أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - شيماء الشريف - لا تجلسوا فوق الأعمدة !














المزيد.....

لا تجلسوا فوق الأعمدة !


شيماء الشريف

الحوار المتمدن-العدد: 2753 - 2009 / 8 / 29 - 07:27
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


في رواية "تاييس" Thaïs للكاتب الفرنسي العظيم أناتول فرانس، يقطع الراهب بافنوس رحلة طويلة حتى مدينة الإسكندرية في عصرها الذهبي في القرون الأولى للألفية الميلادية الأولى بغرض هداية الغانية السكندرية تاييس التي تذيب قلوب الرجال وتتسبب في زيادة أعداد الضالين، وتكون المفاجأة أن يهيم هو شخصيا بها حبا وغراما، ولأنه راهب ولا يسمح له موقعه بإظهار مشاعره أو الخوض في بحر الغرام مع تاييس، فإنه يغادر الإسكندرية في محاولة عنيدة للرجوع إلى سابق عهده من التنسك والرهبنة، ولكن هيهات، لقد تملك حب تاييس من قلبه واشتهاها كل جزء في جسده، فما كان منه إلا أن جرب ترويض هذا الجسد بالعنت والشدة حتى يقهر فيه هذه الشهوة المتأججة التي لا مناص منها، وعندما لم تفلح الطرق العادية، جرب بافنوس إحدى أصعب الطرق وهي الجلوس فوق عامود، وذلك كعادة الرهبان المتنسكين في ترك حطام الدنيا والتنازل عن أبسط قواعد الراحة الجسدية في مقابل الفوز بنعيم الفردوس في الآخرة، وهي فكرة في جوهرها سامية، ولكن لم يكن هذا هو ما يقصده أناتول فرانس، لقد كان العامود بالنسبة لبافنوس وسيلة قمع نفسية وجسدية ومكان للهروب من متطلبات فطرية وطبيعية، وبالفعل، وعلى الرغم من أنه كان يُنظر إلى بافنوس على أنه قديس، وأنه قد قامت أسواق وأنشطة وحياة كاملة أسفل عاموده تبركا به، إلا أن روحه المعذبة أبت إلا أن تستمر في تعذيب جسده، وتحولت جميع أحلامه إلى انعكاسات لجوعه الجنسي ولهفته الحسية. وعندما جاءه خبر احتضار تاييس جن جنونه وعاد عدوا إلى حيث دله الناس ليكتشف أن التي كانت غانية أصبحت قديسة، وأنها الآن تستعد إلى ترك حطام الدنيا لتدخل في ملكوت السماوات، فازداد جنونه وفقد عقله وكفر بالإله الواحد وأخذ يكيل له السباب لأنه سيحرمه من حبه الذي قاسى بسببه ومن أجله الكثير، وعندما وصل إلى مقر تاييس، كانت القديسة تسلم الروح وكانت ملامح وجه الراهب بافنوس قد تحولت إلى ما يشبه الوطواط ! وما أراد أناتول فرانس قوله هو أن الملابس لا تصنع الراهب (وهذا مثلٌ فرنسيّ)، كما أن المظاهر لا تعكس بالضرورة حنايا القلوب، إذ أن العبرة بالخواتيم وليس بالظاهر الذي ينخدع به الناس ويصدرون أحكامهم على أساسه.
ووفقا لعنوان هذا المقال، فإنني أتخذ من الجلوس فوق الأعمدة على طريقة بافنوس مثالا لوسائل الهروب والقمع النفسية التي يصنعها الإنسان لنفسه تحت مسميات دينية تظهر أمام الناس وكأنها تقوى وورع وزهد وهي تعكس في الحقيقة درجة كبيرة من المعاناة والألم بل والخلل النفسي، إنها الأغلال والزنازين التي يضع فيها العاجزون ذواتهم حتى يظلوا دومًا ضحايا في نظر أنفسهم، وتكون هذه طريقة مثلى لكي يتخلصوا من عبء أي أمر آخر قد يكون مطلوبا منهم. هذا، مع كل الاحترام للرهبان والقديسين الذين أفنوا حياتهم وهم ينتهجون هذا المنحى من الزهد، فلا يخفى على القارئ أن المقصود هنا هو طرح المعنى الرمزي كما طرحه أناتول فرانس.
فما أراه هذه الأيام أن أصبح نمط الجلوس فوق الأعمدة على طريقة بافنوس هو النمط السائد في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فحالة الهوس الديني الطقسي غير المقرون بالتقوى الحقيقية ولا بالعمل الجاد ولا بتحصيل العلم هو جلوس فوق الأعمدة، وحالة الافتتان اللامعقول بالقماش والتنافس على زيادة أمتاره السوداء والبيضاء في ملابس النساء والرجال والتي لا علاقة لها بتاتا بمدى رقي عقولهم ولا بمدى صفاء نفوسهم هو جلوس فوق الأعمدة، والصراخ الهيستيري في مكبرات الصوت للدعوة للصلاة ثم الصراخ الأكثر هيستيرية أثناء الصلاة ثم البكاء والعويل أثناء الدعاء بعد الصلاة هو جلوس فوق الأعمدة، وحالات معاداة العلم وتكفير الآخر وانتهاج الخرافة والكسل العقلي ومحاربة العقلانية والتفنن في نشر الجهل وترسيخ دعائمه هو جلوس فوق الأعمدة، وحالات استخدام الدين لاستعباد عقول البشر وترهيبهم بالويل والثبور وعظائم الأمور هو جلوس فوق الأعمدة، وحالات الفتاوى المضحكة بدءًا بفتوى تحريم الجلوس على الكراسي وانتهاءً بفتوى تحريم تناول الطعام في البوفيه المفتوح هو جلوس فوق الأعمدة، كما أن حالة الرغبة المحمومة والشوق الجارف إلى العودة بركب الحياة الحاضرة إلى عام 630 م. هو حتما جلوس فوق الأعمدة، وغير ذلك مما يستعصي عن الحصر.
لقد أصبحنا نتنافس على القفز فوق الأعمدة، وامتلأت حياتنا بها وبالجالسين فوقها، كل منهم يظن نفسه أعلى من باقي خلق الله، لكن الأدهى أن يصدقه خلق الله ويؤكدون له مكانه العليّ، مثلما حدث تماما مع بافنوس الذي مجده الناس وهو فوق عاموده دون أن يدري أحد منهم بعذاباته ودون أن يرى أي منهم حقيقته. إن الجالسين فوق الأعمدة يعانون من عدة مشكلات عقلية ونفسية تكونت بداخلهم نتيجة لنشأتهم في مجتمعاتهم المتشرنقة المغيَّبة في مناخ تعليمي أجوف مرورًا بمناخ بحثي فارغ وانتهاءً بإعلام يصفر الريح في جنباته ويعكس حالة ثقافية متردية أيما تردي، وساعدت أنهار الأموال البترولية وانتشار القنوات الفضائية وأساليب الزحف المنظم إلى قلب مؤسسات بعينها بغرض تفريغها من مضمونها وفرض أيديولوجيات ظلامية عليها، إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه الآن.
إننا على وشك الخروج من التاريخ، ولن يفيدنا – ونحن نجلس فوق أعمدتنا – أن نهتف بأن الغرب له الدنيا وأن لنا الآخرة، أو أن الله تعالى قد سخر الغرب لنا، أو أنهم في النار ونحن في الجنة، لأن جلوسنا فوق الأعمدة هو الذي أوحى إلينا بهذه الأفكار التي نُطيب بها خاطر أنفسنا، ونُقنع بها ذواتنا المتضخمة وعقولنا الكسالى وعزائمنا المتراخية، إننا مأمورون بتحصيل العلم وبإتقان العمل وبإعمار الدنيا وبتأمل الجمال وبالتدبر والتفكر في الكون، ولا يمكن أن نحقق أي من هذه الأمور ونحن جلوسٌ فوق الأعمدة !



#شيماء_الشريف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دُرَّةُ الزمان .. مكتبة الإسكندرية القديمة
- التعليم من أجل الإبداع
- ومن مِصر ... أشرقت شمسُ الأخلاق
- سيمافور الإسكندرية أو معزوفات التاريخ الروائية
- إيراتوسثينس القوريني
- تغيُّر الفتوى بين المرونة الدينية والضرورة الدنيوية


المزيد.....




- الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي ...
- -من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة ...
- اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
- تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد ...
- صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية ...
- الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد ...
- هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
- الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
- إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما ...
- كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - شيماء الشريف - لا تجلسوا فوق الأعمدة !