أصدر شخص يقيم في هولندا و يدعى باقر الصراف ، وضمن سلسلة "منشورات جريدة نداء الوطن " لسان حال جماعة "التحالف الوطني العراقي / بقيادة جبار الكبيسي " كُتيبا تحت عنوان " العراق بين الرؤية الغربية وممارسات المعارضة " ، حاول من خلاله التشنيع على المفكر العراقي الراحل السيد هادي العلوي و أحد رفاقه هو كاتب هذه السطور . ومع أنني أدرك عميقا أن هادي العلوي أكبر من كل محاولات التشويه و التشنيع والمشنعين عليه بل و أكبر حتى من أية محاولة للدفاع عنه ، لكنني آثرت التعقيب على هذه الحادثة لئلا يساء فهم السكوت عنها من قبل المحاولين فيتمادون في الإساءة الى رموز العراق النظيفة والمقاومة لكل مظاهر التعفن والتفسخ السياسي والأخلاقي التي نخرت كيانات المعارضة السياسية العراقية التقليدية إلا ما ندر .
من النظرة الأولى يدرك القارئ أن عنوان الكتاب لا علاقة له بمحتواه بل هو عبارة عن حفلة قذرة من الإهانات وتشويه السمعة والافتراء ضد شخصية وطنية معروفة بنقائها وزهدها وكفاءتها العلمية وشجاعتها في مواجهة النظام الشمولي الدموي المتخلف في بلادنا مثلما كان شجاعا وجريئا في مواجهة العدوان الغربي الأمريكي وأذنابه من المتواطئين عربا وعراقيين .
إن كاتب هذه السطور وبصفته أحد الناشطين في الحركة المشاعية العراقية والتي هي حركة اجتماعية غير سياسية أسسها الراحل العلوي ، ولأنه أحد المستهدَفَين الرئيسيين من تهجمات وتشنيعات كُتيب الصراف، يود التوقف عند بضعة أمور وردت ضمن سيل من الأكاذيب والاتهامات التي لا دليل ولا سند عليها، ناهيك عن أنها تتناقض وفي العمق مع كل ما هو معروف ومشهور عن الراحل بين صفوف العراقيين وبخاصة البسطاء والفقراء منهم وبغض النظر عن مشاربهم السياسية وانتماءاتهم القومية والدينية والسياسية :
يكتب باقر الصراف في مقدمة كتيبه ( تكشف مؤخرا بأن هذا المشروع المتياسر ، تنظيم الحركة المشاعية العراقية ، وبرنامجها الذي هو موضوع نقدنا ، كان من صناعة وتصدير وتمويل السيد "ف + ك " الذي أشهر وصية العلوي حول عائدية التنظيم ووثائقه ومجمل ما تركه هادي العلوي له شخصيا ..ص6). ولقد شعرنا بوجوب التوقف عند هذه الحيثية ، وإهمال ركام القاذورات الأخرى التي خطها يراع الصراف لأنه يدعي فيها الاطلاع على وصية العلوي التي أشهرها شخص ، يجبن الصراف عن ذكر اسمه الكامل جبنا صريحا، فيرمز إليه بالحرفين فاء وكاف ، وهو يقصد طبعا فخري كريم زنكنة صاحب دار " المدى " للنشر والتوزيع في دمشق .فما قصة هذه الوصية التي انتقلت بموجبها أملاك هادي العلوي ومنها " عائدية " الحركة المشاعية الى السيد زنكنة ؟!
ونعلن مع التوثيق : إن الأمر يتعلق بوصية من سطرين كتبها رفيقنا وشيخنا الراحل هادي العلوي بتاريخ 20/4/1998 في مدينة دمشق ، و لدى كاتب هذه السطور نسخة من تلك الوصية ، وثمة نسخة منها لدى السيد عبد الرحمن النعيمي صاحب دار "الكنوز الأدبية " ونسخة لدى أحد تلامذة الراحل العلوي وهو الشاعر العراقي عبد الإله الياسري وليس في تلك الوصية أي ذكر على الإطلاق للحركة المشاعية العراقية ولا لوثائقها ولا لأية ممتلكات كان العلوي يحوزها . ( بخصوص ممتلكات وتركات هادي العلوي فهي ،كما حصرها الكاتب العراقي حمزة الحسن الذي زار منزل العلوي قبل أيام قليلة – خلال شهر حزيران الجاري 2002 - وكتب ذلك في مقالة نشرها في إحدى الصحف العراقية المعارضة ، فهي تتكون من كرسي خشبي ونظارتين وعصا يتوكأ عليها وبضعة قطع صغيرة من الكريستال أهديت إليه فغطاها بستارة من القماش لكي لا يتلوث بصره بالنظر إليها، في استذكار مفعم بالمعنى لحادثة مشابهة حدثت للصوفية العربية المشهورة رابعة العدوية ، وما زالت الستارة معلقة حتى الآن أمام "ثروات " هادي العلوي كما يروي حمزة الحسن .)
وبالعودة الى وصية هادي التي حرَّفها بخسة ولؤم باقر الصراف ، فنحن نقرأ في سطرها الأول أن الراحل أوصى بأن توزع عائدات كتبه وفق نسب مئوية ذكرها في ثلاث فقرات ، وبموجبها يكون لبعض أفراد أسرته ثلاثة أرباع العائدات والربع الباقي تبرع به لحزب سياسي عراقي معارض ذكر اسمه ، وقد تنازل هذا الحزب لا حقا عن حصته لصالح أرملة العلوي في لفتة إنسانية طيبة . وفي السطر الثاني أوصى الراحل بأن تكون حقوق نشر وطبع وتوزيع مجموعة من كتب وعددها ثلاثة عشر كتابا وليس من بينها القواميس الثلاثة من سلسلة " المعجم العربي المعاصر " ، لدار "المدى" ثم يعدد العلوي أسماء تلك الكتب ،وبعدها يضع توقيعه وتحته الزمان والمكان . فيما عدا ذلك لا يوجد حرف أو كلمة إضافية أخرى . وعلى هذا ،فإن كل ما قاله الصراف بخصوص وصية العلوي وتوريثه لأملاك وأموال ووثائق الحركة المشاعية الى فخري زنكنة ليس إلا تلفيقات رخيصة وأكاذيب محضة يحاول نسجها شخص مريض ومشوه في عقله ونفسه و بدنه ضد رمز وطني عراقي يمثل نقيضه المطلق عقلا و نفسا وخلقا .
أما إذا كان السيد فخري كريم زنكنة قد "فبرك" وصية أخرى باسم هادي العلوي ،وهذا ما نستبعده تماما لأنه فعل لا يمكن أن يقدم عليه تاجر شاطر يعرف تماما من أين تؤكل الكتف ، ويعي أيضا ثمن وعواقب التورط مع تلامذة ورفاق ومريدي هادي العلوي إن حاول التزوير والفبركة ، أقول ، أما إذا صح هذا الاحتمال فسيكون لنا عندها حديث آخر ذو شجون أخرى ..
قضية أخرى يصعب تفسيرها بموجب المنطق المألوف لدى أهل السياسة والفكر وهي تلك المتعلقة بدوافع وأهداف جماعة " التحالف الوطني " من تبني وإصدار وتوزيع كتيب الصراف التشنيعي هذا ووضع اسم منشورات "تحالفهم الوطني " عليه . إن فعلة كهذه تنم عن جهل خطير بالطبائع والعادات وأساليب التعامل السائدة في الوسط السياسي والمجتمعي العراقي ، ولا نظن بأن شركة صغيرة لتسويق زيت الخروع ،وليس مجموعة سياسية ، ستغامر بسمعتها وترتكب فعلة معيبة كهذه ،تضع نفسها بموجبها في موضع الحكم الفاشي المعادي لجماهير شعبنا ورموزه الوطنية العراقية المكافحة ، تلك الرموز التي صنعت مجد الوطنية العراقية خارج دائرتي الارتزاق والتعامل مع العدوان الغربي الأمريكي أو مع مخابرات النظام سواء بسواء .
وعلى هذا فسوف يكون من حقنا تفسير سكوت هذه الجماعة " التحالف الوطني " عما حدث باسمها تفسيرا وحيدا يعني تبنيها لكل كلمة وإساءة صدرت عن صاحب الكتيب بحق هادي العلوي ورفاقه ، الأمر الذي سيعني أن هذه الجماعة انتقلت اليوم من مداهنة النظام والدفاع عن ممارساته الإجرامية ضد شعبنا طوال أكثر من ثلاثة عقود الى خندق مؤسسات ورموز النظام الإعلامية والقمعية وسيكون موقفنا منها هو الموقف نفسه من هذا النظام على أساس أنها أمست امتدادا عضويا له وربما أكثر خطورة من بعض مؤسساته الدموية .
وبالمناسبة ، فقد كنا من السباقين الى نقد و دحض الأطروحات والمواقف السياسية للتحالف الوطني وخصوصا بمناسبة انعقاد مؤتمرهم الأخير في لندن وعبر مقالة تحت عنوان (أصدقاء الحكم في المعارضة والدوران العبثي في حلقة الأوهام والآثام ) وقد نشرت تلك المقالة في جريدة "السفير" البيروتية عدد 12/5/2001 . بمعنى معين ، نكون - نحن المشاعيين - قد عاملناهم باحترام كسياسيين نختلف معهم في الجوهر والتفاصيل أما وقد ورطوا أنفسهم في منزلقات الإساءة الى واحد من رموز الوطنية العراقية فإن أسس التعامل معهم ستختلف ، والنظرة إليهم كسياسيين ستتغير تماما من الآن فصاعدا.
ولفائدة القارئ نعيد هنا نشر تلك المقالة كملحق عساها تفسر شراسة وعدوانية حملة الصراف وتحالفه " الوطني " وأختم بالقول أنني ككاتب لهذه السطور لم أشأ التعليق أو الرد على إساءة واحدة من عشرات إن لم تكن المئات من إساءات صاحب الكتيب بحقي أو بحق بعض الأصدقاء لكي لا أضفي على شخص مشوه قيمة لا يستحقها وليس هو أهلا لها .
أصدقاء الحكم في المعارضة العراقية
والدوران العبثي في حلقة الأوهام والآثام .
إذا كان أصدقاء الأمريكان والغرب بعامة في المعارضة السياسية العراقية يمنون النفس -في أحلام اليقظة على الأقل - بأن أصدقاءهم سيحسمون الموضوع ذات يوم، ويقدمون لهم السلطة (أو شظية منها) في العراق على طبق من ذهب، فإن أصدقاء النظام الدكتاتوري المستبد وسفراءه في هذه المعارضة الملتبسة، محرومون من أبسط الأمنيات وفي مقدمتها أن يعترف "صديقهم" النظام بوجودهم الإنطولوجي قبل السياسي والفكري، مجرد اعتراف.
وإذا كان الشق الأول من تلك المعارضة، قد حاز بجدارة لعنات الناس الذين أجاعهم الحصار الأمريكي، بسبب ممارساته السياسية على امتداد عقد كامل، وبسبب ارتهانه المطلق لأعداء العراق شعباً وتاريخاً وهوية، فقد كان الشق الثاني، أي المدافع عن النظام الحاكم تحت شعار (عنزة ولو طارت! )، محظوظاً جداً. فهو أولاً، لم ينل نصيبه العادل من النقد والتعريف والفضح وبما يكافئ الأضرار الفادحة التي يتسبب بها نشاطه التضليلي والذي يؤدي في خاتمة المسعى دوراً مهما في إطالة عمر الدكتاتورية. وهو ثانياً، نسج شبكات هائلة من الأوهام والأباطيل التي ستساهم دون شك في تأخير بروز القطب الوطني الثوري المعارض للنظام والمقاوم للعدوان الغربي على العراق معاً وفي وقت واحد، وسيفتح هذا التأخير الباب على إعادة إنتاج مظاهر مأساة الشعب العراقي سنة بعد أخرى ويوماً أسود بعد آخر.
في مناسبة سابقة، كنا اعتبرنا (التحالف الوطني العراقي) خير ممثل للمعارضة العراقية من النوع الثاني، أي المدافعة عن النظام الدكتاتوري الحاكم. ولم نطل الوقفة عند تفاصيل سياسات هذا التنظيم لأسباب فنية غالباً، منها قلة مطبوعات وتواضع نشاطاته. واليوم وقد عقد هذا التحالف مؤتمره العام في "مربط خيل المعارضة العراقية"، أي "لندن" وطرح وثيقته البرنامجية ، وقد حضر في هذه المناسبة ممثلو تنظيمات (شقيقة) له وذات أسماء رنانة يُسمع بها غالباً للمرة الأولى كحزب العمل الاشتراكي والجيش الإسلامي الكردي وحزب الوحدة الاشتراكي والتيار "الشيوعي الديمقراطي الوطني" و الاسم الأخير ربما سيجعل ماركس ينوح في قبره لوعةً أو ينفجر ضحكاً وسخرية ! وقد قالت هذه الأطراف الكثير مما يستحق التعليق والنقد، وها قد سنحت فرصة طيبة لتقديم هذه الجولة النقدية في الوثائق الرسمية لمؤتمر التحالف التي لا تخلف من حيث الجوهر عن مضمون الكلمات الاحتفالية التي ألقيت.
وقبل الشروع في هذه القراءة النقدية، نذكر القارئ وباختصار شديد، بعدة ثوابت حول هذا الموضوع سبق أن طرقناها في مناسبات سابقة على صفحات "السفير" فيما يتعلق بموضوعات وإشكاليات المعارضة العراقية ومواقفها من النظام الحاكم والعدوان الغربي على العراق ومن بعضها البعض. ومن تلك الثوابت التي دافعنا عنها وما زلنا، نذكر بـ:
- رفض العدوان الغربي على العراق بشكليه العسكري المسلح أو الحصار الإبادي الشامل والدعوة لمقاومة هذا العدوان.
- معارضة النظام الدكتاتوري المستبد الذي يحتكر السلطة ومؤسسات الدولة بقوة الدبابة الانقلابية منذ أكثر من ثلاثة عقود، والعمل على إنهاء وإزالة الدكتاتورية عن طريق الجهد الشعبي العراقي غير الملوث بالتعامل مع أعداء العراق.
- رفض الحوار السياسي مع النظام الحاكم والاستمرار بتطويقه بالخيارات الديمقراطية والشروط الموضوعية لأية مصالحة وطنية مبتغاة على غرار ما حدث في تجارب تصالحية شجاعة كما في المغرب والسودان والبحرين ومطالبته بتسديد المستحقات السياسية والقانونية التي ترتبت على حكمه الشمولي الذي ندر مثيله، وفي أجواء مصالحة حقيقية ودستورية وعفو عام.
- رفض الحوار والتعامل وتلقي المنح المالية و اللوجستية وكافة أشكال "التخادم السياسي" والتخابر الأمني مع القوى الدولية المعادية للعراق وشعبه ، والتي ساهمت وقادت العدوان العسكري عليه في ما عرف بحرب (عاصفة الصحراء) وما تبعها من عواصف وثعالب..إلخ ، ودعوة الأطراف المعارضة العراقية التي تورطت في نشاطات كهذه في الماضي إلى الاعتراف بأخطائها من خلال ممارسة نقدية موضوعية علنية والاعتذار إلى الشعب عما فعلت وعزل تلك الأطراف المصرة على الاستمرار في ذلك التعامل.
دعوة أطراف المعارضة العراقية التي حاورت أو تحاور أو تحاور النظام وتروج لسياساته الداخلية الفردية والقمعية الخاطئة، والتي يدفع الشعب ثمنها دماً وعذاباً إلى الكف عن هذه الممارسات التي تضر بالشعب وحريته المبتغاة وتخدم الدكتاتورية ونزعتها القمعية الدموية وتطيل من عمرها ودعوتها إلى نقد ممارستها تلك علمياً عملياً.
وهذه الآن قراءة نقدية في ما بدا لنا الأكثر أهمية وإثارة للنقاش في فقرات (الوثيقة السياسية لمؤتمر التحالف الوطني العراقي) التي أقرت في مؤتمره العام الثاني والوثيقة تحمل الشعار التالي (من أجل حوار وطني شامل.. من أجل تعزيز الصمود الوطني ضد العدوان الإمبريالي المجرم ودحره..) تبدأ الوثيقة بعبارة "شهرزادية" تقول: (قبل عقد من السنين.. وبحقد دفين.. وروح همجية.. شنت الإمبريالية.. الأمريكية (..) عدواناً عسكرياً غاشماً على العراق لا سابق له في تاريخ البشرية..) هكذا إذن وكقصف الرعد الهادر في سماء زرقاء صافية، حدث العدوان على العراق ! ليس المقصود في اعتراضنا، التشكيك في موضوع مسؤولية النظام نفسه عما حدث، بل الأمر أعمق غوراً من ذلك.
إن التساؤل والسؤال ينطرحان وبإلحاح عن السر الذي دفع وثيقة التحالف لتغيب وتناسي مأساة الشعب العراقي، التي لم تبدأ مع العدوان الهمجي (عاصفة الصحراء)، إنما منذ ثلاثة عقود من المعاناة والقمع والاضطهاد السياسي الذي مارسه الحكم القومي الشوفيني وبقسوة تعترف بها الوثيقة نفسها في مطروح آخر . لماذا تنظر الوثيقة إلى تاريخ المأساة العراقية وكأنها بدأت في 1990 ؟ ألا يعني ذلك إنها متفقة مع ممارسات الحكم الاستبدادي قبل ذاك ، والتي لم نتوقف حتى الآن، أو في الأقل، إنها لا تريد الاعتراف بها خشية إغضاب أو إحراج صديقها النظام.
إن الوثيقة من ألفها إلى يائها محكومة تماماً بنَفَسٍ سياسي يمكن تلخيصه بالكلمات التالية: (كلما شتمت الإمبريالية الأمريكية وسكت عن النظام الدكتاتوري زاد وزن وطنيتك!) وهو الشعار الذي يرتديه النوع الآخر من المعارضة ولكن بالمقلوب، حيث: (كلما شتمت النظام الدكتاتوري وسكت عن العدوان الأمريكي زاد وزنك ووزن وطنيتك!!).
انتهت الفقرة الخاصة بالوضع الراهن الذي تلا العدوان على العراق دون أن نجد أي ذكر أو موقف من النظام الحاكم، وكأن الأشباح هي التي تحكم العراق! وفي الفقرة التالية المعنونة (الحوار الوطني والمصالحة الوطنية)، تغيب تماماً طبيعية النظام السياسية والموقف المعارض الواجب منه. وفي وسط الفقرة تماماً يلجأ محرر الوثيقة إلى أسلوب (إياك أعني وأسمعي يا جارة..) وكأنه انتبه إلى اتساع الثغرة المتولدة عن عدم ذكر طبيعة النظام فنراه يعلن : (إن الطريق إلى المشروع الوطني القومي الديمقراطي النهضوي لا يمر إلا عبر إلغاء نهج الاستبداد والتفرد في كافة الأقطار العربي..) وعلى القارئ أن يستعمل طرق المناطقة القدماء في البحث عن "النتيجة المنطقية" فبما أن العراق دولة عربية فهو إذن..إلخ.
ولكن العبارة التي تلي، تزيد في توضيح الأمور، ولكنها تخلط الأوراق في الوقت نفسه. تقول الوثيقة : (وبالنسبة للعراق فإن غياب التنوع والتعدد الثقافي والسياسي واستخدام العنف والقسوة أفضى إلى أن الإخفاق والفشل في تقديم المثال الأعلى الذي يعطي المواطن شعوراً بالحماية والمساواة) . لكأنَّ الوثيقة تتكلم عن الوضع في هولندا أو السويد حيث يحدث بعض العنف وشيء من القسوة، وليس عن العراق الذي تطحنه الدكتاتورية بالحديد والنار والسلاح الكيماوي طوال ثلاثة عقود! ومع ذلك يمكن لنا أن نسجل على هذه الفقرة:
- إنها تخلط بين انعدام وجود الظاهرة، وقمع الظاهرة الموجودة بالقوة المادية. بمعنى إن التنوع والتعدد الثقافي والسياسي بل ونضيف اللغوي والديني والطائفي، كل ذلك موجود وقائم وعمره بعمر العراق ، ولكن غير الموجود والمنعدم هو المناخ الإنسان الحر المتسامح الذي تزهر وتثمر فيه ظاهرة التنوع والاختلاف فتكون طريقاً لا حباً يتحقق عبره الاندماج المجتمعي وقيام المجتمع المتمدن على أساس المواطنة الكاملة. إن التنوع والتعدد موجود ولكن فأس الدكتاتورية هي التي تهشمه كل يوم وكل ساعة.
- إن ما تصفه الوثيقة بالأخطاء التي ارتكبها النظام، سواء في استعراضها لموضوع المصالحة، أو حين تناقش القضية الكردية ليس أخطاء ارتكبها النظام، بل هي خطايا، وبين الخطأ والخطيئة أنهار من دماء وتلال من الجثث البشرية . الخطأ هو أن تتحطم طائرة فوق مدينة مسالمة لسوء الطقس أو لسبب تقني فتتسبب في مقتل عدة أشخاص، أما شن هجوم بالغازات السامة على مدينة مسالمة فهو خطيئة كبرى وجريمة بحق الإنسان البريء المسالم. ومن يريد مصالحة حقيقية وحواراً حضارياً واستراتيجية سياسية سليمة للعبور من نظام شمولي إلى آخر ديموقراطي ، عليه أن يدرك أن تسمية الأشياء والحالات بأسمائها، وعدم إهدار السياق التاريخي، والتخلي عن تكتيك "تبويس اللحى" هي أبسط المتطلبات ، و أول البديهيات في الطريق إلى ذلك الهدف النبيل.
- يحدد التحالف لنفسه ثمانية أهداف هي باختصار شديد: (إعلان ميثاق وطني يحقق مصالحة وطنية وتحقيق سيادة القانون وإشاعة الحريات والديموقراطية وإنجاز مشروع سياسي يعتمد التعددية السياسية والفكرية والثقافية وتأمين استقلال القضاء والتعليم العالي وتأمين حرية الصحافة وإجراء انتخابات عامة حرة وانتخابات رئاسية ووضع دستور دائم يناقش وُيقَرُّ من طرف البرلمان ومن ثم الشعب ووضع سياسات واتخاذ إجراءات عملية لبناء الثقة وردم الحفر التي صنعتها أخطاء الماضي.) ولنبدأ من حيث انتهت سلسلة الأهداف إذ يبدو وكأن السادة في التحالف لم يكتفوا بوضع العربة أمام الحصان بل جعلوا عجلاتها إلى فوق أيضا! فالمطلوب الأول هو مراجعة الماضي، وحلحلة الاستعصاء الحالي الذي أوصل النظام إليه المجتمع والدولة، من خلال إجراءات عملية وجذرية وشجاعة، تعيد السلطة إلى الشعب وتفكك الأجهزة والمؤسسات القمعية والرقابية التي تحكم البلد ارتجال أو قسراً، وتراجع أخطاء وخطايا الماضي ، وهنا يمكن التأسي بتجربة (لجنة الحقيقية والمصالحة) في جنوب أفريقيا أو بلجان المراجعة والتعويض على ضحايا القمع السياسي في المغرب . نقول إن كل هذه الأمور كان ينبغي أن تطرح كبداية لأي برنامج جاد، لا يسعى فقط لذر الرماد في العيون، وأن تلصق في خاتمة برنامج فيه الكثير من (الحكي الديموقراطي) ولكن مشكلته هي أنه يتوجه إلى النظام اللاديموقراطي لينفذ كل ذلك البرنامج وهو باق على ما هو عليه من دكتاتورية. إن مأزق النظام يشابه في العمق مأزق المدافعين عنه والمعولين عليه كالسادة في التحالف الوطني، ومن أول مظاهر هذا المأزق هو أنهم ينتهون إلى حيث ينبغي أن يبدأوا. وما لم ينفذ النظام مستحقاته السياسية والاجتماعية ويصفى ملفات القمع الطويلة ويعيد الثقة والأمن إلى الناس مع أن ذلك أقرب إلى الاستحالة، فلن يكون هناك انفتاح أو مصالحة، وسيستمر النظام يعتمد القبضة الحديدية في الحكم العراقيين مراكما جبال الحطب والبارود، حتى تندلع الشرارة أو يفور التنور! أما السادة من أصدقاء النظام فالأفضل لهم أن يراجعوا تجربتهم ووثائقهم بعقل نقدي ووقفة شجاعة بوجه الدكتاتورية، لأن بقاءهم على ما هم عليه أو التحاقهم بالنظام بعد خلع معطف المعارضة، لن يغير شيئاً كبيراً، وسيذكرنا حتماً بشخصية "حنون" وهو رجل فقير وطريف لا حول ولا قوة له، عاش في العصر العباسي، وكان كلما أغاظه أحد أبناء طائفته هدد بأنه سيصير مسلماً. وذات يوم فعلها حنون ونفذ تهديده فأعلن إسلامه، ولكن الأرض ظلت تدور والشمس تشرق وتغرب فقال فيه أحد شعراء ذلك الزمان:
ما زادَ حنونُ في الإسلامِ خردلةً ولا النصارى لهم شغلُ بحنون ِ!