مشعل التمو
الحوار المتمدن-العدد: 839 - 2004 / 5 / 19 - 04:55
المحور:
القضية الكردية
لا ريب أن الثقافة السياسية التي أوجدها حكم الحزب الواحد والمرادفة بالتالي لمرادفات ثنائية , اقصائية , باتت المخزون المعرفي والأساس الفقهي الذي يستند إليه الكثير من ممثلي الأطر والفعاليات السياسية العربية في بناء الموقف من الآخر المتمايز قوميا وحتى المتباين فكريا , وبالتالي فقاعدة الانطلاق تتشابه إلى حد كبير وان اختلفت التسميات هنا أو هناك , بمعنى سواء كان التيار المعني في السلطة , أو في المعارضة؟ واعتقد بان البنية الفكرية – المرجعية - تنبع من الفضاء القوموي المتضخم ذاتويا والذي فشل في مجاراة أو التخلص من منظومة الآخر – الغربي – مما أوجد احتباسا في آليات التطور وتحصينات متنوعة تجسدت في الكثير من شعارات الذات القوموي ومرادفها الذي يؤمن ديمومتها واستمراريتها والذي يعرف بنظرية المؤامرة , وهي شماعة الفشل المجتمعي في تحقيق أي من تلك الشعارات الذاتوية .
هذه الثقافة التي تفتقد في الكثير من جوانبها مكونها الأساس , الحرية , الفكر , وبالتالي تمحور إنتاجها في ممارسة عقيمة تعيد إنتاج ذاتها في دورات متلاحقة من الفشل المجتمعي والانتصار الشعاراتي , وهي الدورات التي لا فكر حر لها , وفي كل تنويعاتها المختلفة تدل على قواعد ارتكازها وارتكاسها بان واحد , ويبقى دالها في طقوسها المدرسية ومشروعياتها المتهالكة التي تجاوزها الواقع بحكم فشلها في أن تكون أو أن تُوجد في المجتمع ديناميكيات معاصرة تدفع إلى التطور والحرية و... الخ فالموجود هنا مآس وفواجع أن كان على صعيد الوعي الإنساني ( ثقافة وسياسة واقتصاد واجتماع ) , أو على صعيد خلق بيئة حاضنة لنمو الوعي بالديمقراطية , أو حتى على صعيد الفهم المعرفي لمعنى وضرورة الحرية , بجكم إنها – المشروعيات المستديمة – نافية لغيرها , محتكرة للحقيقة , ولرسالتها الشمولية الوحدانية , ووفق منطقها الداخلي هذا – المقدس – يتوجب على الكل المخطىء التوبة والانخراط في الرسالة الواحدة , المنجية , والمخلصة من الوثنية ؟
على هذا المنطق ووفق تلك الأسس جاءت أفكار الدكتور ناصر عبيد الناصر – البعثي – في الندوة الحوارية التي دعا إليها منتدى الاتاسي في 11/1/2004 الذي اعتبر أن ( مشكلة الجنسية خلقتها بعض الظروف الخارجية ) و ( حلها لن يحل المشكلة لان الأكراد لا زالوا يتدفقون بشكل متواصل عبر الحدود ؟ ) و ( نحن في سوريا لا يقلقنا بعض المطالب التي لم تنضج ظروفها ولن نغير ولن نتغير بشروط الآخرين ) و ( نعتب على الأخوة الأكراد طرح القضية في محافل دولية مشبوهة وهو يسيء إلى سمعة القطر ) و ( استغرب وربما استهجن هذا التوقيت لمناقشة قضية ليست في سلم الاولويات ) و ( بالنسبة للقضية الكوردية اعتقد بان حقوق المواطنة قائمة ) و ( نحن ننعم بوحدة وطنية وبالتالي فالمصالحة الوطنية غير مطروحة ... المصالحة الوطنية بين من ومن ؟ ... إذا كان ولا بد من مصالحة وطنية فالمطلوب أن تتصالحوا كمعارضة بين بعضكم البعض , لأنكم لا تتفقون على قاسم مشترك واحد ؟ . ) و( حق تقرير المصير في الوطن العربي يتناقض مع الوحدة الوطنية ) و ( هناك أصول عربية للأكراد أي أن الجذر واحد ) و ( المطبوعات الكوردية ذات نزعة انفصالية .. والعرب لم يكونوا يوما من الأيام عنصريين .... الواقع أن هناك 200 ألف كوردي في إسرائيل , يعتنقون اليهودية وليس الإسلام , وهؤلاء شكلوا جمعية صداقة كوردية إسرائيلية , وهذه المسالة نتمنى من خلال التواصل الذي يتم أن يكونوا اخواننا الأكراد في سوريا وفي الوطن العربي عنصر ضاغط على هؤلاء ويحولوهم إلى قنابل بشرية تتفجر في العدو الإسرائيلي ؟؟؟ ) .
عندما نقول بان القضية الكوردية في سوريا هي قضية وطنية بامتياز , فهذا يجعلها تتعلق بالأغلبية ( العربية ) بمقدار تعلقها بالأقلية (الكوردية ) , والأقلية والأغلبية هنا بمفهوم العدد ليس إلا , وبالتالي حلها سيوفر فضاء وطني حيوي تتجسد فيه الهوية الوطنية السورية بإبعادها وتعبيراتها ومكوناتها كافة , وهذا يقودنا إلى مفهوم الهوية الوطنية وأشكال تجليها المجتمعي ومرتكزات ممارسة تعبيراتها في المجتمع السوري , وبالتالي فما هو موجود هوية عروبية اختزلت الوطنية عبر تغييب الهويات الأخرى وإقصائها مثلها في ذلك كمثل المجتمع السوري ككل , بمعنى أن مجمل السياسات والممارسات التي اتبعت في تحنيط المجتمع السوري وتعليبه وفق رؤية حزبوية , شمولية , أفقدته هويته الوطنية ونزعت عن مكوناته السمة الوطنية التي اختزلت هي الأخرى في مسار أوحد يندرج في تكوينات واحدية تعتبر نفسها المجتمع والدولة والهوية , وكل خارج عنها يصنف في خانة العداء والأحزاب الكوردية جزء من منظومة مجتمعية كاملة وضعت في خانة المعادية , وبالتالي فالحديث عن هوية وطنية لا يتجاوز المتخيل الرمزي كناتج للذخيرة المعرفية لدى الدكتور ناصر , وهو متخيل خارج عن نطاق الحقيقة الواقعية , الواقعية الموجودة في المجتمع السوري , كمعطى مجتمعي , وجودي , وضعي , إنساني ؟ مكونات موجودة في المجتمع وان كانت خارج نطاق الخطاب الأصولي العروبي , وهذا المعطى الوجودي حتى وان تم تغييبه لفترة طويلة ولكنه هو من يصنع الحقيقة وليس المتخيل الوهمي للرؤية الشمولية .
ولعل متخيل الدكتور ناصر الوهمي انسحب بكل مرونة وحيوية ليعلن بان مشكلة الجنسية خلقتها ظروف خارجية ؟ والظرف الخارجي هنا هو حصاد اللاوعي المتخم بالانا المقدسة التي تؤمن بان الكل يتآمر عليها وان ما يحصل لها ليس نتيجة لفشلها أو استبدادها أو ركيزتها المعرفية ورؤيتها الفكرية , وإنما فقط لذاك التآمر , والحسم هنا خاضع للفهم اللاهوتي , فهي " خير امة وأفضل قومية " , والتآمر والمؤامرة هي الركيزة الأساس الذي تبنى عليه الشمولية والاستبداد , وهي الأداة الضاربة لأي سلطة اختزلت مجتمعها , ثروة وشعبا وحقوق , وبالتالي فمشكلة الجنسية خارجية ولم تكن نتيجة لمرسوم رسمي وإحصاء استثنائي , شوفيني بأكثر من امتياز واحد , والانكى أن الدكتور ناصر يجزم بان الأكراد لا زالوا يتدفقون ؟ ولكن من أين وكيف ؟ يقنع نفسه أو لأقل يضحك على نفسه بقوله ( أن الحدود طويلة ؟) متناسيا أن الحدود ملغومة ومحاطة بأسلاك شائكة مكهربة في أكثرها ومنذ بداية الخمسينات ؟ أم هو يريد أن يقنعنا بان واحة الديمقراطية التي نمتلكها تجعلنا هدفا لمافيا الهجرة كما هو الحال في موجات المهاجرين إلى أوربا ؟ هل يحتاج مثل هذا الوهم إلى نقاش , اجزم بالنفي !! .
أن مفهوم الوطن , مفهوم حقوقي , ليس صلصاليا ولا مؤدلجا , حتى يتم صياغته وفق رؤية هذا الحزب أو ذاك ؟ وإضفاء الذاتية على هذا المفهوم يلغيه ! وبالتالي هناك مصلحة وطنية قد تختلف أو تتفق مع مصلحة هذا الحزب أو ذاك ؟ أيضا التوكيد على الهوية الحزبية غير النقدية التي تقمصت الهوية الوطنية المركبة , هذا التوكيد , توكيد مصطنع , واستدلال لمدى وحجم الفشل المجتمعي , وهو نتاج أحساس بان ما هو قادم سواء ثقافيا أو اقتصاديا سيجتاحهم , وبالتالي يبرز التوكيد وضرورة الالتفاف وهذا وفق الآن تورين ( يبرر السياسات القومية التي تحتقر مصالح الفئات الأكثر عددا بدلا من أن تدافع عنها ) فما أراد الدكتور ناصر أن يفهمنا إياه هو إدماج وادغام الوطن ومصلحته في مصلحة حزب واحد تصبح هي الوطن , وبالتالي أما الالتفاف والخضوع للمنطق الرمزي هذا , أو أن يكون المرء خارجا على المصلحة الوطنية ؟ توصيف قاصر معرفيا وحقوقيا وسياسيا ومجتمعيا , لكنه يحمل دلالة معنى , على اقل تقدير , معنى شديد الالتباس يصلح فقط للعقل المؤدلج الذي لا يتحدث إلا عن التعبئة والصمود والمكاسب والبناء الشعاراتي , بإحالة رمزية متشابكة ومتداخلة الكوابح والضوابط , وهو مسار أدى إلى انحطاط الحياة الاجتماعية وتدمير الانتماء الوطني .
إذا كان الحوار مطلوبا وضروريا ضمن السقف الوطني , الوطن الحقوقي وليس الوطن الحزبي المختزل , وبالتالي السقف هنا محدد سلفا , فهل سيكون هذا حوارا ؟ حقيقة , السقف الوطني يتسع لجميع أبناءه بكل قومياتهم وانتماءاتهم , ولكن السقف الحزبي لا يتسع إلا لمريديه ومصفقيه ؟ ولعل هدير التحدي يخفض سقف الحوار حتى بالنسبة للدائرة الأضيق , عندما يكون الشعار " لن نغير ولن نتغير بشروط الآخرين ! " والآخرين هنا تشمل مناح عدة , فالآخر الداخلي , المختلف والمتباين في الرأي , أو المتمايز في القومية والدين , والآخر الخارجي الضاغط على مجموع الآخر الداخلي , أليست هي معادلة مستعصية الحل , في الدائرة الأضيق كل مطالب بالتغيير هو آخر ؟ وفي الدائرة الأوسع كل مطالب بالتغيير هو آخر ؟ وكل هذه الدوائر داخلية , ووفق المنطق السامي الأنف الذكر تنتفي أية أمكانية للتغير ؟ بحكم أن أي تغيير له ميكانيزمه الداخلي والخارجي أيضا وعندما يرفض الميكانيزم بهذه الحدة , يعتبر الرفض هذا رفضا للتغيير وإعلانا دائما للثبات والسكون وهو ببساطة متناهية قاعدة منافية لمنطق الحياة , إذ ليس هناك مجتمع أو حزب أو شعب أو ... قادر على التطور والتغير وفق حالة الفصام السياسي هذه .
أما مسالة التوقيت والاولويات فقد باتت مقولة ممجوجة ذات طابع استهلاكي فاضح , خاصة إذا أضفنا له ادعاء وجود حقوق مواطنة كوردية , في مجتمع لا مواطنة فيه لأغلبية الشعب السوري , والمواطنة التي اعني هي سياسية وحقوقية واجتماعية وثقافية من حيث انتفاء المواطنة في المجتمعات المؤدلجة والمركزية التوجه والإدارة , وبالتالي فلا مواطنة حقيقية في تلك المجتمعات , ولعل البحث عن أصول مشتركة أو الادعاء بالجذر الواحد يفضح الهاجس الإيديولوجي والقوقعة التراثية التي لا تريد أن تفهم بان هناك غير العرب يعيشون مع العرب , ومصطلح الأكراد العرب هو منطق تركيبي بائس وتعامل أسطوري مع الآخر المتمايز قوميا والمجاور جغرافيا وتاريخيا.
ثمة متاهات في مقولات الدكتور ناصر اعتبرها نتاج ثقافة الحصر والاستبعاد ونفي الإنسان , التي بحكم تكوينها الذي يخفي أسوا أشكال الذاتية المحتجبة وراء قضايا ومشكلات عامة , وبالتالي فهي خادعة لذاتها ومضللة لغيرها أيضا , تقفز عن الوقائع وتموه الحقيقة وهو ما يتجسد في أمران آخران يفضحان مرامي والمسكوت عنه لدى الدكتور ناصر :
الأول : اعتباره أن المعارضة بحاجة إلى مصالحة وطنية لأنها لا تتفق على قاسم مشترك , وهو ما يؤكد الفهم المبستر لمعنى المصالحة الوطنية لدى الدكتور ناصر , وضرورتها الراهنية , للملمة وإعادة تركيب ما تفتت وتفكك في المجتمع السوري .
الثاني : وهو طلبه الضغط على الأكراد اليهود الموجودين في إسرائيل للتحول إلى قنابل بشرية ؟ فهو يجزم بوجود علاقات وتواصل معهم ويطلب شهادة حسن سلوك من أبناء الشعب الكوردي في سوريا على وطنيتهم , والشهادة هذه هي تحويل الأكراد اليهود إلى قنابل بشرية , وبالتالي يمكن عندها أن ينالوا شهادة " مختار " الوطنية ؟
مؤسف هذا الطرح ولا يستحق حقيقة أية مناقشة لاستناده إلى مكونات غاية في المكارثية وندرة في الوعي , وبالتالي فان دلت على شيء فإنما تدل على كارثية هذه الثقافة , وكاريكاتورية هذه الرؤية , ولا أخفيكم كم هي عنصرية , وكم هي تخبط دائري في متاهات الذات المقدسة , ناهيك عن أن التضخيم المرضي للـ " نحن " على حساب بقية المجتمع , والذي هو وفق الياس مرقص " مجتمع الاختلاف " يعتبر مزاودة سئمناها , وهي ذات النسق الذي أضاع المجتمع والهوية معاً , واجزم بان المسالة الوطنية ترتبط بضرورة الحرية وليس بشيء آخر , وعلى حد قول ادونيس (( الوطن للإنسان ليس في جغرافية الحدود , وإنما في جغرافية الحرية ) .
القامشلي
12/5/2004
كاتب كوردي ، ناشط في لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا
#مشعل_التمو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟