
...
-
-القسام-: مقاتلونا أجهزوا على 3 جنود إسرائيليين طعنا بالسكاك
...
-
من -هيئة تحرير الشام- إلى وزارة الخارجية السورية.. ماذا تعرف
...
-
جزيرة مايوت المنسيّة في مواجهة إعصار شيدو.. أكثر من 21 قتيلا
...
-
فوائد صحية كبيرة للمشمش المجفف
-
براتيسلافا تعزز إجراءاتها الأمنية بعد الهجوم الإرهابي في ماغ
...
-
تغريدة إعلامية خليجية شهيرة عن -أفضل عمل قام به بشار الأسد
...
-
إعلام غربي: أوروبا فقدت تحمسها لدعم أوكرانيا
-
زعيم حزب هولندي متطرف يدعو لإنهاء سياسة الحدود المفتوحة بعد
...
-
أسعد الشيباني.. المكلف بحقيبة وزارة الخارجية في الحكومة السو
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|