|
يوميّــاتٌ عراقـيّــةٌ
سعدي يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 838 - 2004 / 5 / 18 - 04:31
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
كتبـها : باترِك كوكبورن ترجـمَها: سعدي يوسف
" قد كنتُ قدّمتُ ، من قبلُ ، مادّتين لـ "بــاترِك كـــوكبــــورن Patrick Cockburn ، إحداهما عن شارع المتنبي ببغداد ، والأخرى عن رحلةٍ خطرةٍ للرجل في المجاهل العراقية . والآنَ أقدمُ له مادةً ثالثةً كتبها ببغداد في السابع من شهر أيّـار هذا ، ونشرها في " مجلة لندن للكتاب " London Review of Books في عددها الأخير10 Volume26-Number بتاريخ 20/5/2004 ، المادة طويلةٌ لكنني جهدتُ كي أقدِّمها إلى القـاريء المعنيّ بمعرفة صورتنا الملتقطة من زاويةٍ ما . إنْ استدعت هذه المادة تعاليقَ فأرجو أن توجَّـه إلى الكاتب لا إلى المترجِـم " . سـعدي يوسـف
الصور الفوتوغرافية التي نُشرت لـتُظهر ما يمكن أن يتعرض له السجناءُ العراقيون على أيدي سجّانيهم ، سمحتْ للعالم الخارجي برؤية ما كان العراقيون عرفوه منذ أمـدٍ : الإحتلال في منتهى الوحشية . في بغداد كانت القصص تروى منذ شهور عن التعذيب المنهجي في السجون . أمّـا في الولايات المتحدة فقد كان تأثير الصور أعظم ، بسبب نجاح الإدارة السابق في التحكُّـم بالأنباء القادمة من العراق . في تشرين أول الماضي كتبتُ مادةً عن جنودٍ أميركيين يجرفون مزارع النخيل قرب " بلد " ، شماليّ بغداد ، عقاباً للمزارعين المحليين إثرَ كمينٍ . بعد نشر المادة تلقّيتُ سيلاً من رسائل البريد الألكتروني الأميركية الغاضبة ، تنفي أن يكون الجنودُ الأميركيون فعلوا أمراً كهذا . * القادة المدنيون والعسكريون ] الأميركان [ في العراق يعيشون في عالمٍ خياليّ غريب . هذا العالم يُعرَض يومياً في القاعة الكهفية في مركز المؤتمر الإسلامي القديم ببغداد ، حيث يعقد الناطقون باسم التحالف مؤتمراتٍ صحافية يومية . الطرف المدني يمثله دان سينور من سلطة التحالف المؤقتة ( س . ا . م ) ، وهو شخصٌ معروق الوجه ، اسود البزّة ، تمَّ استيراده مؤخراً من المكتب الصحافي للبيت الأبيض . إنه لا يُخفي حقيقة أن عمله هو تقديم صورةٍ عن العراق تساعدُ في إعادة انتخاب الرئيس بوش . وعندما يمارس هواية الركض في الجيب الأميركي ذي الحراسة الكثيفة في ما يسمى المنطقة الخضراء ، فإنه يرتدي فانيلةً كُتبَ عليها : بوش و شيني 2004 سينور غير مهتمّ بالمقاومة العراقية ؛ فهي لا تعني لديه أكثر من عصابةٍ صغيرةٍ من إرهابيي القاعدة وأتباع صدّام الأشداء الذين يحاولون ، عبثاً ، منعَ ولادة عراقٍ جديد . * الأكثرُ بلاهةً هو الجنرال مارك كيميت ، نائب مدير عمليات التحالف ، المتّـسِـم بعينين ذواتَي عزمٍ فولاذيّ. وهو مغرمٌ بأن يرشّ على أجوبته بهاراً من مطبخ عائلته ، آل كيميت . في أحد الأيام شكا له صحافيٌّ عراقيٌّ من أن الهليكوبترات الأميركية تُـفزِعُ أطفال بغداد حين تهدرُ وهي تحلِّقُ خفيضةً ، سريعةً ، على الســطوح . كان جواب كيميت أنه أمضى معظم حياته ، بعد البلوغ " إمّـا قرب قاعدةٍ عسكريةٍ ، أو فيها ، وأنه تزوج امرأةً تعلِّـمُ في المدارس " ، وأنك في تلك القواعد " غالباً ما تسمع إطلاق نيران الدبابات . غالباً ما تسمع المدافع تهدر" وأضاف الجنرال متفاخراً " لكن السيدة كيميت نجحت في إبقاء تلامذتها هادئين بالرغم من هدير المدافع المستمر ، بأن جعلتهم يفهمون أن هذا الهدير والزئير ليس ســوى أصوات الحرية " . وحثَّ كيميت ، الصحافيّ ، على الذهاب إلى المنزل( منزل الصحافيّ ) ، كي يشرح لأطفاله أنهم لم يصبحوا قادرين على العيش أحراراً ، إلاّ بفضل هدير المدافع هذا ، وهو صوت الحرية . واقعُ الأمر أن الهليكوبترات كانت تحلِّـقُ شديدةَ الإنخفاض والسرعة ، في الشهور الستة الأخيرة ، من أجل أن يكون إسقاطُها أصعبَ على المقاوِمين . لقد أُسقطتْ هليكوبتراتٌ عدّةٌ حول الفلوجة بصواريخ أرض- جوّ ، حسّـاسةٌ للحرارة ، محمولة على الكتف . عراقيون قلائلُ يشاركون آل كيميت رأيهم الظريفَ عن القوة الجوية الأميركية . فبعد يومٍ من سماعي رأي الجنرال زرتُ موساك ، وهو محاسبٌ مسيحيّ ، يعمل ، عادةً ، في محطة كهرباء الدورة ذات المداخن الأربع العالية التي تسيطر على خط الأفق جنوبيّ بغداد . كان في بيته ، لأن المولِّـدات العملاقة أُطفِئتْ ، والمهندسين الألمان من شركة سييمنس الذين كان عليهم نصبُ مولِّـداتٍ جديدةٍ … هربوا من بغداد خوفَ الإختطاف . جدران حيّ الإسكان ، حيث الطبقة الوسطى الأدنى ، وحيث يسكن موساك ، كانت مغطاةً بشعاراتٍ تؤيد المقاومة . شرح لي موساك الأمر قائلاً : " قبل بضعة أسابيع ، أطلقَ رجلٌ غير معروفٍ نار رشاشته الكالاشنيكوف على هليكوبتر . الهليكوبتر ردّت على ذلك بإطلاق صاروخَينِ ، أصابا خيمةً كان فيها مجلسُ فاتحةٍ لإحدى العوائل ، مما تسبّبَ في مقتل شخصين ، وجرح خمسة عشــر " . بعد ذلك ازداد تأييدُ حيّ الإسكان للمتمردين . لم يتّضح إلاّ الشهرَ الماضي ، بعد أن اجتاحت الإنتفاضاتُ العراقَ ، أن العسكر الأميركان أقاموا كاملَ استراتيجيّـتهم ، على تصديقهم دعاوتَـهم ذاتَها. لقد أقنعَ الآمرون الأميركانُ أنفسَـهم أن وخز الـدبابيس لهجمات المقاومة آتٍ من مؤيدين للنظام السابق ، ومن مقاتلين أجانب غامضين ( وبالرطانة العسكرية الأميركيةFRLs or FFs : ) . وصاروا يتباهون بالحديث عن الشرطة العراقية الجديدة ، والوحدات العسكرية وشبه العسكرية ، التي درّبوها . هذه القوات المقرر لها أن تبلغ في عديدها مائتي ألفٍ ، ستحلّ ، تدريجاً ، محلّ القوات الأميركية . مدهشةً كانت السرعةُ التي انهارت فيها الخططُ الأميركية بصدد العراق ، لكن السبب واضحٌ : العسكر الأميركان ، و بول بريمر نائب الملك الأميركي The US viceroy، ورئيس س.ا.م ، تسبّـبا في وقتٍ واحدٍ ، في إثارة مواجهاتٍ مع المجموعتين الرئيستين في العراق ، الشيعة والسنّة العرب ، الذين يشكِّـلون معاً ، ثمانين بالمائة من السكّـان . في أواخر شهر آذار ، قرر بريمر التضييقَ على رجل الدين الشيعي الراديكالي مقتدى الصدر بإغلاق صحيفته ذات الإنتشار المحدود ، الــحــوزة ، والقبض على مساعده الرئيس في النجف . معظم الشيعة يرونه أهوجَ عنيفاً؛ بريمر جعله شهيداً . واجتمعت الديانة والوطنية . هكذا انفجرت في وجه بريمر محاولتُــه تهميشَ الصدر، واستولى مسلّـحو جيش المهدي الذين يرتدون السواد على أجزاء كبيرة من جنوبيّ العراق ، بضمن ذلك النجف والكوت . وبعد أيامٍ قليلةٍ أثارَ الجيشُ الأميركيُّ أزمةً أخرى ، مع السنّــة هذه المـرّة . ثأراً لقتل أربعة رجال أمنٍ أميركيين والتمثيل بجثثهم ، في الفلوجة ، الحادي والثلاثين من آذار ، طوّقت ثلاث كتائب من جنود البحرية ( المارينز ) المدينةَ وشــرعت تقصفها . اعتبرَ العراقيون ذلك نوعاً من العقاب الجمعي. وخلال أيامٍ قليلة نجح المارينز في تحويل أهالي الفلوجة من عنودين مخاطِـرين في رأي معظم الناس ، إلى رموزٍ للوطنية العراقية الحديثة . وبدلاً من أن ينحصر التمردُ في حدود الفلوجة ، فإن حصار المدينة شجّــع على اندلاع انتفاضاتٍ أخرى في البلدات والقرى السنية على امتداد الفرات . وحينما بدأت السيطرة الأميركية على العراق تنحســرُ ، كانت استجابة الرسميين رفضَ تصديقِ ما يحدث . فقط ، بين حينٍ وآخر ، كانت تظهر علاماتُ فزَعٍ . موقع س.ا.م على الإنترنت ، مثلاً ، مملوءٌ عادةً بمعلوماتٍ غزيرةٍ عن مشاريع إعادة الإعمار وتحسين الطاقةِ الكهربائية ، كما أن فيه أنباءً عن الأمن ، الهاجسِ الرئيسِ لرجال الأعمال الأجانب ، المشاهدين الأساسيين لهذا الموقع . مع اشتداد الأزمة ، قرر الـ س.ا.م أن الأخبار هي أسوأ من أن تُـبَثَّ . وأعلنتْ رسالةٌ موجزة على الموقع ، بلا مواربةٍ : لأسبابٍ أمنيّــةٍ لا توجد تقارير أمنيّـة . كان الجنود الأميركيون يُـقتَـلون ، لأنّ آمِريهم لم يستطيعوا تصديقَ أن التمرد كان ينتشــر. كان الجيش لا يزال يرسل قوافلَ من صهاريج وقودٍ عبر الطريق السريع بين بغداد والفلوجة ، بينما كان الأنصارُ Guerrillas استولوا على الطريق . وإذ مرّت على التمرد خمسة أيامٍ ، وبينما أنا أحاول بلوغَ الفلوجة ، أو أن أكون _ في الأقل_ على مقربةٍ منها ، وقعتُ في كمينٍ بأبو غرَيب ، وهي بلدةٌ من مساكنَ مبعثرةٍ ، ومعاملَ مهجورةٍ ، وبساتينِ نخيلٍ تُقدمُ ساتراً جيداً للأنصار . لم نعرف أن الحرب اقتربت كثيراً من بغداد إلاّ حين رأينا أربع دبابات ، توجِّـه مدافعها إلينا ، وتغلق الطريق الواقع خلف مطار بغداد . في كل مكان من أبو غرَيب ، ترى على الحوائط شعاراتٍ طريةَ الدهان ضد الأميركان. إحدى هذه الكتابات تقــول :" سـندقُّ على أبواب الجـنـة بجماجم الأميركان " ، بينما تقول أخرى : "سنّـة شيعة = الجهاد ضد الإحتلال" . على مبعدةٍ ، كان بإمكاننا رؤية ثلاثة أعمدة من الدخان الأسود الزيتي تَـصّـاعَـدُ في السماء . قال لنا أهالي البلدة إن قافلةً أميركيةً هوجمتْ قبل ساعاتٍ قليلة . قررنا أن نتبع قافلة مساعدات متجهة إلى الفلوجة ؛ شبّـانٌ يلوِّحون بأعلامٍ عراقيةٍ من مؤخرات السيارات. الطريق الرئيسُ مغلقٌ ، لهذا سلكنا مسالك ضيقةً خلال قرىً متهالكة متربة يصفِّقُ أهلُها لدى مرورنا . كانت مساعدة الفلوجة شعبيةً كما يبدو . كنا نلفّ وندور في الريف ، في ما حسبناه لانهايةً ، إلى أن وجدنا أنفسنا ، فجأةً ، عند الطريق الرئيس . ما إن بلغناه حتى مرت قافلة صهاريج بترول أخرى يرافقها جنودٌ أميركيون في عجلات هامفي . هوجمت القافلة على الفور . حين سمعنا نباح الرشاشات وهسيس الآر_ بي _ جي فوق رؤوسنا ، حُـدنا عن الطريق إلى أرضٍ خلاءٍ ، وانبطحنا ، ضاغطين وجوهنا على الرمل . سـوّاقٌ عراقيون آخرون استتروا قربنا . صاح بهم باسل القيسي ، سائقُـنا : انزعوا كوفياتكم وإلاّ ظنكم الأميركان مجاهدين ، وقتلوكم … حدثَ توقُّفٌ لإطلاق النار ، فعُـدنا إلى السيارة ، ومضينا في طريقٍ ضيقٍ بعيداً عن القتال . تحرّكنا ببطءٍ ، فقد أوصيتُ السائقَ بألاّ يثير غباراً يجلبُ الإنتباه إلينا . بلغْـنا قنطرةً على قناةٍ ، وإذا بعدة مجاهدين يهرعون إلينا حاملين رشاشةً ثقيلةً ذات مسندٍ ثلاثيّ وقاذفات آر_بي_ جي . توقّفوا عند القنطرة ينصتون إلى إطلاق النيران الذي اندلع ثانيةً ، ويبدو أنهم لا يعرفون مكان منطلَـقه . صاح أحدهم : ماذا يحدث؟ باسل الذي لم يشأ إثارة شكوكهم بالإبتعاد عجِـلاً ، أوقفَ السيارةَ ، وقال : " كنا في طريقنا إلى الفلوجة نحاول إيصال مساعدةٍ ، لكن أولئك الخنازير فتحوا النار علينا " . القافلة التي رأيناها تتعرض للهجوم ، كانت ، كما أظنُّ ، الرابعةَ التي تقع في كمينٍ ، على هذا القسم من الطريق ، خلال أربع وعشرين ساعة . عدة جنودٍ أميركيين قُـتِـلوا في القتال السابق ، كما أســرَ المقاومون جنوداً آخرين . ليومين أو ثلاثةٍ ، كان القادة العسكريون الأميركان لا يزالون يعتقدون أنهم يواجهون عدداً محدوداً من الـFRLs و الـFFs ، غير مصدِّقين أن انتفاضاتٍ متزامنةً كانت تندلع في البلدات كلها ، وصولاً إلى الحدود السورية . تصاعدت الإصابات . وقُتِـلَ اثنا عشر من مشاة البحرية في معركةٍ شرسة بالرمادي ، التي لا يفصلها عن الفلوجة سوى النهر . وقُتلَ خمسةٌ آخرون في بلدة القائم ، على مبعدة أميالٍ قليلةٍ من الحدود السورية . ثمت أنباءٌ أخرى مثبِّـطةٌ للقادة الأميركيين . إحدى كتائب الجيش العراقي الجديد رفضت التوجُّـه إلى الفلوجة : قال الجنود إنهم غير مستعدين لمقاتلة إخوتهم العراقيين . الكتيبة السادسة والثلاثون من قوة الدفاع المدني العراقية التي يبلغ عديدُها أربعين ألفاً ، وهي وحدةٌ خاصةٌ مكوّنة من ميليشيات الأحزاب المعارضة ، قاتلت جيداً أول الأمر . وادّعت الأحزاب أن هذا دليلٌ على أن رجالهم فقط هم المؤهلون ليكونوا نواة الجيش الجديد . لكن ، بعد أحد عشر يوماً على خط النار ، تمرّدت هذه الكتيبة أيضاً ، وظلَّ الأكراد ، وحدهم ، مستعدين لمواصلة القتال . لم يكن التمرد والفرار على هذا القدْر من المباغتة . رجال الشرطة العراقيون أخبروني دائماً أن عملهم هو القبض على المجرمين لا على المقاوِمين . والجنود الذين درّبهم الأميركيون يتقاضى واحدُهم مبلغ ستين دولاراً في الشهر ، أي نصف ما يتقاضاه كنّـاسٌ في بغداد . خلال الأزمة ، التقيت بخمسةٍ من الزوار الشيعة في طريقهم إلى كربلاء ، سيراً على الأقدام . كانوا يرتدون السواد ويحملون رايةً خضراء عليها شعاراتٌ دينيةٌ . أبدَوا مشاعرَ مألوفةً معادية للأمريكيين : المفاجأةُ كانت حين أخبروني أنهم جميعاً جنودٌ في قوات الدفاع المدني العراقية . لماذا فشل الدورُ الأميركي في العراق هكذا؟ لِـمَ كان على المارينز الأميركيين أن يستدعوا جنرالاً من الحرس الجمهوري لصدّام حسين يتولّى مسؤولية الأمن في الفلوجة ، بينما حُلَّ الحرس الجمهوري ، باحتقارٍ بالغٍ ، من جانب بريمر في أيّـار العام الماضي ؟ لِـمَ كانت هذه الطريقة الوحيدة لإنهاء حصارٍ دامَ ثلاثة أسابيع ؟ استفتاء أجرته الـ CNNبالإشتراك مع صحيفة USA Today في شهر آذار أظهرَ أن 56 بالمائة من العراقيين يريدون الجلاء الفوري لقوات التحالف _ وكان هذا قبل الإنتفاضات . العراق يحكمه العسكر الأميركيون أساساً . وقد نُحِّـيَتْ وزارة الخارجية قبل الحرب . العسكريون ذوو البدلة ، ومدنيو الـ س.ا.م ، يقدمون تقاريرهم منفصلةً إلى البنتاغون . والجيش الأميركي يخطط وينفذ سياساته بمعزلٍ عن بريمــر . في ردِّ فعلٍ إزاء الفزع من هجمات المقاومة ، أعلن الـ س.ا.م مؤخراً إغلاقَ الطرق السريعة خارج بغداد أمام السيارات المدنية . وكانت لهجة الإعلان تنطوي على التهديد : " في حال استخدام المدنيين الجزء المغلق من الطريق السريع فإنهم سيواجَهون بقوّةٍ قاتلةٍ " . هكذا كان تحذير الـ س.ا.م ، أي أن المدنيين سوف يُطلَق عليهم الرصاص. خلال ساعات أعلنَ الجيش الأميركي أنه لا يعرف عن الأمر شيئاً ، وأنه لن ينفذ ذلك . وكان على بريمر أن يتخلى عن الفكرة . إن هذا لأكثرُ من الفُرقة التقليدية بين المدنيين والعسكريين . بريمر ، الذي أظهرَ ، بمثابرةٍ ، سـوءَ تقديرٍ وحُكمٍ خلال العام الماضي ، ظلَّ يحصرُ صنعَ القرار بدائرةٍ ضيقةٍ . وأعضاء كبار الشأن في الـ س. ا.م يقولون إنهم لا يعرفون أكثر مما يقرأون في الصحف . لكن قراراتٍ هامة مثل حلّ الجيش العراقي يتّخذها في واشنطن ، بول وولفوفيتز وشــركاه . الهدف الأعلى للبيت الأبيض هو الحصول على أنباء من العراق مناسبة للحملة الرئاسية . الجشع الهائج للشركات التي تقدم عروضها لـ س.ا.م ، وحُمّى الخصخصة لدى المحافظين الجدد قادت إلى إخفاقاتٍ مدمِّـرةٍ . المثال على ذلك أن عقد إقامة محطة تلفزيونية تسند الولايات المتحدة ، رسا على الـ SAIC، وهي شركة مفضلة لدى البنتاغون ، لكنها لا تتمتع بخبرة في التلفزيون . وبالنتيجة صار معظم العراقيين يتلقّـون الأنباء من فضائيتي الجزيرة والعربية ، اللتين تعاديانِ الإحتلال الأميركي . المارينز هم من حاصروا الفلوجة ، محوِّلينَ المدينةَ إلى رمزٍ وطنيّ ، لكن بـريـمر هو من بدأَ المواجهةَ مع مقتدى الصدر ، فاشلاً في إدراكِ مدى الإحباطِ الذي يشعر به الملايينُ الخمسة عشر أو الستة عشر من الشيعة العراقيين ، أغلبيةُ السكّــان، إزاءَ الإحتلال . هم يعتقدون أن الولايات المتحدة تريد إبعادهم عن الحكم ، بتأجيل الإنتخابات ، واستخدامِ الأكراد للإبقاء على تحكُّـمهم في البلاد . جيش المهديّ ، ميليشيا الصدر ، ليس جذاباً . لقد صادفتُ جمعاً منه وأنا في طريقي إلى النجف ، حيث التجأ الصدر. كانوا يحرسون حاجزاً خارج الكوفة تماماً . كنتُ أعتمرُ كوفيّـةً منقّطةً بالأحمر والأبيض ، وأجلسُ حذراً في الحوض الخلفيّ لأن الأجانب كانوا يُقتَـلون ، ويُطلَق عليهم الرصاص في المنطقة . جيش المهدي ما كان يريدني أرتدي الكوفية . أشياء عدّةٌ يكرهونها فـيَّ . كانوا مرتابين جداً إزاء هاتف الستلايت والموبايل والكامرا . للوهلة الأولى حاولوا دفعي في سيارةٍ أخرى ، ثم قرروا أن يستخدموا سيارتنا . ثلاثة مسلّحين مع رشاشاتهم وأشرطة الرصاص تغطي صدورهم ، حشروا أنفسهم في السيارة . تبعْـنا سيارةً أخرى ، ملأى أيضاً بالمسلحين، نحو مرقد الإمام علي ، ذي القبّـة الخضراء ، في وسط الكوفة _ حيث مقرُّهم . ما إن توقّفنا خارج الجامع حتى استراح المسلحون قليلاً. قدّم أحدهم سجارةً لي ، فأخذتُها ، بالرغم من أني كنتُ أقلعتُ عن التدخين . معظمهم جاء من أكواخ مدينة الصدر ببغداد . تحدثوا حول الدفاع عن العراق ضد أميركا وإسرائيل ، وحول ســرقة بترول العراق . شعاراتهم كانت وطنيةً أكثر منها دينيةً . دُهشوا بصورةٍ خاصةٍ لنسخةٍ من النيويوركر وجدوها في صندوق السيارة . أحد المسلحين أشار بغضبٍ إلى الأشرطة والنجوم الصغيرة في إعلانٍ ما . أخيراً جـيءَ بهاتفي الموبايل وجواز سفري ، وإنْ لم يُـؤتَ بهاتف الستلايت الذي رأيتُـه يختفي في جيب أحد المسلحين . لم تكن اللحظة مناسبةً للمطالبة به . انتفاضاتُ نيسان قد تكون نقطة تحولٍ للولايات المتحدة في العراق.لقد اعتمدت القوةَ المسلحةَ، واحتقرت حلفاءَ محليين، لكن قوّتها المسلّحة لم تترجَـمْ في نفوذٍ سياسيّ . لم تجرؤ على اقتحام الفلوجة والنجف ، مع أن عديد المدافعين عنهما أقلُّ من ألفَـينِ ذوي سلاحٍ خفيفٍ . للولايات المتحدة أصدقاء قلائلُ في العراق ، لكن حتى هؤلاء الأصـدقاء يشعرون الآنَ بأن الإحتلال هو في الجَـزْرِ . لندن 17/5/2004
#سعدي_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجندب الحديديّ
-
مُـعـذَّبو الســماء
-
أحــدُ أصدقــائي
-
إيضــاح
-
من هواجسِ رجُلٍ ، ســنة2000 ق.م
-
هل تحبِّـينَ ألفِـيس بريســلي ؟
-
أوّل أيّــار عالياً على الأسلاك
-
غارةٌ جويّـة
-
اســـتحضــارُ أرواحٍ
-
مَـشارفُ الرُّبْـعِ الخالـي
-
عراقيّــون أحــرارٌ
-
الجبــل الأزرق
-
America, America
-
الإســتباحــــةُ
-
طائرُ النار : من باليرمو إلى كاراكاس
-
تكوين 34 - في ميلاد الضوء الشيوعي -
-
مَــنازل
-
رائحــة
-
الناسك
-
نارُ الحطّـابين
المزيد.....
-
تصعيد روسي في شرق أوكرانيا: اشتباكات عنيفة قرب بوكروفسك وتدم
...
-
روبيو يلتقي نتانياهو واسرائيل تتسلم شحنة القنابل الثقيلة
-
مئات يزورون قبرالمعارض نافالني في الذكرى السنوية الأولى لوفا
...
-
السيسي يلتقي ولي العهد الأردني في القاهرة
-
بعد حلب وإدلب.. الشرع في اللاذقية للمرة الأولى منذ تنصيبه
-
إيمان ثم أمينة.. ولادة الحفيدة الثانية للملك الأردني (صور)
-
السعودية تعلق على الأحداث في لبنان
-
إسرائيل تتسلم شحنة من القنابل الثقيلة الأمريكية بعد موافقة إ
...
-
حوار حصري مع فرانس24: وزير الخارجية السوداني يؤكد غياب قوات
...
-
واشنطن وطوكيو وسول تتعهد بالحزم لنزع نووي كوريا الشمالية
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|