|
ما بعد القامشلي الشأن الكردي والنظام السياسي في سوريا
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 838 - 2004 / 5 / 18 - 04:10
المحور:
القضية الكردية
غلبتني الحشرية، فسألت العامل المنهمك برفع سياج حديقة مسيجة أصلا عن سر هذا العمل الذي تسبب في تغطية الشجيرات القريبة من السياج بطبقة من الغبار الأبيض، بينما يترك الشارع محفّراً تحفه الأوساخ من جانبيه. " الشرق الأوسط كله هيك!" أجاب الشاب الثلاثيني، قبل أن يستطرد "كله التخلف". من لكنته ومن نظريته عن الشرق الأوسط استنتجت أنه كردي. حمل التخلف على الشرق الأوسط من التكتيكات الخطابية التي تتيح للكردي أن يعارض وضعا يزعجه من نواح عديدة دون أن يتصادم مع أي كان. فالشرق الأوسط مباح للجميع ولا أحد يعترف به وطنا له. أما أنا فرفضت نظرية التخلف، واقترحت عوضا عنها نظرية شائعة جدا في أوساط السوريين: "رفع السياج مناسبة لكي يسرقوا ويملؤوا جيوبهم!". قبل جوابي، لكنه أرجعه من جديد إلى التخلف. هذا الحوار القصير الذي سبق "فتنة القامشلي" نموذج لألعاب التورية والكناية التي تحكم التفاعل العربي الكردي من جهة، وتفاعل السوريين مع نظامهم السياسي من جهة أخرى. ففي حياتنا اليومية وفي نشاطنا الثقافي بتنا جميعا نتقن فن عدم تسمية الأشياء بأسمائها، وفي الوقت نفسه الاستدلال من الفروق بين التسميات المختارة، من نوعيات التوريات والمجازات، على هوية كل منا. فتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، أو اعتماد منهج مشترك لتسمية الأشياء، لا يخدمان، إذ يخفيان الفوارق، لعبة الهويات وسياساتها، في غياب مرجعية وطنية عليا فاعلة؛ بينما يلبي اللعب بالتوريات الحاجة لإبراز الفوارق (اختلافنا عن الغير) والجهر بالهويات (تماثلنا مع ذاتنا). الشرق الأوسط والمشرق العربي أو العرب فحسب أو كذلك العالم العربي والوطن العربي... لا تسمي الشيء نفسه تماما، لكن اختلاف هذه الأسماء عن بعضها أقل من اختلاف دلالاتها على هويات الآخذين بها. بعبارة أخرى تقول لنا هذه الأسماء عن المتكلمين وهوياتهم أكثر مما تقول عن "الموضوع". والأصل في ألعاب التواري والتورية هذه هو تفاعل القمع السياسي المديد مع كبت الهويات الجزئية، التأسيسي والماكر في الوقت نفسه. وإذا تبنى العامل نظرية ماهوية تتعارض مع ما قد يقتضيه شرطه الطبقي فلأن شرط الهوية مؤثر، بل غلاّب. لكن في نظرية الشاب الكردي عنصر احتجاجي لا يكاد يكون خفيا، عنصر يحيل إلى الهوية المقموعة غير المعترف بها، والتي توجه نقمتها إلى "الشرق الأوسط" المتخلف. وفي نظريتي عن السرقة وملء الجيوب، المسندة إلى جماعة غير مسماة، عنصر احتجاج على سلطة تحمي نفسها بالقمع. التورية أرض مشتركة، لكنها زلقة، نتعارف عليها ونتباعد في آن معا، نخدع السلطة ونخضع لها في آن معا، نحتج عبرها ونستسلم في آن معا. في ما وراء التورية (ودون دفع ضريبة للتسوية والتجميل)، ما هي أصول الاحتجاج الكردي في سوريا؟ أية ديناميات تتجاذب الوسط الكردي السوري؟ كيف يمكن معالجة التوترات التي يثيرها أي اجتماع سياسي تعددي؟ عبر استرجاع تاريخ ربع القرن الأخير من تفاعل الشأن الكردي مع الحياة السياسية والإيديولوجية في سوريا سيحاول هذا المقال اقتراح مقاربة لتلك الأسئلة.
بين الاستبعاد العقيدي والاستعاب البراغماتي في ثمانينات القرن العشرين تحددت علاقة أكراد سوريا بنظام الحكم بعدد من العناصر الدالة. أولها علاقة "التناقض التناحري" بين النظامين البعثيين الجارين في سوريا والعراق، ومحاولة كل منهما التقرب من خصوم الآخر أو العثور على حلفاء في معسكره.، وبدالة عداء الطرفين لنظام بغداد أمكن لنظام الرئيس حافظ الأسد أن يقم علاقة طيبة مع القوى الكردية العراقية ساعدت في تأليف قلوب الأكراد المحليين. العنصر الثاني متفرع عن سابقه: نظرة الشك التي حكمت علاقة السلطة المركزية والمحلية في الجزيرة حيال عرب المنطقة، المنظور إليهم كصداميين مشكوك في ولائهم، علما أن الكتلة الأكبر من أكراد سوريا هم من سكان الجزيرة السورية، محافظة الحسكة بصورة خاصة، وقد ساعد هذا العامل على جعل الوسط الكردي القاعدة المفضلة لارتكاز السلطة في الجزيرة (لعبت مصالح مادية لرسميين، مركزيين ومحليين، دورا مهما في توثيق الربط مع أعيان أكراد). ثالثها التكوين الخاص لنظام الرئيس حافظ الأسد من حيث حساسية مسألة الجماعات الإثنية والمذهبية ومنحها الشعور بنوع من القرب ووحدة الحال مع النظام. على خلفية هذا العناصر الثلاثة كان أكراد سوريا عموما حلفاء موثوقين لنظام الرئيس حافظ الأسد في صراعه ضد الإسلاميين في الفترة 1979 – 1982، وقد شكل أكراد نسبة مهمة في القطعات العسكرية التي قامت بدور مهم في سحق المتمردين الإسلاميين. (نجد مؤخرا تذكرا مرا لهذا "المعروف" في عتاب موجه إلى الرئيس بشار الأسد إثر "فتنة" القامشلي: "هل هذه إنسانيتك؟ هل هذا جزاء الأكراد الذين حموا والدك؟" موقع عفرين نت، 13/3/2004). وفي هذا الحساب قد نضيف إلى ما سبق عاملا رابعا، أسهم في اصطفاف الوسط الكردي إلى جانب النظام في تلك المواجهة، هو وزن الأكراد المهم في الشيوعية السورية، سواء في حزب المرحوم خالد بكداش الموالي أو في حزب العمل الشيوعي المعارض، وكلا الحزبين خالص العداء للإسلاميين. في النصف الثاني من الثمانينات تدخل عنصر خامس: العلاقة الخاصة التي جمعت نظام الرئيس الراحل مع حزب العمال الكردستاني التركي بزعامة عبد الله أوجلان في النصف الثاني من الثمانينات. كان الحزب يخوض كفاحا مسلحا ضد حكومة أنقرة، وقد اجتذب كفاحه عددا غير قليل من الشبان والشابات الأكراد السوريين بطريقة تذكر بجاذبية المقاومة الفلسطينية للعرب (ولغير قليل من الأكراد، بالمناسبة) بين هزيمة 1967 والحرب اللبنانية. ومعلوم أن أوجلان قد أفتى بأن الأكراد السوريين ضيوف قادمون من "كردستان الشمالية"، المناطق الكردية في تركيا، رافضا تعبير "كردستان سورية" أو "كردستان الغربية" لمصلحة تعبير الأكراد السوريين. وقد أثارت مواقفه هذه، ومحاولته احتكار الساحة الكردية السورية، والشعبية التي حظي بها، عداءا عنيفا من أحزاب كردية أخرى. تعدل العوامل المذكورة، بحدود، من تأثير الموقف العقيدي للنظام البعثي الذي لا يعترف بوجود سوريين غير عرب، والذي ثابر على النظر شزرا إلى أي تعبير علني عن الشخصية القومية الكردية. يمكن القول إنه على الصعيد السياسي العرفي سجل الأكراد حضورا نسبيا خفف من غيابهم السياسي المنظم أو القومي. واعتماد النظام على أقنية عرفية، زبونية وأعيانية، مكن الجماعة الكردية من درجة من الاتصال بمركز السلطة يفوق ما حظيت به جماعات سورية عديدة. وبصورة عامة يمكن القول إن براغماتية سياسة الرئيس الراحل في التعامل مع الجماعات الإثنية والدينية والمذهبية والجهوية السورية حدت من غلواء عقيدة نظامه العروبية المطلقة. وهذا ما يفيد أن نبقيه في بالنا عند دراسة وضع الجماعة الكردية السورية، بصورة خاصة لأنه مهدد أكثر من غيره بالتجاهل والنسيان. فالصورة التي يحصل عليها الدراس من تحليل السياسات الواقعية مختلفة جدا، بل ومناقضة، للصورة التي قد تستخلص من دراسة المعلن الإيديولوجي ذو التمركز العربي المطلق. ولحسابات وأهواء ظرفية يركز ناشطون أكراد على منطوق الإيديولوجيا البعثية أكثر مما على منطق السياسة العملية ليستخلصوا منها صورة أشد قتامة لوضع الأكراد السوريين. لم يكن هذا الوضع ساكنا في أي يوم، لكنه أخذ يتحرك بقوة بعد هزيمة نظام صدام حسين في حرب الخليج الثانية، وإفضائها (الهزيمة)، بعد قليل، إلى تشكل كيان كردي مستقل عمليا عن السلطة المركزية في بغداد حتى نيسان 2003؛ وتلقى دفعة أخرى من اضطرار السلطات السورية إلى إخراج عبد الله أوجلان من البلاد عام 1998، ما يعني عمليا تمكين الأتراك منه، ثم انضباط العلاقة السورية التركية باتفاقية أضنة التي تقطع أي دعم سوري عن أكراد تركيا، بل وتمنح الأتراك حق مراقبتهم في سورية ذاتها. كذلك كان لانهيار الشيوعية المركزية تأثيره على الشيوعية السورية، العقائدية بصورة خاصة، أي ذلك اللون الذي كان أقرب إلى مزاج الأكراد السوريين لطابعه المجرد الذي "ينفي" أكثر القومية الأكثرية، ولاحتفائه، المجرد بدوره، بمبدأ تقرير المصير. ومن الطبيعي أن يفضي تفكك شيوعيتنا المحلية معطوفا على جاذبية البؤرة الكردية العراقية إلى تحول الناشطين الأكراد إلى أحزابهم القومية المحلية. وبات متواترا القول إن خالد بكداش لم يفد الأكراد بشيء وإنه عمل لصالح العرب. فقد تكشفت أممية الزعيم الشيوعي السوري عن تسوية سلبية بين مطالب القومية الأكثرية في البلد وبين مطالب القومية التي يتحدر هو منها، بعبارة اخرة كانت تصعيدا لرفض مزدوج للقوميتين مسخر لمصالح مركز عالمي. ومن تفاعل ثلاثة نهايات، نهاية الأممية ونهاية العداوة السورية العراقية (قبل نهاية نظام صدام نفسه) ونهاية العلاقة مع حزب العمال الكردستاني، بدأت علاقة النخب الكردية السورية بالنظام تفقد مراسي استقرارها السابقة. وبعد دورة 1991 لمجلس الشعب التي أوصلت عددا من قادة الأحزاب الكردية إلى السلطة التشريعية وضمنت للأكراد أقنية اتصال بالسلطة المركزية، لم يفز في الدورات اللاحقة غير "المرضي عنهم"، أي الفاقدين لاستقلالهم ولتمثيليتهم معا. وهكذا تواقتت النهايات المذكورة مع انقطاع أقنية الاتصال الداخلي، وتفاقمت المشكلات العيانية (المحرومين من الجنسية والحزام العربي، فضلا عن إنكار الحقوق الثقافية...) بغياب أية إجراءات تصحيحية، سياسية أو معنوية، كان من شأنها تضفي طابعا نسبيا ومرحليا على تلك المشكلات، أو تدمجها في مخطط تاريخي (الأممية) يساعد على تحملها.
ديناميات متنازعة في السنوات الأخيرة تجاذبت الشأن الكردي السوري ديناميتان، داخلية وخارجية. على المستوى الداخلي كان تاريخ السنوات الثلاثة أو الأربعة الأخيرة تاريخ دخول القضية الكردية في أجندة الحركة الديمقراطية. ونحوز أفضل فهم لهذا الدخول إن ميزناه عن ثلاثة مواقف: أولها بالطبع الموقف الرسمي الذي آل إلى الجمع بين تجاهل مبدئي ثابت واحتواء براغماتي متراجع؛ ثانيها الصيغة الشيوعية لحق تقرير المصير التي تشكل عنصرا من "عدة الشغل" الأممية، وتلونت من جهة أخرى على الدوام بدوافع التكسب السياسي وبموقف متفاوت السلبية من الشأن القومي العربي، وقد استنفدت على كل حال قوة دفعها في عقد الثمانينات من القرن الماضي؛ ثالثها هو موقف تجاهل الشأن الكردي وتركه للأحزاب القومية الكردية أو للسلطة، وهو موقف قطاعات غير قليلة من مثقفين ومعارضين عرب سوريين. ويرصد المرء اليوم تناسبا طرديا بين تصدر الديمقراطية توجهات حركة المعارضة السورية وبين حضور الشأن الكردي كشأن قومي مستقل في برامجها وتحليلاتها. ويمكن القول إن القضية الكردية السورية تفهم اليوم كقضية مساواة فردية وجمعية ضمن إطار الوطنية السورية الديمقراطية، أي الإقرار بمبدأ المواطنة المتكافئة ومبدأ الحقوق القومية المتكافئة أيضا. من المفيد أن نذكر هنا أن مفهوم الوطنية السورية دخل التداول عام 2001 على يد برهان غليون، وأنه يعكس، بحد ذاته، اقترابا من وقائع الكيانية السورية العيانية. وفي الحقل السياسي والإيديولوجي السوري لا يمكن لهذا الاقتراب إلا أن يضمر السوري اتخاذ مسافة من العروبة المطلقة التي تقوم بدور العقيدة المشرعة لنظام الحزب الواحد في البلاد. على كل حال مثل مفهوم الوطنية السورية فكرة مناسبة لاندماج الأكراد السوريين مع مواطنيهم العرب والآشوريين (هناك انسحاب أرمني مطلق من الشأن السوري العام سبق انهيار الشيوعية واكتمل به..)، وكان من المفهوم أن يلقى رواجا في أوساط الناشطين الأكراد. فهو يقوم بدور مماثل لمفهوم الأممية في زمن المد الشيوعي الذي انقضى، سوريا وعربيا، في ثمانينات القرن العشرين. فقد كانت الأممية الوسيلة الإيديولوجية التي أتاحت لأكراد وأرمن سورية الاشتراك في اكثرية افتراضية تزيل عنهم الشرط الأقلي أو تساعدهم على تحمله، وهو ما يصح قوله أيضا بخصوص الأقليات الدينية من مسيحيين وحتى يهودا قبل النكبة الفلسطينية، وكذلك الاقليات المذهبية من علويين ودروز واسماعيليين. وينطبق الأمر ذاته، بتفاوت، على دور الفكرة العربية حيال المسيحيين والأقليات الإسلامية المشار إليها والقومية السورية حيال المسيحيين والعلويين بخاصة. ويتوحد المفهومان، الأممية والوطنية السورية، في تذليلهما المرغوب لعقبة التعدد القومي أو في التفافهما الاحتيالي عليها (حسب تفضيلاتنا الإيديولوجية). لكن العبرة بالسياسات وليست بالمفاهيم وحدها. فقد فشلت السياسات الأممية لأنها كانت تابعة لمركز براني، قومي أو شبه قومي، ولأنها كانت تسوية سلبية تجمع بين تخليين، وهو ما قد يعكس تكوين النخب الأممية القومي والديني. ولا يمكن لسياسات الوطنية السورية أن تتجنب المصير ذاته إذا كانت صفقة مغشوشة تجمع بين تخليين قوميين. بالمقابل يمكن للاستثمار الفكري والسياسي والقانوني في مفهوم الوطنية السورية أن يساعد على استيعاب إيجابي لكل عناصر الطيف الاجتماعي السوري. نعود لنقول إن الدينامية الداخلية المؤثرة على الشأن الكردي السوري هي محاولة تأسيس المشترك العربي الكردي على أرضية الوطنية السورية الديمقراطية. بيد انه ينبغي القول إن هذا المسعى لا يزال محدودا وغير منسجم، وربما لعبت أزمة القامشلي وامتداداتها دورا سلبيا في هذا الاتجاه رغم أن المرء يغرى بتوقع العكس. فالمصلحة السورية العامة تقتضي تكثيف وتنظيم اقنية التواصل القائمة وإيجاد اقنية أخرى متعددة المستويات، ثقافية وسياسية واجتماعية. الوطنية السورية ليست غير شبكة التفاعلات المتنوعة بين السوريين المتساوين في وطنهم. أما الدينامية الخارجية فتتمثل في انجذاب الساحة الكردية السورية إلى تطورات الساحة العراقية، وبالخصوص بعد احتلال العراق وسقوط نظام بغداد البعثي. يسير هذا الانجذاب على نسق سابق وسم الحركة الكردية السورية على الدوام بميسمه، أعني دورانها حول مركز يقع خارجها في إحدى الساحتين الكرديتين الناشطتين والمجاورتين في العراق وتركيا. فلم تستطع الحركة الكردية السورية يوما أن تكون مركزا لذاتها، دع عنك أن تجذب غيرها. وهامشيتها هذه جعلتها تدور حول المحور العراقي منذ السبعينات حتى اليوم، وإن مع منافسة المحور التركي في قسم من الثمانينات حتى إخراج أوجلان عام 1998. والهامشية ذاتها تفسر دوران التطلب القومي الكردي السوري حول محور شيوعي لا حول محور قومي حتى انحلال الشيوعية السورية. وقد يكون الأصل في هذه الهامشية ذاتها نسبة الأكراد المنخفضة في سوريا قياسا إلى كل من تركيا والعراق (قرابة 10% مقابل 20% في العراق وحوالي 25% في تركيا)؛ والحداثة النسبية لوجود كتلة مهمة من الأكراد السوريين خلافا لما هو الحال ايضال في كل من تركيا والعراق، (النسبة غير معروفة، لكنها تمت في إطار تحركات الشعوب التالية لزوال السلطنة العثمانية، وهو ما ينطبق على عرب أيضا، وبالطبع أرمن، وحتى آشوريين)؛ وأخيرا لقلة وجود مناطق كردية صافية في سوريا، قياسا هنا أيضا إلى تركيا والعراق. هذا ما يجعل الحديث عن كردستان سورية ضعيف الشرعية، والبرنامج "الانفصالي" المؤسس عليه واهي الأسس. تدمج الدينامية الأولى، الداخلية، الأكراد في سوريا، فيما تبعدهم الثانية او الخارجية عنها وتدمجهم في الأمة الكردية أو الحلم الكردستاني. وبينما تجد الدينامية الأولى تعبيرها في برنامج ديمقراطي على أرضية الوطنية السورية كما قلنا، فإن الثانية تجد ترجمتها في برنامج كردستاني أو انفصالي. ولا يتوزع البرنامجان على قوى قائمة برأسها متمايزة عن غيرها، بقدر ما يتقاسمان عقل وقلب كل ناشط كردي وكل تنظيم كردي. وما يغلب كفة هذا أو ذاك هو أوضاع وتحولات وموازين قوى داخلية وإقليمية. ومن غير المفاجئ أن الحرب الأميركية التي انتهت باحتلال العراق (تحريره حسب مزاج كردي غالب) قد حولت موازين القوى بين البرنامجين لمصلحة البرنامج الكردستاني. ولا يمكن عزل أزمة القامشلي وامتداداتها في شهر آذار الماضي عن التحولات العراقية والموقع المميز الذي احتله الأكراد في العراق المحتل. ولعلنا لا نخطئ إن اعتبرناها هزة ارتدادية للزلزال العراقي. وهو ما لا يعني إنكار وجود ظلامة كردية حقيقية في سورية (تناولناها في غير هذا الموقع: عدم الاعتراف بالوجود القومي للأكراد، حرمان من الجنسية، "الحزام العربي"،..). ما يعنيه، بالأحرى، هو أنه ما كان للاحتجاج على تلك الظلامة أن يأخذ شكلا انفجاريا عاصفا لولا جاذبية التفاعلات الجارية منذ أكثر عام على الساحة الكردية العراقية. إذا أضفنا إلى الدينامية الأولى ثقل واقع مكرس بمبدأ السيادة وبعضوية الأمم المتحدة... نجد أن الحصيلة الإجمالية لهاتين الديناميتين اقرب إلى التعادل. لعل الكفة "طبشت" لمصلحة الدينامية الكردستانية اثناء احداث القامشلي وبعدها، ولعل التقدم نحو معالجة مشكلة المحرومين من الجنسية، وفق كلام نسب إلى وزير الدفاع في الآونة الأخيرة، يسهم في تعديل الميزان. لكن تأثير إعادة الجنسية ل30 ألفا وذريتهم سيكون بالغ الأهمية بقدر ما يكون خطوة ضمن خطة متكاملة لحل المشكلة الكردية. وينفتح هذا الحل المتكامل على البرنامج الديمقراطي الذي لا ثاني له إلا البرنامج الكردستاني، ما يعني انك لا تستطيع رفض ذاك دون ان تصب الماء في طاحونة هذا، ولا يمكنك بالمقابل منافسة البرنامج الكردستاني دون اعتماد البرنامج الديمقراطي. وعمليا ليس لدى السلطات السورية برنامج يستحق اسمه لمعالجة المشكلة، وهي على كل حال تنكر وجود مشكلة أصلا. من نافل القول إنه يستحيل بلورة معالجة منسجمة للمظالم الكردية على أرضية رفض البرنامج الديمقراطي السوري والكردستاني الانفصالي معا. إرادة الجمع بين رفضين، ونفاذ هذه الإرادة، هو من أسرار "الشرق الأوسط" الذي "كله هيك": عصبيات تنتج دولا ودولا تفرخ عصبيات. دمشق 11 أيار 2004
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسامة بن لادن، هيغل، وما بعد الحداثة
-
اعتقال طلاب الجامعة سياسة العزل السياسي والجيلي
-
بين عهدين: قضايا تحليل الانتقال السوري
-
-العقد الاجتماعي- البعثي وتناقضاته
-
نظام الاستثناء الشرق أوسطي
-
ثلاثة برامج قتل وفكرة عزلاء
-
اضطرابات الجزيرة ضرورة تجديد التفاهم الوطني السوري
-
سوريا أمام المنعطف مــن هنا إلى أيــــن؟
-
اعتصام دمشق فاعلون مترددون وإعلام يقيني
-
طبائع العمران وصناعة الواقع في الدولة الحزبية
-
في السنة الحادية والأربعين فصل حزب البعث عن الدولة ضمانة له
...
-
صـــراخ فـي لـيــل عــراقــي
-
سوريون ضد حالة الطوارئ!
-
هل سيكون 2004 عام التحول في سورية؟ عرض تقرير -التحديات السيا
...
-
سورية والتحديات الخارجية عرض لتقرير -مجموعة الأزمات الدولية-
-
نقاش حول الدفاع الوطني
-
بلاد الموت السيء
-
نحو مؤتمر تأسيسي لحزب ديمقراطي يساري - مناقشة عامة لمشروع مو
...
-
وقــائــع ثــلاثــة أشـــهـر زلـزلـت ســـوريــا
-
من الحزب الشيوعي إلى اليسار الديمقراطي
المزيد.....
-
الأمم المتحدة تحذر: توقف شبه كامل لتوصيل الغذاء في غزة
-
أوامر اعتقال من الجنائية الدولية بحق نتانياهو
-
معتقلا ببذلة السجن البرتقالية: كيف صور مستخدمون نتنياهو معد
...
-
منظمة التعاون الإسلامي ترحب بإصدار المحكمة الجنائية الدولية
...
-
البنتاجون: نرفض مذكرتي المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتني
...
-
الأونروا: 91% من سكان غزة يواجهون احتماليات عالية من مستويات
...
-
الإطار التنسيقي العراقي يرحب بقرار الجنائية الدولية اعتقال ن
...
-
وزير الدفاع الإيطالي: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو وغالانت لأ
...
-
قرار الجنائية الدولية.. كيف سيؤثر أمر الاعتقال على نتانياهو؟
...
-
أول تعليق للبنتاغون على أمر الجنائية الدولية باعتقال نتانياه
...
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|