|
خصوصية المجتمع المدني العربي
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 2738 - 2009 / 8 / 14 - 06:12
المحور:
المجتمع المدني
إذا كان هناك من لا يعترف أساساً بفكرة المجتمع المدني العربي، بل يثير علامات استفهام حول أهدافها و”أجندتها” وتمويلها وتداخلاتها الخارجية، فهناك من يشكّك بفكرة وجود مجتمع مدني عربي فعلي، وإن بتعاطف مع وجوده، لكنه يقول: إن وجِدَ (مثل هذا المجتمع) فهو غير قادر على فرض إرادته أو رغباته أو تأثيراته في قرارات الدولة، كما هي حالة أوروبا الغربية والشرقية، أو حالة بعض أقطار شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية. بمعنى آخر، حسب قول الدكتور باقر النجار، “من الصعب أن تجد مجتمعاً مدنياً في المنطقة العربية مستقلاً عن الدولة وقادراً على التأثير فيها”، ولكنه يقبل بفكرة وجود منظمات غير حكومية أهلية مستقلة عن الدولة في بعض البلدان العربية مثل: مصر، المغرب، لبنان، الكويت والبحرين، في حين أن الأقطار الأخرى لا تبدو فيها هذه المنظمات موجودة وإن كان الأمر بدرجات متفاوتة.
الهدف من هذه المقدمة الانتقادية لفكرة المجتمع المدني هو السعي لإخراج المصطلح من التأييد والرضى واليقينية حد التقديس عند البعض، ومن السخط والتنديد والاتهام حد التدنيس عند البعض الآخر، وتحويله إلى أمر تاريخي- اجتماعي ديناميكي ومتحرك، يمثل الطاقة الكامنة لدى فئات اجتماعية ومهنية واسعة للإسهام في صنع المستقبل السياسي والمشاركة في رسم السياسات من خلال نقد الخطاب السائد بين السلطة والمعارضة أحياناً، عبر حقل ثالث، يمثل خياراً مجتمعياً لتفعيل المشاركة وضمان الحقوق الإنسانية وتأمين الحريات العامة والخاصة.
إن الأصوات العربية التي نددت بأطروحة المجتمع المدني الجديدة، لم تنطلق جميعها من رؤية واحدة، فمعظم الحكومات المحافظة أو الثوروية اعتبرتها تقليعة مستوردة أو مشبوهة، وفعلت ذلك أيضاً الجماعات التقليدية المتشددة حتى وإن كانت في المعارضة، ونظر إليها البعض الآخر من زاوية اقترابها أو ابتعادها من الصراع مع القوى المهيمنة على المستوى الدولي، خصوصاً محاولات “توظيف” بعض مؤسسات المجتمع المدني أو بعض إداراتها ل”أجندات” خارجية، واستغلالها أحياناً بالضد من المصالح الوطنية العليا، أو هكذا يتم تفسير بعض النشاطات المطالبة بالحريات وحقوق الإنسان باعتبارها ممالأة للغرب واسترضاءً له كما يعتقد أصحاب هذا الاتجاه، أو للحصول على التمويل أو لمكاسب سياسية.
وهناك اتجاه نقدي للمجتمع المدني من داخله أحياناً من زاوية ديمقراطية وتنويرية وليس بهدف الإساءة أو التشهير، وهذا الاتجاه يرى أن المجتمع المدني ضرورة لا غنى عنها وحاجة ماسّة، لا يمكن إحداث التحول والإصلاح الديمقراطي من دونها، بما يستوجب دعم مؤسساته والترخيص لها قانونياً، الاّ أنه ينتقد بعض ممارساتها وتوجّهاتها وتشبّث بعض قياداتها بمواقعها، ناهيكم عن بعض أساليبها البيروقراطية واللاديمقراطية.
يمكنني القول إن المجتمع المدني العربي ما زال ناشئاً وهو حديث التكوين، وفي بعض البلدان جنينياً أو أن هناك انقطاعاً قسرياً قد حدث فيه وعطّل من دوره كما هي التجربة العراقية، سواءً قبل الاحتلال أو بعده، وهناك تداخلات كثيرة عليه، بل واتهامات جاهزة ضده، لكنه أخذ تدريجياً يتطور ويؤثر، خصوصاً أن طائفة من الاحتجاجات حتى في البلدان المغلقة والمحافظة أخذت طريقها إلى التبلور، ولقيت اهتماماً دولياً حتى وإن كان ذلك له علاقة ب”أجندة” بعض القوى الكبرى الخاصة، لكن الأمر ينمّ عن إرهاصات بدأت تتأسس وتترك تأثيراتها، وإنْ كانت محدودة على مسار نقد الدولة والممارسات الحكومية، ومطالباتها بالإصلاح الدستوري والقانوني والاجتماعي وحق المشاركة وتأسيس الجمعيات والنقابات والأحزاب وحقوق المرأة وغير ذلك.
ولعلّ هذا الأمر هو جزء من مسار كوني ومن تطور أممي لا يمكن للبلدان العربية أن تعزل نفسها عنه، كأنها جزر نائية غير معنية بالتطور الدولي، الأمر الذي يفرض على الحكومات مواكبة هذا التطور والسماح لمؤسسات المجتمع المدني، من العمل، وإن كان الأمر قد حصل في بعض البلدان العربية مثل المغرب والأردن ولبنان واليمن والبحرين والكويت ومصر والجزائر وقطر (بدايات محدودة) والعراق وفلسطين (رغم ظروف الاحتلال والإرهاب) وغيرها، وذلك في سياق قراءة تستجيب لبعض متطلبات التطور الدولي.
إن الوقوف بوجه التيار، يعني أن رياح التغيير ستكون عاصفة وربما مدمّرة وستصيب الجميع، ولن يقف أمامها التشبث بالسيادة أو عدم التدخل بالشؤون الداخلية، تلك الحجج التي تتذرع بها الحكومات للاستفراد بشعوبها، في حين أن ضرورات التطور تقتضي إطلاق الحريات وإجراء إصلاحات واحترام حقوق الإنسان، كضمانات لحماية السيادة ومنع التدخلات الأجنبية والحيلولة من دون تعرض بلداننا وشعوبنا للاحتلال والعدوان والانتهاكات الخارجية.
لقد وقفت غالبية الدول العربية ضد تطور المجتمع المدني، وذلك بسنّ وتشريع قوانين واتخاذ إجراءات إدارية تحول دون اتساع الظاهرة أو تسعى للحد منها ومن حصول المنظمات المدنية على حق وحرية العمل الشرعي. ولا شك في أن هذه الظاهرة نمت وانتشرت في نهاية عهد الحرب الباردة وانتهاء سياسة الوفاق الدولي، وقد أخضعت هذه المنظمات لإجراءات تسجيل معقدة ومكلفة أحياناً، وفي الكثير من المرّات كانت إجراءات التسويف والمماحكة تنتهي بالرفض أو عدم الترخيص، ناهيكم عن أن سيف سحب الاعتراف يبقى مسلّطاً عليها، واعتمدت بعض الحكومات سياسة الجرعات المسكّنة لاحتواء الاحتقانات الناجمة عن الرغبة في انطلاقة مؤسسات المجتمع المدني.
وللأسف، فإن الكثير من الحكومات والقوى السياسية العربية خارجها، ومن معارضتها أحياناً، لا تزال لا تدرك أهمية وحيوية المجتمع المدني وضرورته، باعتباره أحد أهم روافد الإصلاح والتغيير وتعزيز وتمكين الديمقراطية التي تنشدها، لكونه يمثل القوة الثالثة، التي لا غنى عنها لضمان السلم المجتمعي، فضلاً عن أن وجوده يمثل هو الآخر انتماءً إلى العالم المعاصر، عالم الحداثة والتقدم، ولعل التنكر له أو تهميش دوره أو محاولة احتوائه، إنما هو تشبث بالماضي وهروب من المستقبل.
لهذا فان البلدان العربية تغدو أكثر حاجة من غيرها إلى تنمية وتعزيز دور المجتمع المدني وتمكينه من القيام بواجباته من خلال كيانات مستقلة غير حكومية، غير ربحية، حرة وغير إرثية وقائمة على الانتماء الطوعي والتعددي وتتعامل مع منتسبيها على نحو شفاف وديمقراطي، وذلك لحاقاً بالتطور الدولي.
يكفي أن نشير إلى أن المنظمة العربية لحقوق الإنسان وهي المنظمة الأم كما يشار إليها، ظل البعض ينظر إليها بارتياب لفترة غير قصيرة، رغم أنها كانت تعمل في مصر بصورة واقعية De Facto، ولكنها لم تحصل على الترخيص القانوني والتسهيلات كمنظمة إقليمية DE Jure، إلاّ بعد مرور أكثر من 15 عاماً (أي في العام 2000)، حيث وقّعت على مذكرة تفاهم واتفاقية مقر مع وزارة الخارجية المصرية، في حين تأسست المنظمة في قبرص (ليماسول) نهاية العام ،1983 واتخذت من القاهرة مقراً لها بعد ذلك، واستمرت في إصدار تقاريرها منذ العام 1985.
للأسف الشديد، لم تستطع السلطات في بلادنا العربية، التعامل الصحيح مع منظمات المجتمع المدني، سواءً كانت نظماً “ثورية” أو “محافظة”، ولربما كانت الأخيرة أكثر رحمة من غيرها، فقد كان الارتياب هو السائد حيث تضعها في خانة المعارضات السياسية، ويتم التعامل معها باعتبارها خصماً أو عدواً، مستغلة أن بعض هذه المنظمات يتجاوز حدوده سواءً في تساوقه مع بعض “الأجندات” الخارجية أو اندغامه مع بعض المعارضات السياسية أحياناً.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل تخالف -الشرعية الدولية- القانون الدولي؟
-
تخوم ولاية الفقيه!
-
إرهاصات الدولة والمجتمع المدني في العراق
-
الجدار الديموغرافي.. الأبارتيد الجديد
-
بين الإسلامفوبيا والإسلاملوجيا
-
لائحة اتهام وحلم العدالة الممكن والمستحيل!
-
دارفور.. العدالة الممكنة.. العدالة المستحيلة
-
الغرب والصورة النمطية للإسلام
-
في فلسفة الدولة والمجتمع المدني
-
في شجون القضاء الوطني والدولي
-
الجدار الديمغرافي
-
الحكمة يمنية والوحدة يمنية
-
وحدانية الدولة وتعددية المجتمع!
-
جدار برلين!
-
مفارقة السيادة والتدخل الإنساني!
-
نفط العراق.. وجوهر الخلاف
-
النفط والاقتصاد الريعي
-
الابرتهايد..
-
يوم السيادة -العراقي- وشيء من المصارحة
-
هل هي هموم «شيوعية» أم وطنية؟!
المزيد.....
-
الجنائية الدولية تصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو وجالانت لارتكا
...
-
الجنائية الدولية تصدر أمر اعتقال بحق قائد كتائب القسام محمد
...
-
حيثيات تاريخية لإصدار أمر اعتقال نتنياهو وجالانت لارتكاب جرا
...
-
وزيرة إسرائيلية تصف مذكرات الاعتقال الدولية الصادرة ضد نتنيا
...
-
بن غفير يدعو إلى فرض السيادة على الضفة الغربية ردا على مذكرا
...
-
قيادي لدى حماس: مذكرات اعتقال نتنياهو وجالانت تؤكد أن العدال
...
-
المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو ويوآ
...
-
المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
الجنائية الدولية: توجيه تهم ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية ل
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|