|
حكايات النظريات: الماجنا كارتا وحقوق المحكومين
محمد علي ثابت
الحوار المتمدن-العدد: 2754 - 2009 / 8 / 30 - 05:32
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"لا أحد يحب الحرية حباً خالصاً من القلب سوى الرجال الأنقياء الشجعان، أما مَن سِواهم فلا يقعون في هوى الحرية نفسها وإنما يعشقون الرُّخَص التي يتعطَّف سادتهم عليهم بها". - جون ميلتون، شاعر بريطانيا العظيم المولود في 1608 والمتوفى في 1674
غزوة يونيو السلميِّة ------------ في العاشر من يونيو للعام 1215م دخل عدد من كبار البارونات الإنجليز العاصمة لندن، مدعَّمين بقوة السلاح وبمساندة من الأمير لويس ابن ملك فرنسا والملك ألكسندر الثاني ملك اسكتلندا، مطالبين بأن يوقِّع ملك إنجلترا جون الأول على ميثاق الحريات الذي كانوا يحملونه معهم والذي دفعهم إلى صياغته ومطالبة الملك بالتوقيع عليه عددٌ من الأسباب المتداخلة التي كانت تصب كلها في خانة واحدة هي استبداد جون الأول وسوء إدارته للبلاد. فمن ناحية كانت هناك سياسات جون التآمرية الهزيلة في إدارة العلاقات مع فرنسا التي أفضت إلى فشل ذريع مُنيت به إنجلترا في سعيها للسيطرة على إقليم الآنجو الحدودي الناطق بالفرنسية، ومن ناحية أخرى كانت هناك الضرائب الباهظة التي كان جون يصر على إثقال كاهل الشعب الإنجليزي بها لتعويض فشله في إدارة أقاليم البلاد بشكل فعال، ومن ناحية ثالثة كان هناك استبداد جون في الداخل ضد مواطنيه الرافضين لسياساته وضعف مواقفه الخارجية تجاه الكنيسة إلى حد اضطراره إعلان إنجلترا وأيرلندا أرضين كَنَسِيَتَين خالصتين وهو ما استتبع قيامه بفرض ضرائب إضافية على مالكي الأراضي في الجزر البريطانية لإرضاء البابا إينوسينت الثالث وإشباع نهم حاشيته للمال ومِن ثَم صرف انتباه البابا عن الطريقة الملتوية البعيدة عن روح الدين التي كان جون يحب أن يتم بها انتخاب أسقف كانتربيري.
وقد أبدى سكان العاصمة لندن تعاطفاً كبيراً مع مطلب ذلك الوفد الزائر الرفيع المستوى ومع قضيته، الأمر الذي تجلَّى في قيام سكان العاصمة بفتح بواباتها أمام الفوج الزائر بشكل سلمي. وبفضل شجاعة وإقدام أولئك الثوار، وبفضل مساندة عديدين من المطالبين الآخرين بالحريات وبالديمقراطية الذين اتسمت مطالبتهم بكونها أكثر سلمية وأقل ميلاً للتحدي من أسلوب الوفد، تم إجبار الملك جون الأول على التوقيع طواعية على "قائمة مطالب البارونات"، قبل أن يتم ختمها بالخاتم الملكي في روضة رانيميد الخضراء يوم الخامس عشر من يونيو لعام 1215. وقد أصدرت المحكمة العليا الإنجليزية في اليوم نفسه وثيقة رسمية لتسجيل ذلك التوقيع التاريخي، وسرعان ما باتت تلك الوثيقة القانونية تُعرف على نطاق واسع داخل بريطانيا وخارجها بـ "الماجنا كارتا"، أو "إعلان الحريات الأعظم". وخلال أشهر قليلة من ذلك الإصدار كان قد تم إرسال عدد كبير ولكن غير معلوم من "النسخ طبق الأصل" من تلك الوثيقة التاريخية البالغة الأهمية إلى المسؤولين الإنجليز على اختلاف درجاتهم في شتى أنحاء الجزر البريطانية، توطئة وتدعيماً للعمل ببنودها التي جاوزت السبعين بنداً في تسيير شؤون المملكة.
وإلى يومنا هذا مازال قطاع كبير جداً من المهتمين بتاريخ وفلسفة السياسة حول العالم ينظر إلى توقيع جون الأول على الماجنا كارتا بوصفه واحداً من أهم الأحداث التاريخية التي أرست أسس الديمقراطية والحكم الرشيد كما يمارسهما العالم المتحضر اليوم. فلقد كانت الماجنا كارتا، التي تمت صياغة نسختها الأصلية باللغة اللاتينية قبل أن تتم ترجمتها إلى الإنجليزية وإدخال العديد من التعديلات الأساسية عليها لاحقاً، كانت هي الوثيقة الأولى التي تجسد نجاح شعب إحدى الممالك الأوروبية في مرحلة ما قبل العصور الوسطى في انتزاع اعتراف رسمي طوعي من حاكمه بأنه – أي الملك – لا يتمتع أو لا يجب أن يتمتع بسلطات مطلقة وأنه من حق شعبه أن يكون رقيباً عليه وأنه يجب أن يكون للشعب صوت مسموع في الطريقة التي يتم حكمه بها وفي عمليات صنع القرارات التي يتم اتخاذها تجاهه والتي تمس حاضره ومستقبله. ورغم أنه كان قد سبق – قبل إصدار الماجنا كارتا – أن وافق الملك هنري الأول طواعية على التوقيع من حيث المبدأ على "ميثاق الحريات الأدنى" في العام 1100 والذي كان يقضي باعتراف الملك بأن سلطاته يجب أن تكون خاضعة لحكم القانون، إلا أن الماجنا كارتا – بكل ما احتوته من ضمانات مؤكَّدة للحريات العامة وتنازلات ملكية غير مسبوقة في القارة العجوز عن سلطات الحكم الجائرة بحق الشعب – تظل هي المحطة البارزة الأولى على طريق التأسيس لإقامة مجتمعات حداثية حرة تسودها قيم "الفصل بين السلطات" و"سيادة القانون" و"المحاسبية"، التي نعرفها اليوم اختصاراً بالحوكمة والحكم الرشيد.
وقد تضمنت الماجنا كارتا، ضمن ما تضمنت، بنوداً تلزم ملك إنجلترا بضرورة العمل على ضمان حد أدنى مقبول ومستديم من الحرية في مملكته وباتباع إجراءات قانونية معينة قبل اتخاذه القرارات العامة الهامة (مثل ضرورة أن يقوم بعرض مسودات تلك القرارات على ممثلي الشعب المختارين أو على هيئة كبار البارونات)، فضلاً عن أنها تضمنت إقراراً صريحاً من الملك يفيد قبوله مبدأ أن تكون سلطاته خاضعة لحكم القانون وبأنه يحظر على نفسه وعلى رجال الإدارة العامة الخاضعين له ممارسة التنكيل أو الاحتجاز بدون وجه حق تجاه المواطنين، بمَن فيهم مَن يعارضونه سياسياً ما لم يكونوا قد أتوا بتصرفات من شأنها إلحاق أضرار جسيمة بوحدة وسلامة المملكة. ومما لا شك فيه أن مثل تلك الضمانات والالتزامات، التي تبدو اليوم عادية وطبيعية جداً في الدول التي ترسخَّت فيها الممارسة الديمقراطية الصحيحة منذ زمن بعيد وأصبحت كجزء لا يتجزأ من واقع الحياة اليومية،، لا شك أن تلك الضمانات والالتزامات كانت بمثابة فتوحات ديمقراطية حقيقية في ظل مجتمع كان الحكم الملكي فيه قد بلغ درجة من الاستبداد والاستهانة بإرادة الشعب وبكرامته ربما لا يضاهيها سوى ما تشهده أغلب دول العالم النامي اليوم من فساد وتسلط حكامها.
ورغم أن الماجنا كارتا خلال العصور الوسطى، وفي التحليل الأخير، لم تنجح كثيراً في الحد من سلطات الملوك الإنجليز ومن أهوائهم الجامحة التي كان الشعب يدفع ثمنها غالياً من حريته وأمواله، إلا أنه بوسعنا القول إنها كانت خلال فترة الحرب الأهلية البريطانية رمزاً مهماً رفعه وعَوّل عليه كل من كانوا يسعون إلى تذكير الملوك الإنجليز بأنهم يجب أن يَعُوا جيداً في كل تصرفاتهم أنهم ليسوا فوق المحاسبة والرقابة الشعبية. ورغم أنه لم يتم أبداً، بالتحديد، تفعيل المادة 61 من الماجنا كارتا، والتي كانت أقوى مواد الوثيقة على الإطلاق وأكثرها "إهانة" للنفوذ الملكي وتحدياً له لأنها كانت تفيد بأنه من حق 25 باروناً من كبار البارونات المختارين من قِبَل رعايا الملك أن يجتمعوا في أي وقت وأن يصدروا قرارات مناهضة لإرادة الملك أو أن يوقفوا تنفيذ قرارات الأخير التي لا يرضى عنها الشعب،، رغم ذلك إلا أنه بالإمكان القول إن مجرد وجود تلك المادة الشديدة القوة والخطورة في خلفية الحكم كان كفيلاً بدفع بعض ملوك إنجلترا المعتدلين في العصور الوسطى إلى التروِّي قبل اتخاذ قرارات هوائية من شأنها إحراجهم لاحقاً أمام الشعب وباروناته المختارين.
ويُنسب إلى اليوم لـ "الماجنا كارتا" الفضل الأكبر في تطور مفاهيم القانون العام والقانون الدستوري في القرون التالية، فضلاً عن أنها كانت بمثابة الأساس النظري الأهم الذي استند إليه سعي فلاسفة ومُنَظِّرِين سياسيين كبار من أمثال هوبز وروسو ولوك لاحقاً لتأسيس والدعوة لتَبَنِّي مفاهيم سياسية-اجتماعية بالغة الأهمية مثل "العقد الاجتماعي" و"الفردية" و"الحكم الرشيد" وغيرها من المفاهيم النظرية التي مازالت إلى يومنا الحاضر تمثل أركاناً بالغة الأهمية في هياكل الديمقراطية وصيانة حقوق المحكومين في أغلب مدارس التنظير السياسي.
"يا مَن تبزغ الشمس مِن بين ثنايا كَفِّه" ------------------------ في مطلع العام 1993، وقبل نحو عام واحد من وفاة الرئيس الكوري الشمالي كيم إيل-سونج، كتب أحد الشعراء الكوريين الشماليين قصيدة في "مديح وتبجيل" رئيس جمهوريته المريض جداً آنذاك والذي كان أثناء مراحل مرضه الأخيرة يسعى لوضع اللمسات - الناجحة - الأخيرة على مشروع توريث الحكم في البلاد إلى نجله كيم الثاني الذي لطالما شاعت أقاويل تُشَكِّك في حالته الصحية وفي مدى اتزانه النفسي-العقلي. وقد نشر الشاعر قصيدته في إحدى الصحف الكورية الشمالية السيَّارة.. وقد جاء في أحد مقاطع القصيدة:
... ... "أيها الرئيس الإله.. يا مَن تُنْعِمٌ علينا بنعمة الحياة ويا مَن ترزقنا حرارة الشمس في كل صباح يا مَن تَبْزُغُ الشمس مِن بين ثنايا كَفِّه فإذا ما ضممت كَفَّك، حَلَّ الليل بنا وإذا ما فتحته واسعاً، أشرق علينا الصباح. يا قاهر كل أعاديك وطارد كل الغزاة والمُنْعِم علينا بالكرامة وأسباب البقاء نرجوك أن تبقى معنا إلى الأبد فبغيرك لا يمكن أن يستقيم لنا وجود" ... ...
وتُعتبر كوريا الشمالية واحدة من أكثر بلاد العالم فقراً واستبداداً، وتكاد الملكية الفردية فيها تصل إلى المستوى صِفر منذ انتهاء الحرب الكورية في أوائل الخمسينيات وبدء تطبيق النظام الشيوعي فيها وحتى اليوم. وفي الوقت الذي تكاد بيونج يانج (العاصمة الكورية الشمالية) تَتَسَوَّل فيه الأرز والقمح واحتياجات "البقاء" الأساسية الأخرى من جَارَيها الثريين اليابان وكوريا الجنوبية بسبب الحصار الاقتصادي القوي المفروض عليها باستمرار منذ انتهاء الحرب، فإنها تسعى في الوقت الراهن وبشكل متقطع ولكن انتهازي دءوب لتطوير سلاح نووي أنفقت على مشروعه مليارات الدولارات واكتسبت بسببه عداء القوى الدولية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة واليابان.
#محمد_علي_ثابت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكايات النظريات: البقاء للأصلح
-
سيميترية التطرف - الجزء الأول
-
سيميترية التطرف - الجزء الثاني
-
وداعاً مروة
-
ديالوج - قصة قصيرة
-
لو زارني فرح ساعات
-
حالاتي
-
هي (قصة قصيرة)
-
رهانات متفاوتة
-
دفقات
-
عم أونطة
-
بعضٌ مما نعرفه لاحقاً
-
على مُنحنى السواء
-
لكُلٍّ يَمٌّ يُلهيه
-
مَحْض صُدَف - قصة قصيرة
-
تصرفات شتى إزاء الريح
-
أقصُوصة من سِفر الإياب
-
فعل الأمر في رؤيا
-
فصل العلم عن الدين.. لماذا؟
-
متوسط المتوسط
المزيد.....
-
-قريب للغاية-.. مصدر يوضح لـCNN عن المفاوضات حول اتفاق وقف إ
...
-
سفارة إيران في أبوظبي تفند مزاعم ضلوع إيران في مقتل الحاخام
...
-
الدفاعات الجوية الروسية تتصدى لــ6 مسيرات أوكرانية في أجواء
...
-
-سقوط صاروخ بشكل مباشر وتصاعد الدخان-..-حزب الله- يعرض مشاهد
...
-
برلماني روسي: فرنسا تحتاج إلى الحرب في أوكرانيا لتسويق أسلحت
...
-
إعلام أوكراني: دوي صفارات الإنذار في 8 مقاطعات وسط انفجارات
...
-
بوليتيكو: إيلون ماسك يستطيع إقناع ترامب بتخصيص مليارات الدول
...
-
مصر.. غرق جزئي لسفينة بعد جنوحها في البحر الأحمر
-
بريطانيا.. عريضة تطالب باستقالة رئيس الوزراء
-
-ذا إيكونوميست-: كييف أكملت خطة التعبئة بنسبة الثلثين فقط
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|