مسعود ضاهر
الحوار المتمدن-العدد: 166 - 2002 / 6 / 20 - 06:32
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عندما عرضت المحطة اللبنانية للإرسال تفاصيل حادث الاعتداء الذي تعرض له المطران غريغوار حداد مساء الجمعة 15 حزيران 2002، بدا لي المشهد مألوفا في البداية وكأنه يستعيد مقطعا من فيلم <<المصير>> للمخرج المشهور يوسف شاهين. ففي ذلك المقطع صور شاهين حوارا بدأ هادئا بين ابن رشد وابن الخليفة الأندلسي، وهو شاب صغير السن دخل لتوّه في جماعة أصولية اسلامية متشددة دعت الى محاربة المقولات العقلانية التي نادى بها الفيلسوف الكبير الذي كان من أبرز دعاة التنوير في عصره، وترك بصمات واضحة على الفكر الاوروبي في <<عصر الأنوار>>.
لقد تكرر المشهد مساء ذلك اليوم عندما تنطح شاب لبناني، ممن تعلم <<أصول الدين المسيحي>> في زمن الحرب الاهلية اللبنانية، وعلى أيدي ساسة ومبشرين أساؤوا للدين، والدولة، والوطن في لبنان. وما زالت بعض مقولات الحرب الأهلية تفعل فعلها، وبأشكال متنوعة، طوال أكثر من ربع قرن من الزمن. نتيجة لذلك تبرز الآن مأساة جيل بكامله من الشباب اللبناني الذي لم تنفتح أمامه سبل الاحتكاك الثقافي بالآخر لسنوات طويلة، وتربى على كل أشكال الكره، ونبذ الآخر، ورفض الحوار معه.
وجه التقارب بين المشهدين ان شابا جهولا لا يفقه شيئا في أصول الدين الاسلامي جاء يشكك في مقولات ابن رشد، وأراد ان يعطي درسا في أصول الدين الاسلامي لواحد من أبرز فقهاء المسلمين. ومن خلال الحوار المقتضب تأكد لابن رشد ان الشاب لم يفقه ألف باء الدين الاسلامي بل جرى تلقينه بمقولات مغلوطة تماما تسيء الى تعاليم الدين عندما تحوله الى أشكال طقوسية ليست من أصوله بشيء لكنها تتخذ ذريعة لتكفير كل من لا يمارسها علناً، فأدرك ابن رشد على الفور ان القرار قد اتخذ بالاساءة إليه فتألم كثيرا. كان المشهد التاريخي يجري في زمن تتعرض فيه الأندلس الى خطر الضياع، لكن قادتها تعاموا عن الخطر وانصرفوا الى محاربة مقولات ابن رشد العقلانية وانتهوا الى حرق كتبه في الساحات العامة، فدل عملهم على ان الأندلس كانت تعيش أيامها الاخيرة في عصر ملوك الطوائف الذين بكوها طويلا كالنساء لأنهم لم يعرفوا كيف يحافظون عليها كالرجال. فحاكم يأمر بحرق كتب ابن رشد في ساحات مدنه وهو محاصر من الأعداء ومن جميع الجهات، يقود بلده الى الهلاك لأن قواه الفاعلة لم تعرف كيف تحافظ على قادة الرأي فيها. وهكذا انهارت الاندلس بفعل الجهل والتعصب والأخطار المحدقة وبقيت عقلانية ابن رشد مصدر تثقيف لأجيال متعاقبة من المتنورين.
لكن وجه الغرابة بين المشهدين ان تمتد يد شاب <<مسيحي>> بالضرب على رجل دين وقور، وعلى مرأى من رجال الامن الذين تقاعسوا عن القيام بمهماتهم بشكل معيب، وأمام عيون المشاهدين الذين ذهلوا من بشاعة المشهد المصور بتفاصيله أمام شاشة التلفزيون. فقد بدا واضحا ان الشاب لم يحسب حسابا لعناصر الدرك اللبناني المولجين بحماية المطران حداد، مما أعطى الانطباع بأن مواطنا واحدا قادر، وبشكل متعمد، على استفزاز دولة بكامل أجهزتها. وكأن صورة الدولة القوية، دولة القانون والمؤسسات، والقادرة على الاقتصاص ممن يخالف القوانين علنا وعلى شاشات التلفزيون، قد انحدرت الى الحدود الدنيا التي لم تصل إليها حتى في أسوأ دول العالم المتخلف، فكان من الطبيعي ان تتسع موجة الاستنكار والادانة لتشمل كبار المسؤولين وصغارهم في الدولة نفسها، اضافة الى قادة الاحزاب والتنظيمات الشعبية والمهنية والنقابية.
فالمطران حداد واحد بين قلة نادرة جدا من رجال الدين والسياسة في لبنان الذين بنوا لأنفسهم سمعة عطرة في جميع ما قاموا به خلال مسيرتهم الطويلة. فقد تنبه، منذ وقت مبكر جدا، الى مخاطر الاحتقان الطائفي في لبنان، الذي يؤدي الى مزيد من التشنج ورفض الآخر والانتقال من الحوار بالفكر الى الحوار بالسلاح، فبذل جهودا مضنية في سبيل منع الحرب الاهلية، وأسس <<الحركة الاجتماعية>> التي ضمت عناصر من جميع الطوائف والمناطق للإبقاء على صلات الود والتحابّ بين اللبنانيين، وبشّر، وخطب، ونشر الكثير من المقالات التي أكدت على ان الحرب الاهلية الى زوال أكيد، أما لبنان الوطن فباقٍ بإرادة بنيه، مهما كانت الظروف والمحن التي تحيط به او تحاول القضاء عليه. وبعدما نذر حياته للحوار البناء لإنقاذ لبنان من الاوهام المريضة التي تنتج مقولات العزلة والانعزال داخل المناطق اللبنانية، وتجعل من الوطن الصغير مجموعة طوائف متناحرة وتعيش حربا أهلية غير معلنة في كل يوم، عاد اليوم ليؤكد على ثوابت رسالته التثقيفية بأن الإيمان المسيحي الحقيقي يبدأ بحب الآخر والتفاعل معه لبناء وطن لبناني جديد يتلاءم مع أماني الأجيال الشابة من اللبنانيين، ويدعوهم الى البقاء في وطنهم وليس الى سلوك طريق الهجرة بعشرات الآلاف سنويا.
لقد أمن المطران حداد إيمانا راسخا بأن المتاريس الطائفية، على مستوى الفكر والممارسة، لن تنتج وطنا قابلا للحياة. لذلك دعا الى هدمها جميعا وصولا الى تأليف صلاة مسيحية اسلامية جامعة تؤمن بإله واحد، يوحد ولا يفرق، يبني ولا يهدم، غفور رحيم وليس إله حرب وقتل ودمار. فالطائفية شر مطلق والتخلص منها ساعة مباركة في تاريخ لبنان، على حد تعبير الزعيم الكبير رياض الصلح. وبعد حروب طائفية متكررة طوال قرن ونصف القرن، آن الأوان لكي يتعلم اللبنانيون استخلاص الدروس والعبر من تاريخهم الدموي. فقد شكل التحريض الطائفي السلاح الأكثر فتكا بهم طوال الحرب الاهلية. وعبر تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، تحددت الوظيفة الاساسية للطائفية بأنها سلاح القوى المسيطرة لضرب اي تحرك إصلاحي جذري تقوم به قوى التغيير الفاعلة في مختلف الطوائف اللبنانية.
وقد أثبتت الوثائق الدامغة ان ميليشيات الحرب الاهلية قتلت من عقلاء الطوائف في داخلها أكثر بكثير مما قتل منهم على يد الطوائف الاخرى. مع ذلك، فالتحريض الطائفي قابل للاحتواء اذا تمت مواجهته بأصوات عقلانية من داخل كل طائفة، وعبر الدعوة الى الحوار مع الآخر لبناء وطن موحد يتسع لجميع الآراء، والاحتكام الى القيم الدينية والخلقية في مواجهة انفلات الغرائز من عقالها.
في هذا السياق بالذات يمكن النظر الى الحادث المؤلم الذي تعرض له واحد من اكثر رجال الدين في لبنان والعالم العربي رأفة بالفقراء والمظلومين والمضطهدين، ومن دعاة الحوار الانساني الصادق بين الأديان السماوية لإنقاذ الوطن العربي من آفة التعصب الاعمى. وسيل الادانات وبيانات الاستنكار لا يفي بالغرض لأن الحادث البشع دخل في عمق الوجدان الشعبي. لكن بالامكان استخلاص الدروس والعبر من تلك الحادثة التي قد تتكرر بأشكال اخرى ما دامت أجواء الشحن الطائفي قائمة على ارض الواقع، وهناك الكثير من القوى التي تغذيها بشكل يومي فيما تقف منها الدولة موقف المتفرج او اللامبالي كما بدا بوضوح تام في مشهد الاعتداء.
وأبرز تلك الدروس ان ثقافة الحرب الاهلية وقيمها الزائفة ما زالت فاعلة في نفوس الشبيبة اللبنانية التي لم تتح لها فرصة حقيقية للتواصل والحوار الايجابي مع الآخر بسبب الظروف الصعبة التي عاشتها. كما ان الاندماج او الانصهار الوطني الذي نادت به وثيقة اتفاق الطائف لعام 1989 ووضعت له آليات عمل لتطبيقه، منها التجنيد الإلزامي وتوحيد الجامعة اللبنانية وتوحيد الكتاب المدرسي والتعليم الديني في المدارس وغيرها لم تنجح في خلق ذلك الانصهار. مرد ذلك الى ان ممارسات أهل السلطة حوّلت الطائفية الى مذهبية، والحكم الموحد الى ترويكا، ودولة القانون والمؤسسات الى دولة عاجزة عن الاصلاح الاداري. ومع ان <<الادارة هي مرآة الشعوب>> الا انها تحولت في لبنان الى اداة لطرد غالبية اصحاب الكفاية وأهل الاختصاص، واستبدالهم بذوي الدعم السياسي والطائفي في العديد من مؤسسات الدولة. كما ان المجتمع اللبناني الخارج منقسما على نفسه من حرب أهلية مدمرة كان يحتاج الى دولة ديموقراطية عصرية تعلي من شأن القيم الخلقية والانسانية والثقافية وليس الى دولة تسلطية ترسخ حكم الميليشيات على حساب أصحاب الكفاية والقيم السلوكية والعقلانية.
لقد تكرر الاعتداء على رجال الفكر والاعلام والثقافة والادارة والقضاء باستمرار في لبنان منذ بداية الحرب الاهلية وحتى الآن من دون ان يلقى الفاعلون العقاب الذي يستحقون. هذا اضافة الى تدني مستوى التعليم ومعه نظام القيم الخلقية والسلوكية معاً بسبب موروث الحرب الاهلية، ولم تعد معظم الشهادات اللبنانية تحظى بثقة عدد كبير من دول العالم، لأن منها ما تم تحصيله من دون علم، وبغير الجهد المضني وسهر الليالي.
نخلص الى القول ان حادثة الاعتداء على المطران حداد أعادت الى الأذهان وكشفت مجددا ان المتاريس الطائفية ما زالت قائمة في لبنان، ونادرا ما قام حوار جدي وعقلاني بين اللبنانيين.
فالخلاف قائم بحدة على الهوية الوطنية والقومية والدين والمذهب والمناهج والبرامج ولغة التدريس والكتاب المدرسي ومواد الدراسة وتوزيع الطلاب. كما ان الحوار الاسلامي المسيحي الذي بشر به المطران حداد بهدف التأسيس للبنان الجديد لم يبن على صيغة عقلانية تقيم العيش المشترك على أسس ثابتة وغير قابلة للارتكاس، بل على صيغة عامة تدعو الى توحيد اللبنانيين، لكنها لم تتجاوز حدود الكلام على مقولات التعايش الشكلي المبني على التكاذب المشترك مع الاحتفاظ بنقاط الخلاف الساخنة لدى جميع الاطراف وذلك بانتظار تفجير جديد وحرب أهلية قد تقضي على الصيغة اللبنانية بشكل نهائي.
ختاما، هناك سمات مشتركة بين الاعتداء على ابن رشد والمطران حداد برغم البعد الشاسع في زمن حدوث كل منهما. فزمن الطوائف ما زال مستمرا من الأندلس حتى لبنان الكبير. وزمن الاصوليات الطائفية والمذهبية الذي شكل القاعدة الصلبة لعصر ملوك الطوائف، ما زال يتجدد بقوة في التاريخ العربي والاسلامي. كما ان تغييب العقلانية يشكل السمة البارزة التي ما زالت تطبع الفكر العربي في مختلف مراحله.
لكن ملوك الطوائف اعتدوا على ابن رشد بحرق كتبه في الساحات العامة من دون الاعتداء على جسده، فانهارت الأندلس واستمر ابن رشد. بالمقابل، تعرض المطران حداد للاعتداء على جسده فلاقى العمل استنكارا عارما ودعا الجميع الى إنزال أشد العقوبات بالفاعل او الفاعلين. دلالة ذلك ان المجتمع اللبناني الذي هزم اسرائيل في معركة الدفاع عن الوطن الواحد والموحد، والقابل للحياة في جميع الظروف، هو اليوم أكثر قدرة على تحصين ذاته من خطر إعادة التحريض على استغلال الانقسام الطائفي الى لبنان. لكن الانقسام قائم على أرض الواقع، وليس المعتدي على جسد المطران حداد سوى ثمرة طائفية مرة من آلاف الثمار المشابهة للأصولية الطائفية المنتشرة في جميع الطوائف والمناطق. وما لم تتجند جميع مؤسسات المجتمع الوطني في لبنان للدفاع عن مستقبل شعبه، وإجبار الدولة على القيام بواجباتها الامنية لحماية الرموز المضيئة في تاريخ لبنان واللبنانيين، فإن مخاطر التحريض الطائفي يمكن ان تؤسس لحرب أهلية جديدة في ظروف اقليمية بالغة التعقيد وتنذر بتبدلات خطيرة. فهل يسارع اللبنانيون للحفاظ على وطنهم في زمن <<ملوك الطوائف الجدد>> قبل ان يصبح الاعتداء على الرموز الدينية والثقافية، من ابن رشد الى المطران غريغوار حداد، مؤشرا حقيقيا على انهيار المجتمع والدولة في لبنان؟
() كاتب ومؤرخ لبناني.