|
قضية موت الله بين الشاعر العربي ادونيس والفيلسوف الالماني نيتشه
يوحنا بيداويد
الحوار المتمدن-العدد: 2752 - 2009 / 8 / 28 - 07:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في امسية شعرية نادرة اقيمت مؤخرا في دير القديس بطرس في مرمريتا في سوريا في 9 اب 2009، يصف الكاتب حنان عارف في مقاله المنشور في موقع الحوار المتمدن عدد 2742 وقوف الشاعر العربي الكبير ادونيس (1) امام جمهوره لاقيا اياهم بعض من قصائده الشعرية، ملوحا يديه يسارا و يمينا فكأنه يعطي الاشياء وجودها من جديد من خلال خروجها من حنجرته، من خلال تعابيره الرمزية العميقة المعبرة، وكلماته الفياضة والصور الشعرية الملهمة.
وفي نهاية الامسية فُتح النقاش وطُرحت الاسئلة. كان في اجوبته يُلمِح كعادته الى المواضيع العصرية والمصيرية التي تعتمد على حرية الفكر فهو معروف في الحديث عن الشعرالقديم والحديث والثابت والمتغير والرموز الصورية والرموز الايحائية في الشعر والتراكيب اللغوية ومدلولاتها حاملا لواء التجديد في كل مناسبة (في نصيحة له للاجيال الحاضرة هناك يقول : "ثوروا على ابائكم".
ما جعلني ان انتبه الى شاعرنا العربي الكبير هو قوله ( لم يعد لله ما يقوله بعد!) الذي كان جزءً من عنوان المقال نفسه. وكأنني اسمع الفيلسوف الالماني الكبير نيشته يعيد مقولته الشهيرة عن موت الله على لسان بطله (زارا) في كتابه المشهور هكذا تكلم زرداشت حينما يقول في الصفحة 32. " انه لامر مستغرب ، الا يسمع هذا الشيخ في غابة، ان الاله قد مات؟!"
لا احد يشك في عظمة الشاعر ادونيس ، منذ اكثر ستين سنة هو يجول شرقا وغربا، خطيبا ماهرا وشاعرا ثائرا، وناقدا لا ذعا لاسلوب الحياة ومشرعي قوانينها والمؤسسات الثقافية وتفاهاتها والحكومات الفاشلة وعلاتها. ولا يشك احدا في ميوله الى تشجيع المجتمعات الشرقية والعربية وشعوبها الى تغيير اسلوب تفكيرها وتبني روح التجديد في الحياة كي تستطيع مواكبة التطور الحاصل لدى الامم الاخرى.
على الرغم من صعوبة التصديق ان ما يقوله الشاعر ادونيس هو نفسه ما قاله الفيلسوف نيتشه، الا ان الصبغة المتشابهة للعبارة تقودنا الى اليقين بأن مغزاها واحد (2) (ما ينوي ادونيس قوله الان) هو التنبؤ عن ما سيحصل خلال القرنين القادمين في الشرق عموما وللعرب خصوصا هو نفسه ما نوى نيتشه قوله وقد حصل للحضارة الغربية خلال القرنين الماضيين .
انا لا الوم الشاعر ادونيس على مقولته (لم يعد لله ما يقوله بعد!) لانني مقتنع ومؤمن بأن الله في الازمنة الاخيرة يتكلم مع الانسان عن طريق نابغة مجتمعه (هذا لا يعني انني مؤمن بالغنوصية)، وانما من خلال دراسة اديان الشعوب واساطيرها ومقارنة طريقة تفكيرهم و وانتاجهم الفكري والروحي وشرائعها قادتني الى هذه القناعة (3). لكن السبب الرئيسي في رأئي من قول ادونيس هذه العبارة النارية هو التحجر الذي يلازم الامم الشرقية والعرب منذ عصور طويلة، فهو يدعوا الى ان يفهم الناس، ان الله يفعل من خلال الانسان نفسه عندما يستعد (الاخير) وهو منفتح الفكر والضمير ويبدا في العمل الخلاق .
فهي اشارة الى عالمنا الشرقي كما قال هيجل لا زال مكبل بقيوده كثيرة اهما القيود الاجتماعية الممزوجة بقدسية دينية ومن ثم دخول هذا الكم الهائل من المعرفة غير المصنفة التي فاضت عليه فجاة من غير تحضير واستعداد او وضع السدود والتي خلقت له كثير من المشاكل المعقدة ، اما سبب الاخير هو ضمور البحث عن قيمة الابداع نفسها لدى اكثر المبدعين او النخبة المختارة وتحول اتجاههم الى الرغبة في امتلاك الماديات اكثر من قيمة انجاز الفكرة اوقيمة الابداع نفسه.
كم كنت اتمنى ان يتكلم الشاعر ادونيس في وعظته هذه عن الحقيقية الكبرى بعكس ما خطب (زارا على الناس)، فيقول لهم "ان الله خلق كل واحد منكم ليكون نبيا بين قومه كي يعلم الصالحات، جاهدا من اجل ان يصون الحياة وديموميتها في الوجود، لا انبياءً تبشر العالم بضروة ازالة الزوان من الحنطة واتخاذ طريقة الانتحار من اجل قتل الاخر كوسيلة للوصول الى الهدف او السعادة او النشوة ، ولكن الانبياء المتخاذلين بينكم كثيرون في هذه الايام. انتم كالجلادين الذين صلبوا المسيح نفسه عندما لا تدافعون ولا تشيرون الى الحقيقية في كل حين".
ثم يشخص امراض وعلل النخبة المختارة في المجتمع الشرقي او العربي في هذا الزمان ويقول:-
ان بعض السياسيين والاحزاب انقلبوا الى عصابات شبيهة بالمافيا وبعض الرؤساء والملوك والامراء تحولوا الى اصنام جامدة واصبحت جمهورياتهم بلا جمهور ، فلا تصدقوا اقوالهم ما لم يحققوا وعودهم. لان اغلبهم كذابون لا يقولون الحقيقة. بعض من الرجال الدين خلعوا من الله ردائه وقدسيته وارتدوها وحمل صولجانه وهم يحكمون العالم بعقلهم الضيق فملؤا العالم من جورهم وهو بريء من افعالهم واقوالهم، الغريب فيكم تصدقونهم على كل شيء، فلا تخضعوا بعد لهم الا حين يطابق محتوى وعظهم مع افعالهم ويرضى ضميركم.
بعض الكتاب والشعار اصبحوا تجار الالفاظ ، لا تؤمنوا بكلامهم او اشعارهم ما لم يتم فحص جوهرها، خوفا من سموم و فايروساتها الملوثة . لان الكثير منهم يرتدي ثوب القداسة والعفة و الطهارة ولكن لا يختلف عن المزمرين واصحاب الطبول في المهرجانات السياسية في مدح السياسين الفاشلين.
اما المربين والمعلمين اعلنوا تقاعدهم من المهمة الشريفة في تعليم الاجيال على القيم والاخلاق بسبب القوانيين العصرية السخيفة، فاطلبوا منهم المزيد من الصبر والتضحية و العطاء لان مصير الامم بأياديهم على حد قول الشاعر الكبير معروف الرصافي انما الامم الاخلاق ما بقيت فان هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا .
اما العلماء اضاعوا الطريق في البحث عن الحقيقة بين العوالم الجديدة مبنية على مفاهيم الوجودية والعدمية والنسبية والحداثة وما بعد الحداثة. احذروا منهم كي لا يقود العالم الى الفناء في النهاية من جراء كلامهم ونتائج ابحاثهم .
اما المفكرون والفلاسفة تخلوا عن جدهم سقراط ووصاياه الاخلاقية، نسوا قوله "هل جلبتم هؤلاء (4) هنا لتهينونا" ونسوا كم بكى افلاطون وكريتو وابولودوس خارج القاعة على استاذهم وهو يستعد لتسليم انفاسه الاخيرة كشهيدا للانسانية من خلال قبوله قرار المحكمة وتطبيقه كاخر درس تطبيقي في علم الاخلاق لهم (تلاميذه). وتبعوا السفساطيين المنافقون الذين لا يَعمَلوا ولا يُعلمِوا الا لاجل الدولار واصحابه.
الحكماء اصبحوا جهلة في عالم يسير بالحث و السيطرة الالكترونية، فابحثوا عن حكماء جدد يفهمون في علومهم ، كي يكتبوا حكما جديدة في زمن ضاعة اكيال ميزانه اومقاييسه.
علماء النفس احتاروا في وصفهم للجريمة بدون الخوف من العقوبة ، نسوا ان الانسان هو هو ، ونسوا ان مهمة ايفان راسكولنيكوف (بطل قصة جريمة والعقاب للكاتب الكبير دستويفسكي ) كانت تخليص البشرية من الظلم والاستغلال وتحقيقة الاشتراكية المسيحية، لكن بعد ان قتل العجوز وسرقة اموالها انقلب على ذاته ونسى رسالته التي اراد ان يحقق العدالة والاشتراكية فاصبح قاتل وسارق ومجرم ومريض يعاني من صراع داخلي بين ضميره وغرائزه. وحينها كان يمكن ان يقول " اذا كان نور الذي يأتي من النخبة المختارة مملؤ من الضلال فكيف يكون ظلام المضللين ؟!. فثوروا على ابائكم ." ................. 1- ادونيس هو إله الفينيقيين الذي كان عشيق افروديت الاله الاغريقية في الميثولوجيا .
2- لم يكن نيشته يعني بعبارته ( مات الاله ) كموت حقيقي، واقعي ، وانما تخلي الانسان عن الله وابتعاده تعاليمه، يصبح و فكأن الله لم يعد موجودا او كأنه مات.
3- قال الفيلسوف الاغريقي اكسنوفانس قبل الميلاد بحوالي ستة قرون " اذا كان للثور والحصان ايدي وقابلية الرسم لكانوا رسموا الهتهم على اشكالهم ".
4- صاح ارسطو بتلاميذه والحراس عندما سمع صوت بكاء النساء والاطفال خارج القاعة هل جلبتهم هؤلاء هنا لتهينونا؟!
#يوحنا_بيداويد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دور المدارس السريانية ومعلميها على الحضارة العالمية
-
من يُسَيرالعالم الحكمة ام القوة ؟!!
-
تهنئة للقوائم الفائزة ..على الكلدان الافتخار بمشاركتهم ..عتا
...
-
الانسان المثالي في رأي ارسطو
-
الفلسفة الوجودية وروادها
-
كونفوشيوس معلم الصين الاول Confucianism
-
سيرة حياة المثلث الرحمة البطريرك مار روفائيل الاول بيداويدعل
...
-
سيرة عالم الرياضيات ارخميدس Arechimedes
-
حوار فكري مع الاب يوسف توما الدومنيكي
-
رد على مقال بعنوان : الدعوة الى تأسيس حركة التحرر العربية ال
...
-
سيرة العالم الاغريقي الكبير اقليدس 330 – 270 ق. م. (Euclid)
-
رسالة مفتوحة الى رابي سركيس اغاجان المحترم
-
عمانوئيل كانت ونظرية المعرفة
-
الخلود في الديانات القديمة والفكر الإغريقي
-
ليكن ترميم البيت الكلداني هو بداية لترميم صَرْحْ الامة؟
-
المفهوم الاعرج للديمقراطية في العراق وفرصة نجاحه؟
-
الصراع بين اصحاب النظرية الموجية واصحاب النظرية الجسيمية حول
...
-
إلى أي مدى نريد نحن البشر أن تذهب بنا التطورات التكنولوجية ف
...
-
نظرية التطور من منظور ايماني
-
دور المدارس السريانية وعلمائها في الحضارات العالمية
المزيد.....
-
دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك
...
-
مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
-
بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن
...
-
ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
-
بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
-
لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
-
المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة
...
-
بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
-
مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن
...
-
إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|