عماد الدين حسين
الحوار المتمدن-العدد: 835 - 2004 / 5 / 15 - 05:43
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
في الايام الماضية لم أقابل أو أحادث صديقاً أو زميلاً عربياً الا وجدته يائساً متشائماً، بعضهم يتمنى الموت بديلاً لهذه الحياة، معظم هؤلاء يشعرون بالعجز نتيجة لما يقرأونه من اخبار .
ويشاهدونه من صور مذلة، يؤكد جميعهم اننا اصبحنا في اسوأ موقف يمكن تصوره على الاطلاق. بل جاءتني رسالة من القاهرة غارقة في التشاؤم وتسأل «طالما اننا عاجزون فلماذا لا نلتزم الصمت ونتوقف عن الصراخ؟».
في عز هذا اليأس قرأت خبراً صغيراً لا اعرف لماذا لم تهتم وسائل الاعلام العربية بابرازه، وهو احتفال الفيتناميين يوم 7 مايو الجاري بالذكرى الخمسين لمعركة «ديان بيان فو» الشهيرة حينما تمكنوا بسلاحهم البسيط وعزيمتهم الجبارة من دحر الاستعمار الفرنسي ليس من بلدهم فقط بل من كل منطقة الهند الصينية.. هذه المعركة كانت النهاية العملية للاستعمار الفرنسي في مناطق كثيرة من العالم.
عندما بدأت ابحث عن تفاصيل معركة ديان بيان فو وجدت نفسي اغوص في مئات الاوراق والتواريخ عن الملحمة الفيتنامية التي توجت تضحياتها بدحر اكبر قوة عسكرية في التاريخ وهي الولايات المتحدة في 30 ابريل عام 1975.
وفي النهاية وجدت ان افضل رد او جواب لكل عربي يائس او عربية محبطة بفعل ما نعيشه من مهانة حالياً هو السطور التالية علها تقدم ولو بصيصاً من الامل في الغد.
في عام 1941 احتلت اليابان فيتنام التي كانت خاضعة للسيطرة الفرنسية.. ومع هزيمة اليابان واستسلامها الشهير بفعل القنبلة الذرية عام 1945 نهاية الحرب العالمية الثانية، تمكنت فيتنام من اعلان استقلالها، لكن فرنسا الجريحة قررت اعادة احتلال فيتنام مرة اخرى، غير مصدقة ان زمن الاحتلال انتهى، والنتيجة ان الفيتناميين لم يجدوا امامهم غير المقاومة لنيل استقلالهم تحت قيادة الثائر الشهير نغوين تات تان او كما نعرفه نحن باسم «هوشي منه» وتعني «المنير» اما القائد الميداني المحترف، فكان هو الجنرال فو نجوين جياب.
استمرت المقاومة ثماني سنوات كاملة حتى تمكن 55 الف جندي فيتنامي من محاصرة 16 ألف جندي فرنسي في المدينة التي دخلت تاريخ الشرف من اوسع ابوابه وهي بيان ديان فو.. الحصار استمر لمدة 56 يوماً حتى خرج قائد الجيوش الفرنسية الكولونيل كريستيان دو لا كروا دوكاستري من ملجئه حاملاً علماً ابيض معلناً استسلامه في 7 مايو عام ,1954. في هذه المعركة فقد الفرنسيون 2000 جندي والفيتناميون ثلاثة اضعافهم لكنهم كسبوا واحدة من اهم معارك القرن العشرين.
في 21 يوليو 1954 كرست اتفاقيات جنيف الهزيمة الفرنسية المذلة، لكنها شأن الاتفاقيات الاستعمارية الاخرى قسمت فيتنام الى شطرين شمالي يحكمه الثوار المنتصرون وجنوبي يؤيده الغرب والولايات المتحدة. والجناح الاخير رفض اجراء انتخابات نيابية في الشطر الجنوبي لثقتهم في ان هوشي منه وانصاره سوف يكتسحونها ويوحدون البلاد.
ولأن شعارات الاحتلال والهيمنة لا تتغير فقد رفعت اميركا شعار الحرية ايضاً، وبدلاً من محاربة الارهاب الان، اكدت يومها ان هدفها هو منع سيطرة «البعبع الشيوعي» على المنطقة.
في اكتوبر 1954 منح الرئيس الاميركي دوايت ايزنهاور مساعدات مالية سخية لحكومة سايغون الجنوبية ظلت تزيد مع الايام.. وفي عام 1955 تم انتخاب حكومة في الشطر الجنوبي بزعامة نفو دينه ديم يدين بوجوده للمساعدة الاميركية، ويعارضه كل الشمال والطائفة البوذية نظراً لميوله الكاثوليكية، وفي فبراير 1959 اسس الثوار في فيتنام الجنوبية بدعم من هوشي منه «الفيتكونغ» في دلتا نهر الميكونغ لتصبح اول جبهة منظمة للتحرير الوطني، وفي المقابل القت واشنطن بكل ثقلها خلف سايغون، وكما يحدث دائماً بدأت طلائع قواتها بـ 400 جندي لتشغيل المروحيات لكنهم في صيف 1968 وصل عددهم الى 550 ألف جندي.
ومثلما يحدث للعملاء دائماً تم تصفية نفو ديم في اول نوفمبر 1963 في حادث غامض يقول باحثون ان ايدي واشنطن لم تكن بعيدة عنه بعد ان اصبح ورقة محروقة. وخلال 18 شهراً فقط شهدت سايجون عشر حكومات عسكرية متعاقبة، وخلال كل ذلك لم يتوقف الثوار عن المقاومة وانزال الخسائر الفادحة بالاميركيين والقوات المتعاونة معهم بدعم من الشطر الشمالي وكذلك تأييد معنوي صيني روسي ومن كل البلدان حديثة الاستقلال حينذاك.
ماذا فعلت واشنطن؟ يكاد التاريخ يكرر نفسه مثلما ترى الان.
بدأت طائراتها قصفاً عشوائياً شاملاً لفيتنام الشمالية مستخدمة كل ما تملكه من آلة رعب عسكري لكسر ارادة المقاتلين.. قامت بالتجميع القسري للسكان، واستخدمت طائرات الـ بي 52 لتحطيم الغطاء النباتي، وارتكبت اعمالاً وحشية لا يمكن تخيلها من قبيل ما كشفته الصحف الاميركية نفسها مثل قيام الملازم الاميركي وليام كالي بابادة المدنيين العزل في قرية لاي عام 1968.
او من قبيل الصورة الشهيرة التي كانت العامل الحاسم في بدء تغير الرأي العام الاميركي باتجاه معارضة الحرب، هذه الصورة كانت لطفلة في العاشرة من عمرها تجري عارية ووجهها ينطق بكل علامات الرعب والجنود الاميركيون يطاردونها وأهل قريتها بأسلحتهم الفتاكة، وطفلة اخرى صهرتها قنابل النابالم.
ما الذي تغير منذ هذا التاريخ حتى نشر صور ابو غريب منذ ايام؟ لم يحدث شيء تقريباً، ويبدو ان المقولة بأن «التاريخ الى تقدم دائماً» يكتنفها بعض الشك!ولأن التاريخ يكرر نفسه احياناً ولو مجازاً فإن تحالف الراغبين والائتلاف كان هو نفسه في فيتنام مع اختلاف بعض الاسماء وتكرر اخرى، وفي هذا الوقت كان الحلفاء هم استراليا ونيوزيلندا وتايلند والفلبين وكوريا الجنوبية.
في 3 سبتمبر عام 1969 توفي الزعيم الثائر هوشي منه دون ان يشهد اللحظة الاخيرة للانتصار، لكنه كان متأكداً من بلوغها، استمرت اميركا في القصف اليائس، لكن المقاومين لم ينكسروا.
واشنطن هي التي شعرت باليأس والهزيمة، وبدأت مفاوضات مع الشماليين في باريس، لكنها لم تكن تريد ان تدفع ثمناً سياسياً لهزيمتها مع اصرار الشماليين على ضرورة الانسحاب الاميركي الشامل وتوحيد البلاد..
حاولت ادارة الرئيس ريتشارد نيكسون اغراء الشماليين بوعود سرية لكنها لم تفلح، وفي مارس 1972 شن الشماليون هجوماً كاسحاً ضد الجنوب مخترقين الحدود بدعم من كل شرفاء وأحرار العالم. في هذا الوقت استأنفت واشنطن عبر هنري كيسنجر مستشارها للأمن القومي وقتها ووزير خارجيتها فيما بعد مفاوضات سرية مع المقاومين، لكنها في ديسمبر 1972 شنت اعنف قصف منذ بدء الحرب ضد عاصمة الشطر الشمالي هانوي وكذلك مدينة هايبونغ لكنها تكبدت خسائر هائلة هي 93 ضابطاً في سلاح الجو و 15 طائرة من طراز بي 52.
لم ييأس المقاومون والباحثون عن حريتهم وكرامتهم واستقلالهم وفي 23 يناير 1973 تم التوصل لاتفاق تضمن الرضوخ الاميركي لكل مطالب الشماليين تقريباً.
في اخر مارس 1973 خرج اخر جندي اميركي من فيتنام واجبرت فضيحة ووترغيت ريتشارد نيكسون على الاستقالة في 9 اغسطس 1974، ما جعل الولايات المتحدة عاجزة عن تقديم اي دعم لحكومة سايغون العميلة التي اصبحت مكشوفة تماماً وهنا جاءت اللحظة السانحة بشن «الفيتكونغ» والشماليين لهجومهم الكاسح الشامل في يناير 1975 وفي 30 ابريل من نفس العام دخلوا الى سايغون عاصمة الشطر الجنوبي.
انتهت الحرب بانتصار اصحاب الحق وفرار الخونة وتوحيد فيتنام، لكن بثمن فادح هو مليونا قتيل فيتنامي و3 ملايين جريح و12 مليون لاجئ، مقابل 57 ألف قتيل اميركي و 153 الف جريح و 587 اسيراً.. الفيتناميون دفعوا ثمناً باهظاً لحريتهم وهو درس مهم للغاية لكل من يعتقد ان الحرية والكرامة والاستقلال يتحقق بالكلام او بالصراخ عبر المظاهرات والفضائيات او بالدعاء فقط!!
ومن الماضي الى الحاضر مرة اخرى، فإن اكثر ما لفت نظري في احتفالات الفيتناميين الاخيرة بذكرى «ديان بيان فو» ليس فقط ان بطل المعركة الجنرال جياب مازال حياً ويتمتع بذاكرة جيدة رغم عمره البالغ 92 عاماً، بل تأكيده ان حرب فيتنام اثبتت ان بامكان الدول الصغيرة والضعيفة ان تنتصر على الاقوى اذا قاومت و كان الحق والانسانية والارادة في جانبها مهما طال الزمن، لكن الاضافة المهمة لهذا القول هي اجابته عندما سئل «من كان افضل ضباطك في معارك التحرير ضد الفرنسيين والاميركيين» فقال بلا تردد: انهم الشعب.
الغريب انه اثناء احتفالات الفيتناميين بذكرى انتصارهم كان تيد كيندي السيناتور الديمقراطي البارز يقول إن بوش عثر اخيراً على «فيتنامه» الخاصة في العراق!!
#عماد_الدين_حسين (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟