سوسن السوداني
الحوار المتمدن-العدد: 2758 - 2009 / 9 / 3 - 21:22
المحور:
الادب والفن
يؤكد أ. بن يمينة السعيد بأن تعريف "(المثقف) قضية خلافية بين الكتّاب والمفكرين فلا يوجد اتفاق بينهم على تحديد من يمكن أن نطلق عليه (مثقفا) ومن لا يمكن اعتباره كذلك، واختلفوا أيضا بين تصنيفاتهم للمثقفين... فالمثقف ليس خالقا، فدوره يكمن في توكيد الاختلاف ... حيث تكون الحرية الخلاقة، والثقافة الحقيقية، والحرية. وبذلك تتركز مهمة المثقف بشكل أساسي في التنوير الذي عرّفه كانط "خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر (عند الإنسان) خارج قيادة الآخرين. والإنسان (القاصر) مسؤول عن قصوره لأن العلة ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين. لتكن تلك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر التنوير.... وأن التنوير قضية فردية لا علاقة لها مباشرة بمشاريع جماعية كبرى، ولا بأفعال تغيير وحركات ثورة".
ورغم ان المثقفين، من وجهة نظر جوليان بندا، عصبة صغيرة من الملوك الفلاسفة؛ فإنهم يجب "أن يتحلوا بالموهبة الاستثنائية وبالحس الأخلاقي الفذ، وان يشكلوا ضمير البشرية"، وإن الحجة الرئيسية التي طرحها غرامشي عن المثقفين حجة بسيطة، وهي إن تصورهم كفئة اجتماعية متميزة ومستقلة عن المجتمع ليس إلا خرافة، فكل الناس يمكنهم أن يكونوا مثقفين، يستخدمون ذكاءهم، ولكنهم ليسوا جميعا مثقفين من حيث الوظيفة الاجتماعية، فالمثقفون ينقسمون من الناحية الوظيفية إلى جماعتين: فهناك أولا المثقفون المحترفون (التقليديون) "traditional intelellectuals" كالأدباء، والعلماء، وغيرهم، الذين تحيط بهم هالة من الحياد بين الطبقات، تخفي وضعهم الحقيقي الناشئ في النهاية عن علاقاتهم الطبقية السابقة والراهنة، كما تخفي تعلقهم بالتكوينات الطبقية التاريخية المختلفة. وهناك المثقفون (العضويون) "organic intelellectuals " ذلك العنصر المفكر والمنظم في طبقة اجتماعية أساسية معينة. ولا يتميز هؤلاء المثقفون العضويون بمهنهم، التي قد تكون أية وظيفة تتميز بها الطبقة التي ينتمون إليها، بقدر ما يتميزون بوظيفتهم في توجيه أفكار وتطلعات الطبقة التي ينتمون إليها عضويا، وبذلك يمكن القول ان علاقة المثقف بما حوله شهدت إشكالات عديدة فهنالك عدة أنماط لعلاقات المثقف مع واقعه، ومن ذلك علاقة المثقف بالسياسة وعلاقته بالمجتمع كمواضيع وثيقة الصلة بالمثقف وتتبادل التأثر والتأثير، فهناك هاجس كبير للمثقف بالسياسة باعتبارها أفضل طريق للتغيير المجتمعي لأنها أنجع الوسائل على إحداث التغييرات بما تملكه من سلطة ، وان هذا الأمر يعتبر كذلك واحدة من الإشكاليات التي تواجه المثقف العراقي ومن الإشكاليات المزمنة في الحياة السياسية العراقية و ذلك راجع ، برأينا، إلى زمن تأسيس الدولة العراقية في العشرينات , حيث كان السياسي هو اللاعب الاساس في الساحة السياسية العراقية مما منحه الدور الحاسم والمقرر لترتيب البيت العراقي وتحديد شكل وطبيعة الحكم السياسي وأتجاهاته , وطبيعة عملية التغيير في المجتمع العراقي الذي أتسم أقتصاده بالطابع (الزراعي - الرعوي) , والذي سادته الامية والجهل والتخلف بسبب التركة الثقيلة للاستعمار العثماني .
ولأن المثقف مشدود للواقع الذي يحيط به، فان لا مناص من دخول فعل التغيير الاجتماعي عبر السياسة وهو يأتي عن طرق عدة: مباشرة من خلال الوصول لمنصب سياسي، أو شبه مباشرة من خلال التحالف مع السياسي، أو أحيانا الخضوع لرغبة السياسي، وهذا المثقف يسميه أ. بن يمينة السعيد "المثقف الريعي المعروف بتماهيه مع السلطة" انه "مثقف السلطة الذي يفقد مضمون المثقف لأنه يفقد مقوماً مهماً من مقومات المثقف وهو النقد حيث يوصف بأنه موظف للسلطة ، وقد يتعدد توجه مثقف السلطة السياسية فقد يكون دينياً أي ذو مرجعية دينية أو يكون علمانياً ذا مرجعية علمانية فكلاهما سواء في الموقف من السلطة من حيثية أنهما يؤديان وظيفة مهمة واحدة وهي التبرير... ومن هؤلاء الفقهاء والمفتون ومن يُشغلون المناصب الدينية في الدولة .... ومنهم الإعلاميون والمثقفون والأكاديميون والباحثون العلمانيون عندما يشتغلون في داخل السلطة.... وأن ما يجمع بين هؤلاء هو افتقاد النقد الموجه للسلطة السياسية تحديداً "، أو طرق غير مباشرة من خلال المعارضة ومجموعات الضغط السياسي التي تهدف إلى إجبار السياسي على التنازل السياسي لمطالب التغيير الاجتماعي ويسميهم "المفكرين الاحتجاجيين" او "المثقفين الناقدين للسلطة" ، وفي العراق كانت فئة المثقفين حديثة التكوين تمارس التمارين الاولى للنضال على الساحة السياسية العراقية أسوة بباقي الطبقات والفئات الاجتماعية , من خلال جملة من النشاطات الاجتماعية والسياسية والفكرية في ذلك الحين , مثل أصدار صحيفة (الصحيفة) وتأسيس جمعية التضامن لنشر الوعي التقدمي الديمقراطي الداعي الى تحرير المرأة ومساواتها بأخيها الرجل, وتحرير المجتمع من الافكار القدرية التي تكبل الوعي الاجتماعي وتجعله يدور في فلك تخلف القرون الوسطى وتجهض مشروعه النهضوي,و كذلك تحريض الطلبة للتظاهر ضد (الفريد موند) صاحب وعد بالفور والصديق الوفي للحركة الصهيونية العنصرية, والتضامن مع الحركة النقابية الفتية (جمعية الصنايع وأصحاب المهن) بقيادة مؤسس الحركة النقابية العراقية (محمد صالح القزاز), من هنا أراد المثقف أن يلعب دورا أكبر على الصعيد الاجتماعي شعورا منه بأهمية ذلك لنشر الوعي الاجتماعي والتعويض عن الاقصاء والتجهال لدوره في العملية السياسية في عملية بناء الدولة العراقية الحديثة في عام 1920.
لقد كان أدراك المثقف العراقي لهذا الاقصاء في العملية السياسية جعله يسعى عبر مختلف الطرق والوسائل لتأثير على هذه العملية, من خلال منابر مؤسسات المجتمع المدني (الجمعيات,النوادي ,الجامعات,الصالونات..الخ), لتحويلها إلى منابر للحوار في مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية, والتحريض من خلالها على التحرك لحماية مصالح عامة الشعب ومقاومة القوانين والاجراءات التي تكبل أرادته, والنضال من أجل تحقيق الاستقلال والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.
لقد بقي تأثير المثقف مقارنة بالسياسي، وعبر مختلف العهود المنصرمة, في العملية السياسية وعملية أدارة الدولة محدودا جدا, وقد استخدمته القوى السياسية الحاكمة بمختلف انتماءاتها الطبقية, للدفاع عن خطابها السياسي وتبريره (أيديولوجيا), والمثقفين اللذين أتخذوا مواقف معارضة لتلك السياسة, كان مصيرهم التشريد والنفي والسجن والاعدام والاغتيال والموت وغيرها من الوسائل المبتكرة, منذ ( بهجة العطية) في عهد النظام الملكي وأنتهاء بديكتاتورية الصنم الساقطة 2003 ,وكانت تلك الديكتاتورية الفاشية الصدامية هي أبشع الفترات التي مرت على الثقافة والمثقفين العراقيين, فلم تكتفِ الديكتاتورية بإقصاء المثقف وتشويه الثقافة الوطنية, بل ومحاولة تجهيل أبناء الشعب ونشر الامية الثقافية والسياسية.
وبعد التغيير منح المثقف حرية التعبير والعمل المهني الديمقراطي, ولكن النظرة القديمة المستمدة من الموروث السياسي حول دوره لم تتغير الا بشكل طفيف, فمازالت الحكومة، والأحزاب السياسية العراقية الدينية الطائفية والقومية وحتى العلمانية منها بدرجة ما، تكرس تبعية المثقفين معيشياً واقتصادياً لهذه الجهات، فمازالت (ربّ عملهم) شبه الوحيد، حيث لا مجالات عمل لهم إلا في مؤسسات هؤلاء (كعاملين ذهنيين) في وسائل الإعلام والثقافة وفي المدارس والمعاهد والجامعات، وفي بيروقراطية الدولة الإدارية والاقتصادية، حيث الدولة هي المالكة، والسلطة السياسية هي الآمرة الناهية، التي تتعاقب تلك الأحزاب على تسلم السلطة فيها اليوم عبر آلية الانتخابات بدل الانقلابات العسكرية السابقة، فالمثقف سيضطر على الأرجح لأن يعمل لدى الأحزاب والدولة بشروطها الاقتصادية والسياسية، أو يبقى عاطلاً عن العمل، إلا أننا لا يمكن ان نعمم هذا الحكم باعتباره حكما مطلقا فمن غير العادل ان نصف كل من عمل من هؤلاء لدى الدولة او الأحزاب السياسية التي داخل او خارج السلطة السياسية باعتبارهم مؤيدين للسلطة، إلا ان الضغوط والإغراءات القوية تؤدي بالكثرة الكاثرة منهم على الانزلاق في ذلك فالسلطة السياسية الحاكمة في معظم البلدان المتخلفة قد استحوذت على المجتمع بعد أن استحوذت على الدولة وهؤلاء المثقفون جزء ممن فرضت الحكومة هيمنتها على رقابهم سواء بالمغريات او بالقوة الغاشمة.
من هنا تصبح عملية مساهمة المثقف في عملية إعادة تشكيل العراق الجديد ليست بالعملية الهينة وتتطلب نضالا شاقا في ظل سيادة المحاصصة السياسية الطائفية والعرقية, وأنتشار المفاهيم البالية والمتخلفة بين عامة الشعب, واستشراء الفساد الإداري والمحسوبية والمنسوبية على حساب الامانة والكفاءة, فإذا مارس المثقف حقه الديمقراطي بالاختلاف، فذلك يعني من وجهة نظر الآخر الذي يمتلك السلطة انه مقصر بالدور الموكل إليه، وغالباً ما يلجأ السياسي إلى معاقبة المثقف والثقافة، معتبراً إياها ترفاً أو خيالاً في احسن تعريفاتها عند هؤلاء، وإنها تعيق العمل السياسي وتخلق له الصعوبات، ويركز بالمقابل على ما يعتبره عملياً، أي الإعلام، مُبعِِداًَ الثقافة أو مهمشا دورها، فشنت الحملات المسعورة لتهجير المثقفين العراقيين ذوي الكفاءات المختلفة وعبر مختلف الأساليب: الاختطاف, الاغتيال , الاقصاء السياسي, التهديد والابتزاز...الخ , في مواجهات يومية مع السلطة او مع زمر التكفير, وجماعات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر , وأستمرار ألاعمال الاجرامية والارهابية بمختلف أنواعها ضد كافة أبناء الشعب العراقي ، وان الحل في النهاية يكمن في إصلاح الدولة من خلال الارتقاء بها من دولة العصبية إلى الدولة الحديثة، دولة جميع المواطنين، حيث تكون الدولة في خدمة أهداف المجتمع وليس العكس.
ولكن بالرغم من كل هذه الصعوبات التي يواجهها المثقف مع أبناء الشعب العراقي , يتطلب منه التحرك عبر مختلف المنابر الاعلامية الرسمية والحزبية وأستخدام منظمات المجتمع المدني والمنظمات المهنية الديمقراطية والمنظمات الانسانية لتحريك الشارع العراقي, ودفعه لدفاع عن مصالحه وتشكيل قوة ضاغطة على القوى والاحزاب السياسية التي تحاول تقزيم العملية السياسية وأستخدام الانتصارات الانتخابية لترتيب أستحواذها على السلطة السياسية, ويتطلب من المثقف السعي للتأثير على إعادة صياغة الدستور بما يعكس الشراكة بشكل متساو في الوطن لكل القوميات والاقليات العرقية والدينية, والتأكيد على تثبيت التداول السلمي للسلطة والتعددية السياسية والثقافية, واحترام المرأة ومساواتها بالرجل عبر تشريع القوانين التي تضمن ذلك, والاقرار بالمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان, وتأكيد علمانية الدولة العراقية واحترام الحريات الدينية, واحترام سيادة القانون والحريات العامة واستقلالية القضاء ... وفيدرالية دولة العراق والحقوق القومية المشروعة للشعب الكوردي وغيرها من القضايا السياسية والاجتماعية والانسانية التي يتطلب من الدستور أن يتضمنها, وتلك القضايا لايمكنها أن تتحقق أذا ظل المثقف العراقي صامتا كما يحدث اليوم, وإذا لم يتحول المثقف الى مثقف شعبي قادر على استخدام المنابر الشعبية لإيصال رسالته ووضع بصماته على العملية السياسية من خلال السعي وعبر مختلف الوسائل والطرق لرفع مستوى الوعي الاجتماعي لتفويت الفرص على القوى الرامية الاستفادة من أرث الفاشية الدكتاتورية بالتجهيل السياسي والثقافي لفرض أجندتها السياسية من خلال التلاعب بمشاعر الجماهير الشعبية الكادحة.
#سوسن_السوداني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟