في تشكيله لكيانه التاريخي الجماعي ،عبر مسار تطوره الحضاري منذ العصور القديمة وحتى العصر الحديث، عمل الانسان ، بوعي ولاوعي،من اجل خلق ظروف بيئية ، طبيعية واجتماعية اكثر ملائمة لاستيعاب تطلعاته وتطوير قدراته . وعبر هذه السيرورة(المسيرة) مر المجتمع البشري بثلاث تطورات او انعطافات شكلت لاحقا همه الاكبر في تجاوزها وتطويع الظروف وذاته من اجل هذا التجاوز. هذه الانعطافات التي ترافقت مع سيرورة التكون التاريخي للبشرية هي التمايز الجنسي(انثى ذكر) والتمايز الطبقي(الاقتصادي من ملكية وانتاج) والتمايز القومي(اعراق وامم). وبغض النظر عن الخلفية الحقيقية (العلمية) لهذه التمايزات وظروف تكونها (فهذه مسالة تخضع للمنهج وزاوية النظر) فهي قد شكلت الاسئلة الكبرى التي رهنت تطور الانسان في محاولة الاجابة عليها ... تركت هذه التمايزات آثارا عميقة في بنى المجتمعات المعاصرة مازالت مفاعيلها مستمرة ومتواصلة، متفاعلة مع مجموعة ظروف وجوانب اخرى مترتبة عن مسار التطور الحضاري، وفي ذات الوقت تباينت المجتمعات ، وحسب مدى تطورها الحضاري ،في معالجة آثار هذه التمايزات وتطويع وتطوير قدرات الانسان وظروف المجتمع المادية والفكرية في المعالجة. ومع الكم الكبير من النجاح الذي تحقق في التغلب على الصعوبات التي اوجدتها هذه التمايزات ، الا انها ماتزال حاضرة ، بمديات متباينة من الوضوح والتخفي ،وتفعل فعلها منسجمة ومنعكسة من ظروف التطور والتغير الاجتماعي . بعض المجتمعات وصلت لمعالجات تاريخية تتميزبالحيوية وبالقدرة على التعميم لما فيها (المعالجة) من شمول الم بكل معطيات الحضارة والتاريخ الحديثين.
التمايزات تلك سببت صراعات واسعة وحادة عبر مسار التاريخ وتباينت حدتها وحضورها ،او تاثير احد عناصرها بشكل قوي من مجتمع الى آخرومن مرحلة الى اخرى.لكن التمايز القومي، الاكثر بروزا، مايزال مهيمنا على طابع الصراعات الاجتماعية ،لاسيما في مجتمعات بلدان العالم الثالث، وماتزال آثاره ،السلبية والجارحة في اللاشعور الجمعي اكثر شمولية واكثر دوام.
في منطقتنا العربية،او الشرق الاوسط كما يحلو للبعض تسميتها ،هناك اكثر من بلد فيه انقسام وصراع قومي وطائفي ، والعراق واحد من هذه البلدان ، فيه تعدد قومي وديني ومذهبي، وهذا التعدد كان محور وعنوان لمجموعة من الصراعات السياسية والعسكرية، ترك آثاره على طبيعة العلاقات داخل المجتمع،التي كان هو اساسا انعكاس لها.
لايكمن الشر والعنف في التركيبة المتنوعة للمجتمع بقدر مايكمن في نوع ضوابط تنظيم العلاقات بين هذه المكونات المختلفة، والتي يلعب الدور الكبير فيها،بالاضافة الى التنظيم الاجتماعي كمكون موضوعي له محركاته الذاتيةالخاصة،النظام الاداري السياسي(السلطة)،واحيانا تلعب السلطة الدور الاساسي وفق مقتضيات مصالح الفئة السياسية المهيمنة.وظاهرة التعدد الاثني يمكن ان تكون ظاهرة عافية وتفتح الافق واسعا لدفع طاقات المجتمع في البناء الاجتماعي والحضاري باتجاه مد جسور التكامل لهذا البناء اذا قيض لها مناخ سليم وطرق معالجة ناضجة لما يمكن ان ينجم عنها وحولها من مشاكل.
اورث التناقض والصراع المنعكس عنه في المجتمع العراقي آثار نفسية واسعة ولااحد يستطيع ان ينكر ان مجموع القوميات والطوائف عانت من التمييز والضغوط الاجتماعية والسياسية وانعكس ذلك عليها بقوة مترافقا مع ظروف تراجع فيها المشروع الوطني الذي اراد التاسيس لمجتمع سياسي منسجم ومتماسك، رغم المسيرة الطويلة والايجابية لهذا المشروع في تفكيكه لبنى ماقبل مجتمع الدولة الوطنية .
يعود تراجع المشروع الوطني الذي بدا الشروع به منذ تاسيس الدولة العراقية الحديثة(1921)الى مجموعة عوامل من اهمها هواتجاه السلطة في العقود المتاخرة لحرمان المجتمع من اي تمثيل سياسي بالغائها التام للحياة السياسية ومن دون اي هامش وبنفس الوقت لاحتكارها لتمثيل المشروع القومي العربي الذي حول في مجرى الصراع مجاميع القوى القومية العربية الى زوايا مغلقة ومحدودة ونتشرة في المنافي دون فاعلية تذكر.علما ان هذه الاحزاب لاتختلف كثيرا في رؤيتها للمشروع الوطني(الكيان القطري) عن رؤية النظام له،فهي رهنته واعتبرته اداة او طور للمشروع القومي الوحدوي الذي هو في عموم الخطاب القومي العربي عبارة عن مشروع رومانسي،خطابي انشائي يفتقد لاية ملموسية وتجذر مادي واقعي.
ايضا بسبب من التطورات الاقتصادية والسياسية لتلك الحقبة ومارافقها من تطورات دولية لاحقا تراجع اي دور مميز لليسار (الشيوعي) بعد ان تآكل خطابه الايدلوجي وترهل نشاطه السياسي حيث كان مثقلا بصراعاته الداخلية وتناقضاته الخاصة واضطراره للغياب عن الساحة السياسية والفكرية نتيجة لضغط السلطة ولعدم تمكنه من ايجاد اية ثغرة في الجدار الصلب الذي اقامته السلطة بين المجتمع وبين اية قوى اخرى، ماعداها،للعب اي دور فيه.
غياب اليسار هذا ترك آثارا ظاهرة من الفراغ بسبب من كونه ولذات الاسباب السابقة(انعدام القدرة لقطاعات المجتمع المختلفة على تمثيل نفسها في تشكيلات تنظيمية مناسبة) كان ملاذا اتجهت اليه هذه القطاعات الاجتماعية بعد ان وجدت انه يلبي طموحاتها في شعاراته العامة ومشروعه الوطني، لاسيما المجاميع الدينية والقومية التي تشكل اقليات المجتمع العراقي.
هذا الفراغ الذي خلقته السلطة وعجزت في الوقت نفسه عن املاءه لعجز بنيوي بالاضافة الى كون مشروعها متنافي مع معطيات الواقع ،فهو في جوهره مشروع هيمنة واقصاء وتمجيد لفرد(وطالما ان النظام السياسي يعتمد على الفرد ويتبع له فان طبيعة هذا الفرد وخلفياته تلعب دورا جوهريا في كامل توجه الحكم) فتح الباب امام عامل التناقض بين السلطة ومشروعها وبين الطبيعة الموضوعية للمشروع الوطني من ناحية وللشعب كتكوين موضوعي مما اوحى لبعض الفئات من الطوائف والقوميات بان صراعها هي مع السلطة هو صراع بينها منفردة من جهة وبين السلطة من جهة اخرى ومعها المجتمع ذي الاغلبية العربية والاسلامية والذي يتم التماهي الخاطئ بينها(الاغلبية) وبين النظام ،لاعتبار التماثل القومي والديني للنظام، مع انه في الواقع لايمثل في مشروعه وكامل ممارساته لا العرب ولاالمسلمين وانما يمثل طغمة ريفية عشائرية في دائرة ضيقة.
في هذه الظروف الملتبسة صار للوعي عثراته وللاوهام ولعصاب الخوف اثرهما في دفع بعض القوى السياسية التي ارادت ان تمثل وتتفاعل مع بعض الوان الطيف العراقي مستلهمة فكرا قوميا رومانسيا حالما يؤرقه (المجد)الغابر ويحفزه عمق متوهم يحاول ان يوجد تماثلات ما لتشكل عمقا ستراتيجيا يمنحه قدرة متخيلة على حماية الذات الجماعية ولعبها دور واسع في مشروع لايرى الا الحدود الضيقة للطائفة.
غياب الوضوح في فهم المسببات الجوهرية لمجمل الصراع الاجتماعي يتسبب بعمى الوان في رؤية الحلول التي تبتغي حلا لكل اشكالات واشكال الاضطهاد والتمايز فيقع في ارباكات الحلول التي ستؤسس لقواعد جديدة في الصراع يؤبده، حلولا ستصيره صراعا تناحريا لايقبل القسمة على اثنين ،ولاينتهي او يتوقف الا بالغاء احد اطرافه او ربما الغاء اطرافه جميعا في خلفية من الخراب الشامل.
حين نستحضر التمثيلات السياسية العراقية الموجودة في الساحة سنجد انها في غالبها تشكيلات سياسية ذات لون طائفي (عدا بعض اليسار) وتطرح مشاريعها الوطنية من خلال المنظار الطائفي الضيق،مع ان الكثير من القوى تغلف طروحاتها السياسية بصبغة تبعد عنها الشبهة الطائفية الا ان نظرة تدقيقية توصل الى ان الخطاب والعقل الطائفي (الشمولي او الانقسامي) يقف متخفيا وراء هذا الخطاب...اسماء الاحزاب والمنظمات بحد ذاته يتضمن الدلالة الطائفية(العربي الاشتراكي..الكردي ..او الكردستاني.. الوطني الآشوري..الدعوة الاسلامية<الشيعي>. ) في حين بعض التجارب الديقراطية تمنع قانونيا تشكيل حزب على اساس عرقي.
هنا نجد عينة مناسبة (المشروع الآشوري لعراق المستقبل<الموحد>) ذات دلالة مميزة على مانزعم انه تراجع في وعي مفهوم المشروع الوطني المنفتح على تلاوين المجتمع بالانغلاق في قوقعة الانزواء الطائفي .والعينة هي اشارة خاصة للحالة العامة،وتناولها هنا لايقصدها تحديدا ،رغم مابها من ايحاءات وخلفية استثنائية،بقدر مايحاول ان يشير للحالة العامة.
كاي خطاب قومي رومانسي يطرح الحزب الوطني الاشوري في مقدمته لبرنامجه السياسي صورة للامة سابحة في فضاء من التعابير الفخمة لاتحمل مضمونا محددا( روح الامة) ،(الحقائق الخالدة)،(عمق التاريخ)،دور الامة الذي يجب ان يستمر فالامة هنا هي جوهر وعرق وليس حقيقة اقتصادية وسياسية وكيان مركب. غير هذه المقدمات الانشائية هناك ماهو اهم وهو الرؤية السياسية التنظيمية لعراق المستقبل... اعتمدت هذه الرؤية بعض الاساسيات الممتازة كعلمانية الدولة وان الدولة ليست ممثلة لدين او قومية، وهذه تاسيسات تصب في صلب المشروع الوطني الديمقراطي الذي يتطلع لبناء وطن متماسك اجتماعيا ومتكامل بنيويا مرتكزا على تعددية يغنيها وتغنيه، الا ان هذا البناء الذي يسعى للديمقراطية ويتوسلها يسقط في (هفوة) تقوض كل البناء الذي يحاول ان يؤسس له، فبعد ان يشكل برلمانا منتخبا من المواطنين ويمنحه ،اي البرلمان،صلاحية تشكيل الحكومة من الحزب الذي سيحقق الاغلبية يلجم هذا الانسياب الجميل في البناء حين يضع فوق، في قمة هذا المعمارالديمقراطي مجلسا (دكتاتوريا) يتقاسمه (ملوك الطوائف) يتشكل من مجموع ابناء الاديان المكونة في المجتمع العراقي (مثلا العرب الذين يشكلون اكثر من 70 بالمئة يتساوون مع الارمن الذين يشكلون اقل من 5 بالمئة من السكان !) ولايكفي ان هذا المجلس يستطيع ان يعطل كل المشاريع التي يقدمها البرلمان الممثل للشعب اذا قرر ذلك وانما سيجعل اي طرف فيه قادرا على تعطيل وتقويض اي مشروع لايروق له من خلال شرط الاجماع داخل المجلس(مجلس الشيوخ). الطريف ان الرؤية (المشروع)استثنت المندائيين واليزيديين من الحصة المتساوية داخل المجلس دون شرح الاسباب ، وهو امر مريب ،(وتكرم) عليهم بنصف المقاعد ، لكن على هؤلاء ان لايبتاسوا فالمشروع لايتناقض مع منطقه اذ انه منح الاقلية،اي اقلية، القدرة على التحكم في المجلس من خلال اجماعها على موقف ما(الاقلية المعطلة) وهذا ،للغرابة والطرافة يسهل على الطائفتين الاجماع بسهولة اكبر..
هكذا وفي لحظة استثنائية تتعارض المساواة مع العدل. تلك الغاية الانسانية النبيلة التي شوهت علاقتهما وابعادهما النظرة الشائهة لمفهوم المساواة، بل لمفهوم المواطنة.
لاباس هنا من ان نستذكرالحكاية الشعبية عن الصبي الذي اوصاه ابوه بان يقسم سلة تفاح بين جدتيه بالتساوي ،فقام بقطع كل تفاحة الى نصفين... يبدو الامر هنا وكانه تصور صبياني، لكن المسالة ليست كذلك تماما. الذات هنا متضخمة لحد الانتفاخ بحيث ترى لنفسها ابعادا وامتدادات في التاريخ والجغرافية المعاصرتين متوهمة التماثل الديني والحضاري مع قوة كان لها تاثير في الحياة السياسية والاجتماعية العراقية في زمن آخر،مما يوحي لها هذا الوهم بالحجم الغير واقعي للذات.
هذا النوع من الحلول سوف يؤسس ،ان تحقق، لوطن يقوم على التجزئ ونظام المحاصصة السياسية يعرقل السعي من اجل بناء دولة القانون والمؤسسات الذي ينشده كل مشروع وطني ديمقراطي عقلاني.
البيان يقول كل مايضمره بوضوح وصراحة وهو يخفف من عبئ المناقشة والكشف،ونواياه وتصوراته واضحة رغم المقدمات الجميلة والموحية من مثل(الايجدر بنا ان نعيد النظر في مفاهيم كثيرة وخصوصا مفهوم الوحدة الوطنية، وهيكل الدولة العراقية لاعادة بناءها بما يحقق لكافة ابناء العراق بمختلف قومياتهم وطوائفهم الدينية الشعور بوحدة الانتماء للعراق الواحد وازالة شعور الخوف والغبن المترسخ لدى العراقيين كافة<البيان>)، كلام جيد لكن لنتسائل ابهذه الكيفية والآلية نزيل الغبن والخوف؟ حلول(الرؤية) تريد ان تحول العراق الى بؤر طائفية واقطاعات سياسية ستتحول بالضرورة الى مراكز تجمعات وعزل جغرافي واجتماعي ويتحول الوطن الواحد الى كانتونات عزل ، ويوفر ارضية خصبة للاستعداءات والحروب الاهلية، ويقضي،ربما الى الابد، على التطلع لعراق موحد فعلا في مشروع وطني ديمقراطي ، انساني يضمن وحدة الانتماء للوطن لا للطائفة.
مرت الدولة العراقية الحديثة بمرحلة طويلة ومتصلة من الدمج الحضاري والبنيوي(الاقتصادي والسياسي) لتشكيل دولة تكون تعبيرا واسعا لمكونات المجتمع المتعددة،وهذه الارضية وان مرت بتراجعات وانتكاسات الا انها تشكل من حيث الجوهر نواة صلبة لتاسيس مستقبل ديمقراطي حر يحترم ويضمن حقوق المواطن كفرد وليس لخلفيته الدينية او القومية، وفي ظل هكذا بنية سياسية واجتماعية يبدا المجتمع بالميل اكثر فاكثر للتمثيل السياسي والمهني او الاجتماعي الذي يعتمد الاطر الوطنية ويبتعد عن التشكلات الاهلية القديمة كالعائلة والعشيرة واخيرا الطائفة.
وهكذا مشروع هو الذي يجب ان تتركز الجهود باتجاه بناءه بطريقة سليمة وتكريسه مدعوما ومرتكزا على الديمقراطية كاسلوب لادارة الحياة السياسية ولخلق مناخ اكثر ايجابية في تطوير العلاقة بين المواطن كفرد وليس كعضو في طائفة وبين الدولة باعتبارها اداة المواطنين لحكم انفسهم. وهو احد المداخل المهمة لازالة عقد الخوف وبالتالي الاستقواء بالطائفة ومن يقف وراءها .
مر العراق ولايزال في ظروف شاذة وهو الان في اسوا ما يمكن ان يمر به بلد ومجتمع من الخراب ، وعلى البدائل التي تريد ازالة هذا الخراب ومن تسبب به ان تطرح معالجات جذرية وشاملة يتجاوز بها الوطن مآزقه لا ان يتحول الوطن (الذي هو عهدة الجميع ومسؤوليتهم )الى وسيلة تريد كل فئة او طائفة تحقيق مصالحها الضيقة على حساب كيانه، بغض النظر عن النتائج.
والى ان يحل الشارع مناقشاتنا سيكون هناك الكثير والكثير من النقاش.
ملاحظة
تمت الاستفادة من البيان المنشور في( الحوار المتمدن) بعنوان( رؤية آشورية لمستقبل العراق الموحد) لنخبة من المثقفين الاشوريين .
خالد صبيح
السويد