الرجل الثاني في البعثة الديبلوماسية الاميركية في أنقرة سيكون اعتباراً من نهاية هذا الشهر (حزيران) روبرت دوتش، وهو ديبلوماسي معروف بكونه خبيراً في الشؤون العراقية وبصورة خاصة في أوضاع شمال العراق. وقد سبق له ان لعب دورآً في الظل - كما تقول المصادر في وزارة الخارجية التركية - في صياغة ما سمي "مسار انقرة" لتأمين علاقات سلمية بين الطرفين الرئيسيين في شمال العراق وهما الحزب الديموقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني، عندما اندلعت المواجهات بينهما أعوام 1995 و1996 و1997 الى ان "استقرت" كما هي الآن في "دويلتي أمر واقع" كل منهما تحت سيطرة أحد الطرفين بعدما نظم "اتفاق واشنطن" توزيع المداخيل (التي اشعلت الحرب بينهما) والمؤسسات المشتركة لمنطقة شمال العراق.
تعيين خبير في الشؤون العراقية "نائب رئيس" البعثة الديبلوماسية الاميركية في انقرة كان اشارة جديدة لمزيد من "الكوابيس" العراقية التي تملأ أجواء أجهزة الدولة التركية المعنية بالشأن العراقي سواء الامنية أو الديبلوماسية او الاقتصادية، وتنعكس حتى على أنشطة مراكز بحثية في مؤسسات "مستقلة" أو في الجامعات، كما تمتد الى الصحافة والتلفزيون.
... "انها قضية من الدرجة الأولى في أعلى اهتمامات الدولة التركية" يقول السفير السابق غونر اوزتك المدير الحالي لـ"مؤسسة دراسات الشرق الاوسط والبلقان" في اسطنبول وهي مؤسسة وثيقة الصلة بوزارة الخارجية وتعمل في مجال الابحاث تحت تأثير الاهتمامات الرسمية و"حاجات" رؤيتها لمصالح الدولة التركية. والسفير اوزتك نفسه متابع للشؤون العراقية وله دراسة حول العقوبات الاقتصادية على العراق في العدد الاخير من المجلة السنوية التي تصدرها المؤسسة OBIV والتي يركز في خلاصاتها على أمرين: ممانعة تركيا لـ"العقوبات الذكية" على العراق لانها تكبح تجارتها معه، والثاني سياسي وهو ازدياد اعتماد واشنطن على أكراد العراق "حتى في مرحلة ما بعد الصدام".
في الحقيقة لن يبقى هذا الرأي مجرد "اجتهاد" حين يسمع زائر تركيا من مسؤولين عسكريين كبار حتى هواجس أعلى صوتاً في الموضوع العراقي حيال مستقبل الورقة الكردية في السياسة الاميركية الآتية في العراق، خصوصاً في ظل خطط الاطاحة بالنظام العراقي الحالي، وهو ما سبق ان أدلى به صراحة الجنرال تانسور كيلينتش أمين عام "مجلس الأمن القومي" في الحديث الذي أجريته معه الاسبوع المنصرم ("النهار" 12-6-2002). فلا شيء أخطر بالنسبة للأتراك من احتمال قيام "دولة كردية"، حتى "في أي مكان في العالم" و"سنقاتلها اذا أعلنت ولو في الارجنتين" كما قال لي مرة مسؤول ملف شمال العراق في وزارة الخارجية التركية.
لقد مضت سنوات قليلة (1998) على اعتقال زعيم "حزب العمال الكردي" المسلح عبدالله أوج ألان ومعه النهاية الفعلية للحركة الكردية المسلحة في مناطق "الجنوب الشرقي" الكردية في تركيا. وهي نهاية تأكدت هذا العام مع اعلان حزب أوج ألان تغيير اسمه والانتقال الى "النضال السلمي" والتخلي عن السلاح.
لكن "الكابوس العراقي" الذي يشعر زائر تركيا هذه الايام ان الدولة التركية تعيش تحت وطأته، او بكلام آخر الاهتمام الرفيع المستوى لاجهزة الدولة التركية المعنية بالاحتمالات العراقية في السياسة الاميركية وما يُسمّى هنا مستقبل "ما بعد نظام صدام حسين"... هذا "الكابوس العراقي" يطرح امام الزائر المتجول بين بعض الدوائر الديبلوماسية والسياسية الرسمية في أنقرة المفارقة التالية:
لقد انتهت "الورقة" الكردية داخل تركيا وبقرار اميركي في مساعدة تركيا على جعل الكرة الارضية أضيق من ان يستطيع عبدالله أوج ألان الاختباء في أي مكان فيها... هذه الورقة التي كان الأتراك الرسميون في الثمانينات والتسعينات يشكون من وجود تواطؤ بريطاني اوروبي ضمني لتشجيع تحريكها ضد تركيا... لقد انتهت هذه الورقة واقفلت عسكرياً... ولكن ربما لتبدأ ورقة أكراد العراق بالظهور... كنقطة ارتكاز احتياطية الآن للسياسة الاميركية في العراق ونقطة استخدام أساسية في هذه السياسة في المستقبل... وهو ما يثير الحذر التركي في اقل تقدير.
فالمسألة "الانفصالية" الكردية (حسب التعبير التركي) لا تحتمل اي تفريق بين داخلي وخارجي على المستوى الاستراتيجي. ومن المعروف في انقرة انه قبل بضع سنوات عندما اقام ممثل احد الحزبين الكرديين العراقيين حفل كوكتيل في احدى المناسبات ورفع فيها العلم الخاص بشمال العراق الذي اتفق عليه الحزبان أثار الامر استياء المراجع الرسمية التركية التي اعتبرت رفع العلم الخاص تعبيراً عن تصرف المسؤول الكردي العراقي كممثل لدولة "مستقلة" بينما أقصى ما تقبل انقرة التعامل معه هو منطقة "حكم ذاتي" وتفضل هذا التعبير حتى على كلمة "فدرالية" عراقية.
الا ان حيزاً مهماً في تجليات هذا الكابوس العراقي في تركيا، يحتله موضوع النفط وتحديداً نفط كركوك (حيث الاحتياط والانتاج العراقيان هما الاوسع). فالمسؤولون الاتراك يعارضون بوضوح (وقد عارضوا دائماً) ان تسفر مرحلة ما بعد صدام حسين عن ضم مدينة كركوك ومحيطها الى الاقليم الكردي في العراق... وهو - أي هذا الضم - ما يطالب به، بل يعمل له الحزبان الكرديان. وتفضل أنقرة طبعاً ان يبقى الأمر عائداً سواء حالياً (وهو أمر قائم) ام مستقبلاً الى الحكم المركزي في بغداد. وهي في مجال الضغط على الطرف الكردي تدفع دائماً زعيم الحزب الرئيسي لتركمان العراق الى التصريح - كما فعل الاسبوع الماضي - بأن كركوك مدينة "تركمانية" لا عربية ولا كردية وان "العراق مؤلف من ثلاثة شعوب: عرب وأكراد وتركمان"!
ويبدو على ضوء الأجواء التركية ان واشنطن حسمت مسألة الاعتماد على الأكراد كـ"تحالف الشمال" العراقي في أي هجوم على بغداد تبعاً للسابقة الأفغانية عندما ستعطي الضوء الأخضر لهذا الهجوم؟؟
ومن "الأسلحة التحاججية" العائدة بقوة في الطرح التركي حالياً، التركيز على اجماع دول المنطقة المحيطة بشمال العراق على رفض فكرة دولة كردية والحرص على وحدة العراق، وهي سوريا وايران بالاضافة الى تركيا. هذا الموضوع من الثابت انه يمثل قاسماً مشتركاً للدول الثلاث، سبق في بعض السنوات المنصرمة ان جعل من اجتماع وزراء خارجية هذه الدول - كمعنية بالشأن العراقي - "شبه مؤسسة دائمة" للتنسيق. (ستكون زيارة رئيس الأركان السوري حسن تركماني الى أنقرة مناسبة لتجديد البحث في الموضوع العراقي...).
الصوت العالي لـ"الكابوس العراقي" في تركيا، هو احدى ادوات "الحوار" مع حلفاء تركيا الخلص، اي مع الاميركيين... استعداداً للمرحلة المقبلة (؟) التي تعني على الأرجح، في حال نفذ جورج بوش تهديده العراقي، باحساس الاتراك الرسميين بأنها ستكون مرحلة دور أكبر للأكراد العراقيين...
ولكن... الأرجح، بل المنطقي، ان تكون صيغة مشاركة أكبر في القرار المركزي في أي سلطة جديدة في بغداد... كما قال لي مرة مسعود البارزاني.
قد يتحول اكراد العراق الى "تحالف شمال"... فهل تكون تركيا "باكستان" الوضع العراقي... مع ان الديبلوماسيين الاتراك بل العسكريون ايضاً يشددون على ان الوضع العراقي اكثر تعقيداً بأشواط من الوضع الافغاني... بدءاً من طبيعة الفارق بين "ميليشيا الطالبان" وبين جيش كالجيش العراقي على كل ضعفه بعد ازمة اجتياح الكويت...
وهذه بداية... مسلسل الاختلافات بين افغانستان "البسيطة" والعراق "المعقد" لا نهايتها!؟
اسطنبول - جهاد الزين
* تصويب AK: في تقرير جهاد الزين من أنقرة المنشور على الصفحة الأولى من عدد "النهار" 12/6/2002 (الاربعاء المنصرم) وقع خطأ في اسم الحزب الذي يتزعمه رئيس بلدية اسطنبول السابق طيب اردوغان، وهو احد الحزبين الاسلاميين اللذين نشآ بعد إلغاء "حزب الرفاه" الاسلامي. والصحيح هو: حزب العدالة والتنمية [ AK ] فاقتضى الاعتذار. |