|
حكايات النظريات: البقاء للأصلح
محمد علي ثابت
الحوار المتمدن-العدد: 2747 - 2009 / 8 / 23 - 05:49
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"كل الحيوانات متساوية، لكن بعضها أكثر تساوياً من البعض الآخر". - جورج أورويل: رواية "مزرعة الحيوانات" (1945)، الفصل العاشر
***
نظرية اجتماعية برائحة النفط ------------------
لعل الفكرة الأشهر والأبقى بين الأفكار التي نحتها الفيلسوف البريطاني الشهير هربرت سبنسر (1820 - 1903) كانت تأكيده المستمر على قناعته بأن مرور الزمن هو في حد ذاته كفيل بتحقيق مبدأ "البقاء للأصلح" على الأرض. ويظن أغلب الناس أن تشارليز داروين، صاحب نظرية النشوء والارتقاء في أصل الأنواع، هو أول من قام بسَكّ وإطلاق ذلك التعبير الخالد ("البقاء للأصلح")، لكن الحقيقة أن هذا ظن شعبي خاطئ. فـ(سبنسر) هو صاحب ذلك التعبير وهو أول من أطلقه، وإن كان قد استخدمه للإشارة إلى وتوصيف تطور المجتمعات وليس تطور أنواع الكائنات الحية.
وحقيقة فإن أفكار سبنسر، التي عُرفت في أواخر حياته بـ "الداروينية الاجتماعية"، كانت تقوم على أساس محوري قوامه الاعتقاد بأنه إذا ما أُتيح للبشر التنافس بِحُرية مطلقة فيما بينهم فإن أكثرهم ذكاء وطموحاً وإنتاجية وقدرة على الابتكار هم وحدهم من سيبقون، أو يزدهرون، في نهاية المطاف. وكان سبنسر يرى، شأنه في ذلك شأن آدام سميث وجون لوك ودافيد هيوم وغيرهم من أعلام الليبرالية والفردية و"اليمين" الذين سبقوه والذين عاصروه والذين أتوا بعده، أن عالَماً تسوده المنافسة الحرة الشرسة المفتوحة الخلاء من أي تنظيم أو تدخلات من غير المتنافسين أنفسهم هو عالَم مضمون الكفاءة وقادر، وبشكل داخلي تلقائي، على أن يُحَسِّن باستمرار من قدرات ومستويات معيشة أفراده (الباقين، طبعاً) تحسيناً ملحوظاً.
وبسبب أفكاره تلك التي لاقت هوىً جامحاً لدى طبقة كبار رجال الصناعة والرأسماليين والأثرياء الغربيين في أواسط القرن التاسع عشر، فقد كان طبيعياً أن يحتفي أغنياء وبُورجوازيو تلك الأيام بـ(سبنسر) وأن يروا في تحليلاته الاجتماعية تبريراً علمياً منطقياً مٌقنِعاً لأفكار مثل القائلة بأن "الشركات الكبيرة لابد أن تظل كبيرة مهما حدث ومهما ارتكبت من تجاوزات" وأن "على الحكومة ألا تتدخل لمساعدة الفقراء والشركات الصغيرة أبداً". وبالتحديد، فقد كان جون روكفيللر، الذي هو أول بليونير أمريكي وأغنى رجل في التاريخ بلا منازع - حيث تتجاوز القيمة الحالية لثروته حاجز الثلاثمائة بليون دولار وفقاً لتقييم مجلة فورتشن الأمريكية - وصاحب إمبراطورية اقتصادية باذخة كانت تسيطر على غالبية شركات قطاع البترول الأمريكي حتى مطلع القرن العشرين،، كان روكفيللر من أشد المعجبين بـ(سبنسر) وبأفكاره لدرجة أنه كان يحب أن يلقي في أيام الأحد على الصغار في مدرسة خاصة كان يمتلكها بعضاً من تنظيرات سبنسر المبسطة إيماناً منه بأنه بذلك يعمل على تنشئتهم على "الرأسمالية العلمية الحقة". وكان روكفيللر معجباً، بالذات، بفكرة سبنسر القائلة بأن نمو الشركات العملاقة ما هو - في التحليل الأخير - إلا أحد التجليات الاقتصادية-الاجتماعية لمبدأ "البقاء للأصلح".
سرير، ووجبة، وقارب نجاة ------------------
في العاشر من أبريل للعام 1912 أبحرت السفينة تايتانيك من شواطئ ساوثامبتون البريطانية متجهة عبر المحيط الأطلنطي صوب نيويورك، في الرحلة التدشينية للسفينة-الأسطورة التي كانت في ضخامتها وفخامتها رمزاً مختزلاً لافتخار بَني العصر الصناعي الجديد. كانت السفينة ذات الطوابق المتعددة تقل على متنها 2300 راكب، وكان بعض أولئك الركاب يحظى أثناء الرحلة بمستوى من الخدمة والرفاهية يفوق ذلك الذي بوسع أغلب المسافرين اليوم تخيله. لكن الطوابق السفلية للسفينة كانت تعج بمئات الفقراء المهاجرين الذين كانوا ينظرون إلى سوء أوضاعهم ومتاعبهم أثناء الرحلة بوصفه، في ظنهم، آخر معاناة عليهم أن يتكبدوها قبل أن ينتقلوا إلى العالم الجديد - أمريكا - حيث الفرص وحيث سيصير من حقهم الطموح إلى حياة أفضل.
وعندما اصطدمت السفينة تحت جنح الظلام، بعد يومين من إبحارها، بجبل جليدي عملاق كان يناهزها طولاً تقريباً، انفتحت بوابات أجنحة طوابقها العليا على الفور، وسرعان ما بدأت المياه الهادرة في اقتحام المستويات السفلية منها. وخلال خمس وعشرين دقيقة كان الركاب يهرعون بحثاً عن قوارب النجاة. وبحلول الساعة الثانية صباحاً كانت مقدمة التايتانيك مغمورة في الماء بالكامل، في حين كانت مؤخرتها مرفوعة لأعلى بعيداً عن سطح الماء. وبينما كان الأثرياء حاجزو الغرف الفاخرة في الطوابق العليا يهربون من شبخ الغرق على متن قوارب النجاة المحدودة التي وجدوها أمامهم، كان مئات من الفقراء وطاقم بحَّارة السفينة عالقين في القبو وفي الطوابق السفلية غير قادرين على الهرب من المياه المتدفقة التي كانت تحاصرهم من كل اتجاه. وخلال أقل من نصف الساعة كان أولئك، باستثناء نسبة محدودة منهم أفرادها بالتأكيد هم الأكثر حظاً بينهم، قد فارقوا الحياة واختفوا إلى الأبد في القاع المتجمد للمحيط الأطلنطي الذي - بالتأكيد - لم يجل بخاطرهم أبداً أن يصبح قبرهم وهم من حجزوا بطاقات سفرهم إلى أرض الفرص والأحلام على متن السفينة الأسطورة التي قيل إنها أقوى من المحيط.
وخلال الأيام التالية كان خبر غرق السفينة الأسطورة والموت المأساوي لأكثر من 1600 إنسان هو حديث الأحاديث والشغل الشاغل لكل المهتمين بمتابعة آخر الأخبار حول العالم. بَيد أننا إذا أعدنا قراءة ذلك الحادث الآن بعين التحليل الاجتماعي المدققة فإننا سنجد أن بعض "أنواع" المسافرين على متن التايتانيك كانت تحظى بفرص أو حظوظ أكبر بكثير في البقاء من بعض "الأنواع" الأخرى الأدنى منها. فأكثر من 60% من حاجزي بطاقات الدرجة الأولى، الذين كانوا يقطنون الغرف في الطوابق العليا والذين كان يحق لهم التجول والاستمتاع أعلى سطح السفينة، قد ظفروا بالنجاة، ليس فقط لأن قوارب النجاة كانت أقرب إليهم، وليس - بالتأكيد - لأنهم كانوا أكثر لياقة بدنية أو أكثر قدرة على العوم أو أكثر ذكاء أو إبداعاً من شاغلي الطوابق الأدنى، ولكن - وبالأساس - لأنهم كانوا الأسبق إلى سماع أبواق الإنذار وإلى رؤية مياه الأطلنطي الشرسة وهي في مراحل فتكها الأولى بالسفينة وبالأرواح التي كانت تحملها. ولم ينج من الغرق من بين راكبي الدرجة الثانية سوى نحو 36% منهم، في حين لم يبق على قيد الحياة من راكبي الدرجة الثالثة سوى 24%.
إن الاختلافات والتمايزات الطبقية على متن التايتانيك في رحلتها الأولى - والأخيرة - كانت في واقع الأمر تعني ما هو أكثر وأهم بكثير من مستوى فخامة الغرف أو مدى سرعة الخدمة أو جودة الطعام.. لقد كانت تعني، فضلاً عما سبق، الخط الفاصل بين الحياة والموت.
#محمد_علي_ثابت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيميترية التطرف - الجزء الأول
-
سيميترية التطرف - الجزء الثاني
-
وداعاً مروة
-
ديالوج - قصة قصيرة
-
لو زارني فرح ساعات
-
حالاتي
-
هي (قصة قصيرة)
-
رهانات متفاوتة
-
دفقات
-
عم أونطة
-
بعضٌ مما نعرفه لاحقاً
-
على مُنحنى السواء
-
لكُلٍّ يَمٌّ يُلهيه
-
مَحْض صُدَف - قصة قصيرة
-
تصرفات شتى إزاء الريح
-
أقصُوصة من سِفر الإياب
-
فعل الأمر في رؤيا
-
فصل العلم عن الدين.. لماذا؟
-
متوسط المتوسط
-
حالات
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|