|
لا يزال كامل شياع يقود دراجته بإتّزان جميل
جمال علي الحلاق
الحوار المتمدن-العدد: 2747 - 2009 / 8 / 23 - 09:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أبدأ كلمتي بمقولة ستيفن هاوكنك : " الله لا يلعب فقط الزار مع الكون ، لكنّه أحيانا يرمي الزار في أماكن غير مرئية " ، وبالتأكيد فإنّ هاوكنك يشير بقوله هذا الى الثقوب السوداء المنتشرة في الكون ، وهي عبارة عن نجوم ميتة ، حجومها أكبر ما لا يقلّ عن خمسة أضعاف حجم شمسنا ، لكنّها في نهايات أعمارها تبدأ مادتها بالإنهيار والإنخساف الى الداخل ، الإنخساف يكثّف الجاذبية ، وكثافة الجاذبية وشدتها تزيد من سرعة انخساف النجم ، الى حدّ أن يصل حجمه حجم برتقالة أو حجم حمّصة ، حمّصة بشدّة جاذبية مهولة ، فيبدأ النجم – بعد ابتلاع ذاته - بابتلاع ما حوله من نجوم ، الى درجة أنّ الضوء بسرعته الهائلة لا يمكنه النفاذ منه . الثقب الأسود مقصلة إعدام للمادة التي هي أساس بناء الكون . من هنا أبدأ كلمتي . ها أنا أنظر الى العراق كما لو أنّه الكون ، أنظر الى نجومه الحيّة هنا وهناك ، فيه أو بعيدة عنه ، وأنظر في نفس الوقت الى ثقوبه السوداء المنتشرة على جسده ، حتى أكاد أشكّ في نجاة من بقي . لقد أفرزت السنوات الأخيرة حالة تشبه الى حدّ ما رغبة عامة في التحوّل الى ثقوب سوداء ، تنغلق على نفسها حدّ أن تختزل الحياة داخل قارورة ممارسات ضيّقة ، وعلى الأفراد ولا أقول الجماعات ، على الأفراد الذين يحاولون الى الآن في أن يكونوا خارج هذه الثقوب ، أقول عليهم القفز هنا وهناك كي لا يقعوا في شراك ثقب أسود هنا ، أو ثقب أسود هناك ، سواء أكان هذا الثقب الأسود دينيا أم قوميا أم عُرفيا . مرّة كتب كامل شياع ، وكان قد رأى أو سمع كيف تمّ قتل أحد رفاقه وكيف تمّ التمثيل به ، كتب يقول : " عليّ أن أعترف أنني لم أكن غير مكترث بالموت دائماً . فبعد إغتيال بشع لأحد الرفاق في شقته ، صرت للمرة الأولى أنام وبجانبي مسدس جاهز للإطلاق . الأسلوب الشنيع لتعذيب ذلك الرفيق والتمثيل الوحشي بجسده ، تركني لليال عديدة عرضة لكوابيس مرعبة . أي إرادة تمكّنني من إيقاف انثيالات العقل الباطن ، والتشبث غير الواعي بالحياة ؟ " هكذا هي علاقة الضوء بالثقوب السوداء ، علاقة حذرة ، متأهبة دائما ، لا للحوار ، بل للدخول في حلقة الفناء ذاتها ، والخروج منها بأقل خسائر ممكنة ، فجملة " أنام وبجانبي مسدس جاهز للإطلاق " تكشف وبوضوح صارخ نهاية الحوار ، نهاية العقل ، نهاية التجربة الإنسانية ، في لحظة تبدو المعرفة شكلا من أشكال الغباء ، وينبغي إقصاؤها . هذا الكلام ليس تحريضا للقتل ، لكنّه في جوهره يؤمن بذلك من أجل ديمومة الحياة . إنها ردة فعل الحي تجاه موته . تثيرني إشكالية الضوء والثقب الأسود ، الحسّ المدني المتحرّر الذي يؤمن بالحريّة الشخصيّة ودورها في تفعيل حركة التغيير أمام انغلاقات العُرف / الدين / القومية . فغاية الثقب الأسود إفناء الضوء ، بينما غاية الضوء توسيع رقعة الكون ، الضوء ينطلق بسرعةٍ هائلةٍ في مجاهيل غامضة ، يشبه تماما تجربة كامل شياع في ذهابه الى العراق ، المجهول الغامض ، كان لو أنّ الحياة مواصلة السير خلف غواية الإكتشاف ، مواصلة السير خلف غواية التعرّف على ما لا نعرف بعد ، الحياة تصفع الذين يدّعون المعرفة أو بعضها ، تصفعهم لأنّهم لا يعرفون كلّ شيء ، بل لا يمكن معرفة كلّ شيء ، لأنّ ذلك سيؤدي الى التوقّف والإنخساف الى الداخل والتحوّل الى ثقب أسود ، ثقب عدمي ، وأكاد أن أقول : المطمئن لمعرفته ثقب أسود . لم يتوقّف كامل شياع عن غواية التعرّف ، وجد في تجربته الذاتية داخل العراق شيئا ما خارج نطاق المعرفة المكتبية الرثّة ، ثمّة شيءٌ حيٌ في صيرورة مستمرّة ، المفاهيم فيه في حالة تشكّل جديد ، وكان هو يتابع هذا التشكّل ، ولا يضع مساطر للقياس ، لكنّه كان في نفس الوقت كتلةً من المجسّات تتحسّس الإنغلاق هنا وهناك ، ولا تحاول النظر فقط ، بل تساهم في تكثيف الضوء عليه . لقد بدا واضحا في مقالته ( الدستور : الحريّات وعودة المثقف ) كيف كانت مجسّاته تتحسّس لكلّ ما يمكن أن يُستثمر للتضييق على الحريات ، فقد وقف مرتابا إزاء عبارة " بما لا يخلّ بالنظام العام والآداب " التي وردت في الدستور ، عبارة أحسّ بأنّها ستكون أداة للكبح والإعاقة ، أي أنّها تتضمن مقصلة للحرية الشخصية ، لذا كتب يقول مبرّرا إرتيابه : " ليس مردّ الريبة ومرجع الحذر من العبارة الاعتراضية " بما لا يخل بالنظام العام والآداب" في التقييد ذاته، وإنما في ما يمكن أن تترتب عليه إجمالاً من تفسيرات ضيقة أو منظورات محافظة. وهذا الاحتمال أصبح قائماً بالفعل نتيجة التركيب الطائفي للدولة العراقية الحالية الذي يعكس حالة مجتمع ممزق مشحون بالصراعات، يفتقر إلى التقاليد الديمقراطية وتكاد تنحسر فيه روح التضامن والمواطنة. لذلك هناك خشية حقيقية من أن يؤدي تفسير هذه العبارة إلى تقييدات اعتباطية للحريات المنصوص عليها " . إنّه تحسّس الضوء للأماكن التي يمكن أن تنفتح عن ثقب أسود يلتهم التجربة الحياتية كلّها ويحيلها الى عدم . لم يكن كامل شياع متفرّجا فقط ، رغم أنّه لم يكن يُدين المتفرجين ، ففي إنتباهةٍ رائعةٍ كتب يقول : " أشك بأنّ حبّ الوطن من صنف الفضائل ! فقد يهيم المرء حباً بوطنه ، المصنوع من صور وخيالات، وهو بعيد عنه ، وقد لا يقيم لنفسه علاقة إخلاقية معه وهو يعيش في داخله ، وقد يخدم بعضنا الوطن من موقف متجرد إلا من الوازع الإنساني ، وقد يدمره آخر يتشدّق بإسمه ليل نهار . ما هو ثابت في الوطن كأرض وتاريخ لا يلزم الجميع بالتماهي التام معه أو التساوق مع حركته وتحولاته . وهكذا فأنّ ضعف الحماس للوطن أحياناً لا يدخل في باب الرذيلة أو الخيانة " . أنحني لهذا الوعي ، لأنّه نتاج تجربة صادقة في العيش ، وصادقة في رغبة التعرّف ، لا في القول اعتباطا ، بل ممارسة الوعي المتشكّل كحياة ، والحرص على جعله مؤثّرا عبر بلاغة السلوك والممارسة . يوما ما قال أنيشتاين : " الحياة تشبه ركوب دراجة ، لكي تتوازن عليك أن تواصل الحركة " ، أريد أن أقول هنا أنّ كامل شياع بإقامته القصيرة في عالم الوجود إستطاع أن يترك بصمته وخصوصيته ، بل إنّه أطلق أسئلةً كثيرةً حول مفاهيم ظلّت جامدة لفترة طويلة من الزمن كالأمة ، والدولة ، والهوية ، أسئلة أظنّها ستواصل الحركة لفترة طويلة قادمة ، لقد قتلوا كامل شياع ، لكنّه لا يزال راكبا دراجته ، ويقودها بين الثقوب السوداء ، بإتّزان جميل .
سدني – 22.8.2009
#جمال_علي_الحلاق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
علاقتي ببيتهوفن - صفحة من كتاب أصدقائي
-
التضامن تمرين في النجاة رسالة الى السيدين جلال الطالباني ونو
...
-
موت حبّابة وانتحار العالم / الانتباهة التي تلد خروجا
-
دور المكان ووضوح المفاهيم في استئصال العنف
-
رؤوس أقلام مدبّبة في الإستمتاع
-
تعطيل آية السيف أو حذف نصف القرآن
-
كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟ القسم الثاني
-
كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟
-
الى ( صفيحة ) المدى وجاراتها : درس في الأمانة الثقافية
-
عوني كرومي : الجاد في لحظة هازلة
-
عيسى حسن الياسري : قديس خارج الوقت
-
الشعر العراقي الحديث : قراءة اجتماعية
-
فلنمت وحيدين بعيدا
-
يموت المعنى وتستمر الحياة
-
تعليب النساء لمن ؟ محاولة في تفكيك المنظومة الذكورية
-
الذات والعقاب قراءة في نمو المستوى الدلالي لمفهومي الغربة وا
...
-
دعوة للتضامن مع الصحفيين العربيين عدلي الهواري وعبد الهادي ج
...
-
العائلتية نظام حيواني قراءة في ثقافة صدئة
-
فايروس حق الاعتراض : الفعل هو الكلام حتى لا يتجرأ أحد على تج
...
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|