|
صلاح حزين : دعني في الغابة انتحب وحدي
سلام مسافر
الحوار المتمدن-العدد: 2747 - 2009 / 8 / 23 - 05:50
المحور:
سيرة ذاتية
كنت قررت ان لا ارثي اصدقائي ، منذ اخر مرثية عن الراحل الجميل حسين الحسيني . فقد صار موت الاحبة في العراق ، مثل نشرة الانواء الجوية . وكانت وصلتني رسالة بعد ثلاث سنوات من وفاته، بعثها حسين؛ مع طالب بعثة حكومية يدرس في موسكو ، فخشى الطالب الحزبي تسليمها لمعارض تلاحقه سلطات صدام حسين ، لكنه حرص على الاحتفاظ بها مفتوحة ، الى ان زال كابوس الخوف .
الرحيل المفجع لصلاح حزين ، الكاتب والصحافي والمترجم الفلسطيني ، يرغمني على النواح راثيا . في اذار الماضي ، عانقته مودعا عند مدخل حديقة منزله في الجبيهة بضواحي عمان . كانت اشجار العنب ، تتسلق باوراقها الطرية ، السقيفة التي اطلقت عليها في جلسات الجدل والمرح الصاخب ، و غالبا ماتنتهي بمقام عراقي تصدح به حنجرة ابو قصي ، اسم " سقيفة بني حزين "، نسهر حتى الصباح ، تحت عناقيدها ، في كل مرة نزور عمان من منافي العراقيين والفلسطينين الذين شكلوا المادة الاثيرة للصحفي اللامع صلاح حزين " قال قادمون ... ". والقادمون من العراق وفلسطين ، كانت لهم " سقيفة بني حزين " خيمة ايضا .
في طريق العودة الى موسكو ، ارقتني صورة صلاح ؛ وجه شاحب ، وعيون بدات تذبل بعد ان كانت تجدح فطنة ، ومرحا ، تكحلها الطيبة . لكن ارادة الحياة ، استمرت تطوق قامة نوح ، الاسم الذي اطلقه والدا صلاح على الوليد في قرية فلسطينة ، احتلها اليهود ، واستمرت تزهر في ذاكرة المثقف الشمولي الذي كان يحفظ الاشعار ، من صلاح جاهين ، الى البياتي ، ومن اليوت الى يسينين ، وتختزن ذاكرته ، كل رسوم ناجي العلي ، والليثي ، وعشرات رسامي الكاريكاتير العرب والاجانب . ذاكرة لم تختنق بالمعرفة ، بل تورق . اعتزمت ان اكتب عن صلابة صلاح ، بوجه السرطان المتفشي من الامعاء الى الرئتين دون ان يهز ارادة الرجل الذي يطالعه كل صباح وجه غسان ، النجل الاصغر الغارق في غيبوبة ، منذ سنوات ، اثر حادث سير ، افضي الى غفوة شاب ، تخرج في مدرسة ابيه ، وباشر عمله الصحافي بانتباهات نادرة تشي بكاتب عملاق . قلت لاكتب عن صلاح في حياته ، ولكني تراجعت لاني ارثي حيا ، كنت اراهن على ارادته الصلدة في دحر السرطان . الم يتعافى الكسندر سولجنيستين ، من المرض بارادة ذاتية ؟؟ صلاح ؛ قلت لزوجتي الارثوذكسية ، سيتغلب على المرض . وكانت لودميلا توقد كل يوم ، شمعة امام العذراء الدامعة ، وتعول على الرب في شفاء ابو قصي الذي كان يناكفها في تعصبها المسيحي ، دون ان تغضب .
اسبوعان فقط ، انقطعت فيها عن الاتصال بصلاح ، كنت خلالها اتنقل من بلد الى اخر ، بمهمات عمل . قبلها ، كان صوته يتدفق ساخرا من سرطان تالف مع صاحبه ، لكن مع توالي المرات ، اخذت اسمع نفسا متقطعا ، ونبرة يغلفها الحزن بين ثنايا المرح . ابلغني صلاح في لقاء اذار الاخير انه سيطلب التفرغ لانجاز اعمال ادبية وانه سيعتزل العمل الصحافي اليومي . ووضع خطة لترجمة روايات تراوده مثل الحلم ، ويريد ان يطلع عليها القراء العرب . وعلى عادته قهقه " اذا بقي قراء معنيون بالادب الاجنبي " ؟. بعد اسبوعين من رحيله الفاجع ، رن الهاتف . كان على الطرف الاخر شقيقي ابراهيم ، ينحب : كيف اقولها لك ، صلاح مات . هكذا دون مقدمات .
مثلي ، ومثل كل احباء ابو قصي ، فان اول اتصال هاتفي يجريه زائرو عمان ،حتما مع صلاح حزين . هذه المرة ، تاخر شقيقي ابو عقيل ، الذي كان صلاح يحسده على عزوبيته الدائمة ، ويطرب للدراميات العراقية ، واشعار ابو العلاء المعري ، التي يختزن منها ابراهيم ، ترسانة ، يوما واحدا، بعد وصوله عمان قبل ان يتصل بصلاح . اخبرني انه كان يخشى سماع الخبر . فقد كنت ابلغته وهو في بغداد ، ان المرض تمكن من ابو قصي ، لكن صاحبنا لايستسلم .
مات صلاح حزين . وصلني الخبر وانا مع فريق التصوير في غابة بضواحي سانت بطرسبورغ . هزني الالم ، فتداركت نفسي ، وقلت لزملائي في الفريق ، دعوني في الغابة انتحب لوحدي .
كان صلاح حزين ، بدا حياته العملية مدرسا للغة الانكليزية في الكويت ، وسرعان ما انخرط في العمل الصحفي ، وسجل قلمه عشرات الاستطلاعات الممتعة والرائعة في مجلة العربي ، تطرز كتاباته المعرفة العميقة ، والثقافة الواسعة والدقة والصدق في كل الحقول التي نقرها قلمه الرشيق . وفي جريدة الوطن الكويتية ، التي غيب السرطان ايضا ، صاحبها ورئيس تحريرها ، الكاتب الوطنيالمكافح جاسم المطوع ، امضى صلاح ، اجمل سنوات حياته ، كما كان يقول . فقد كان عالم الصحافة الكويتة ، واحة لمئات المثقفين العرب ، الذين اسسوا لنمط من المعرفة الاعلامية ، بنيت على ركائزها ، مدرسة ، مايزال المتخرجون من حرمها ، يرفدون الحياة الثقافية والاعلامية العربية ، بالمتجدد .
ولان اللجؤ ، شبح يطارد ابن فلسطين ، فقد اضطر ، صلاح واسرته؛ للنزوح من الكويت بعد الاحتلال العراقي ، وكتب حينها ، اجمل التقارير واكثرها صدقا ، وسط الكم الهائل ، من التقارير المتملقة ، لهذا الجانب او ذاك ، عن الحياة في البلد المحتل . واعتبر الاجتياح الطائش ، ماساته ايضا ، لكنه لم يضعف امام اغراءات المال ، خلافا لكثيرين ، غيروا " تحالفاتهم " وفق قاعدة من يدفع اكثر . صلاح حزين ، بطل في زمن الطراطير . طراطير ، يتلقون الرشى من انظمة القمع والتخاذل ، ويشاركون في المؤتمرات التي تفنن مقولبو الراي العام في بغداد ، بعقدها ، لتجنيد مبخرين لنظام شرد المثقفين العراقيين ، وكان صلاح يرفض بقناعة المثقف التقدمي ، وبصلابة المناضل ، المشاركة في اعراس الواوية . الواوية نفسهم يشاركون اليوم في مهرجانات حكومة الاحتلال في المنطقة الخضراء ، ويتلقون الرشى من الاحزاب الطائفية والشوفينية التي حملها المحتلون في عربات القمامة الى العراق بعد الغزو . رغم " عراقية " صلاح حزين التي نعتز بها ، لانها تتفجر في قلبه ، ولعا ، بكل اوتار العراق ، مقامات وابوذيات ، ومعرفة بالتاريخ وبالسجل السياسي لوطن الملاحم الدموية ، والاهم ، صداقات لم تصدا مع لفيف كبير من مثقفي العراق في المهاجر . رغم كل هذا فان صلاح حزين لم يدخل العراق ولامرة . الاب ، المعلم ، الكاتب ، المتذوق لصنوف الفن الرفيع ، صلاح حزين ، تلخص حياته العريضة ، ماساة المثقف العربي ، الذي يضطره اللهاث وراء لقمة العيش في المنافي ، وفي الاوطان المؤقتة ، لان ينصرف عن مشاريع كبيرة ، يخطط لها ، لكنه يعجز عن تنفيذها ، بحكم الحاجة الى ان ينزف خبرا وتقريرا ، في الصحافة ، على حساب شريان الاعمال الكبيرة . لو تنادينا ، وجمعنا كتابات صلاح حزين ، وتصنيفها ، لخرجت عشرات المؤلفات الرصينة ، كان الراحل العزيز ، ينوي اتمامها ، لكن " القدر كان له بالمرصاد " .
سيضحك صلاح كثيرا ، للعبارة الاخيرة ، لانها منتزعة من افلام يوسف وهبي ، وكنا نصخب في امسيات الفرح ، والجدالات الساخنة ، بمثل تلك العبارات . كان صلاح ابرعنا في اشتقاق مرادفات ، تدمع عيوننا ضحكا .
اليوم ، يدمع رحليك ، ياصلاح ، عيوننا . " لا على بختك ابو قصي مو خوش دكة " ! !
#سلام_مسافر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التانغو ايراني الاميركي على جثث اشرف
-
الموت الاحمر في ارض السواد
-
غطرسة جوفاء
-
استسقاء الحرب الباردة
-
بوشكين اليهودي وليبرمان الروسي ؟
-
هاجس الطيب صالح
-
من قبقاب الكيلاني الى قندرة المنتظر
-
الحذاء الذي هز العالم
-
موسكو شيفردنادزة وتبليسي ساكاشفيلي
-
كيف يقرا الروس العراق ؟
-
الباشا سوكولوفيتش والانكشاري بوش
-
حفلة سمر من اجل العراق
-
تعري الحيزبون
-
احزان لادا البغدادية
-
لماذا يخافون ( الشرقية ) ؟
-
نجاسة المنطقة الخضراء
-
اية الله حسن نصر الله
-
الاميركيون يحتقرون العملاء
-
نرمين لاتحزني ذاكرتنا العطرة اقوى من جيفهم
-
احفاد الكاظم تحت قبة البرلمان
المزيد.....
-
الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
-
ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات
...
-
إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار
...
-
قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
-
دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح
...
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
-
مدفيديف: لم نخطط لزيادة طويلة الأجل في الإنفاق العسكري في ظل
...
-
القوات الروسية تشن هجوما على بلدة رازدولنوي في جمهورية دونيت
...
-
الخارجية: روسيا لن تضع عراقيل أمام حذف -طالبان- من قائمة الت
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|