|
الأنفال : نتاج آيديولوجيا البعث و نظامه الشمولي- 3
جبار قادر
الحوار المتمدن-العدد: 833 - 2004 / 5 / 13 - 08:31
المحور:
القضية الكردية
لقد مرت عملية إعداد القتلة الذين قاموا بتنفيذ عمليات الأبادة الجماعية بعدة مراحل . لقد كانت تجربة ( مكتب العلاقات العامة ) ، وهو أسم إختاره صدام حسين للمخابرات بسبب كراهية العراقيين لتسميات الأمن و المخابرات ، نموذجا لما ساد العراق فيما بعد .وكانت لصدام تجربة في التحقيق مع الشيوعيين و تعذيبهم بعد إنقلاب شباط عام 1963 . جند لهذا المكتب عددا من القتلة و الشقاوات و المجرمين المستعدين لتنفيذ أوامره دون تردد ماداموا يحصلون على الأمتيازات و فرص ممارسة العنف و القسوة مع الآخرين . تحولت تلك التجربة الى نموذج غطى العراق من أقصاه الى أقصاه و أصبح ضابط الأمن عنصرا مهما في أية دائرة من دوائر البلاد مهما كانت صغيرة و تافهة. جرى إعداد أفراد القوى التي قامت بجرائم الأنفال وفق برامج خاصة . وإعتقدوا بأنهم بقيامهم بهذه الجرائم أنما ينفذون أعمالا مهمة و يقدمون خدمات جليلة للزعيم و الحزب والدولة والأمة . لقد جرى قتل الأحاسيس الأنسانية لدى هؤلاء. فالتعاطف الأنساني مع آلام الناس أعتبر ضعفا و عدم خضوع لرغبات الزعيم و نقص في الأيمان المطلق بالأيديولوجيا . لذلك وجب على أفراد هذه المجاميع أن يظهروا القسوة و الخشونة و أن يتصرفوا كالحيوانات المفترسة فيأكلون الحيايا و ويلقى بهم في الأوحال و المياه القذرة و ينفذون أوامر قادتهم دون تردد و أن يكونوا مستعدين دوما للتضحية بالنفس على طريق تنفيذ رغبات الزعيم . كما أنهم شاركوا في حملات الأعدام الجماعية بحق السياسيين المناهضين لحكم البعث أو الشباب الهاربين من الخدمة العسكرية . وتمثل هذه القوات جماعة تقوم بين أفرادها أخوة الدم و تقربهم الجرائم المشتركة التي يقومون بتنفيذها من بعضهم . ولكن ورغم أن النظام البعثي جند خلال سني حكمه عددا هائلا من الأفراد في مؤسساته القمعية و قواته الخاصة ، إلا أن جريمة كبيرة بحجم الأنفال لم يكن بالأمكان أن تنفذ دون مشاركة فئات أخرى من المجتمع العراقي مثل الجيش الشعبي ، أفواج الدفاع الوطني و المفارز الخاصة . وكان أفراد هذه القوات في الظروف الأعتيادية أناسا عاديون و يمارسون حياة مدنية طبيعية . و يشكل مثل هذا التطور الجانب المرعب من المسألة عندما يزج بعشرات الآلاف من البشر دون إرادتهم في دائرة الجريمة. وفي الأنفال كما في أية عملية أبادة كانت هناك ثلاث فئات من الناس : الفعلة أي القائمين بالعملية و المشاهدين الذين يلعبون من خلال موقفهم السلبي دورهم فيها و الضحايا أو هدف العملية. ويخطأ من يعتقد بأن القتلة أناس ساديون أصلا و يمارسون القتل لأسباب و إعتبارات نفسية خاصة بهم . الحقيقة أن هؤلاء أناس عاديون دربوا على القيام بهذه الأعمال عبر عملية إعداد طويلة وجرى إنتقائهم من بين أكثر الجماعات إخلاصا للزعيم و الدائرة القريبة منه . لقد توسعت دائرة القتلة في العراق الى مديات مرعبة بسبب الحروب الكثيرة وحملات القمع المستمرة و تنامي وتيرة العنف و القسوة الى حدود يصعب تصورها . وهناك مسألة في غاية الأهمية في اية عملية إبادة جماعية و تتعلق بالجماعة / الهدف ، ألا وهي نزع الصفة الأنسانية عن أفرادها . ويشير الكتاب و الباحثين المهتمين بقضايا الأبادة الجماعية الى ضرورة توفر هذا الشرط لتنفيذ عملية الأبادة الجماعية بنجاح . تعمل السلطة الشمولية من خلال ماكنتها الأعلامية على الحط من مكانة الفئة المستهدفة و تصويرها على أنها فئة صغيرة و متآمرة و يبرر تحقيق الأهداف الكبرى القضاء عليها . و تستطيع الدولة من خلال مؤسساتها الدعائية و بخاصة في ظل الأنظمة الشمولية المطلقة و المجتمعات المنغلقة أن تفرض الصورة التي تريدها على المجتمع. فعلى مدى العقود الثمانية الماضية صور الأعلام الحكومي الكرد على أنهم متمردون و خارجون على القانون ، يشكلون مشكلة للعراق . وأصبحت نعوت الخونة ، المتخلفون و العملاء و غير ذلك من الصور السلبية تلاحق الكردي أينما حل . ولا زالت هذه الصورة مغروسة في عقول نسبة من العراقيين و عدد أكبر من العرب الغير عراقيين . وهناك من بين الأعلاميين العرب من يعتقد بأن الحديث عن حلبجة و الأنفال هو محاولة لهولوكوستة القضية الكردية . وصور الأعلام الدعائي البعثي الحركة الكردية على أنها خطر على مصالح العراق العليا و معيقة لطموحات الأمة العربية في الوحدة القومية و محاولة لتجميد دور الجيش العراقي في محاربة إسرائيل . كما كانت قيادات الحركة الكردية في الخطاب البعثي الرسمي خونة ، جيب عميل ، خناجر مسمومة في خاصرة العراق و الأمة العربية أو في أحسن الأحوال مغرر بهم . ووصل الأمر في المرحلة التالية الى تشبيه أفراد المجموعة / المستهدفة بالحيوانات أو كائنات تافهة لا تفيد البشرية في شئ بل أن وجودها خطر عليها لذلك فإن التخلص منها هو أمر لصالح البشرية . كما جرى تشبيه هؤلاء بالأمراض الخبيثة كورم السرطان الذي يجب أستئصاله قبل أن يستفحل خطره ويدمر خلايا الجسم كله . وتعتبر المفردات التي أطلقها علي كيمياوي على الكرد نموذجا صارخا لذلك الفكر العنصري . فقد شبه الكرد بالماعز الذين يعيشون في الجبال و الحمير الذين لا يفهمون شيئا و الكلاب وما الى ذلك . لقد قال ما نصه : ( ماذا أفعل بهؤلاء المعيز ؟ كيف أتخلص من هؤلاء المخربين ؟ سأدفنهم بالبلدوزرات و أفتح شوارع على مدافنهم . هل هم هؤلاء الذين تخافون منهم ؟ من يعترض على ما نقوم به ،المجتمع الدولي ؟ سافعل بالمجتمع الدولي و بكل أولئك الذين يستمعون اليه . لن أضربهم بالكيمياوي ليوم واحد بل سأضربهم 15 يوما متتاليا … سأجعلهم مثل الدجاجة التي تجمع فراخها تحت جناحيها … لماذا أدعهم يعيشون مثل الحمير هناك لا يفهمون شيئا …. لا أريد قمحهم و زراعتهم و طماطتهم و بامياهم و خيارهم … طلبنا من الموصل أن ترحل الكرد الى الجبال لعيشوا كالماعز … إفعلوا بنسائهم … سأهشم رؤوسهم هؤلاء الكلاب …. سأقطعهم مثل الخيار …. كنت أقول يمكن أن يكون بينهم بعض الجيدين لأنهم شعبنا أيضا ولكنني لم أعثر على إنسان جيد بينهم أبدا). الغريب أن صاحب هذه الكلمات يقول في نفس الموقف بأنه بكى بسبب مشهد تراجيدي في فلم سينمائي على حد زعمه ، ولكنه لا يبدي أي ندم على قتله لعشرات الآلآف من الأطفال و النساء و الشيوخ الكرد أثناء الأنفال ، بل يؤكد على صحة ما قام به خلال الأنفال إذ يقول ( أنا مصر على أن ما قمت به هو العمل الصحيح وكان لا بد أن أقوم به ) . ما الذي أوصل هذا الرجل الى هذه الحالة من تخشب المشاعر الأنسانية أمام قتل عشرات الآلاف من الأطفال و النساء و الشيوخ ، في حين يبكي على إمرأة فقدت الطريق في فلم سينمائي ؟ . الحط من قيمة المجموعة التي يراد إبادتها مسألة في غاية الأهمية للتمهيد لعملية الإبادة الجماعية . ويستخدام عادة في هذا الباب حتى الموروث الشعبي و النكات التي تحط من كرامة الآخر وتظهره بأنه أقل شأنا من المجموعة المهيمنة . لذلك تمنع الدول المتحضرة قانونيا النكات التي تحط من قيمة مجموعة بشرية سواء كانت قومية أو دينية أو فئة إجتماعية . في حين يزخر الفولكلوري الشرقي بأمثال غارقة في العنصرية بحق الشعوب الآخرى ويجري إستخدامها بصورة مفرطة في الأساءة الى الآخرين . هذه العملية أي نزع الصفة الأنسانية عن الضحايا ( عملية اللاأنسنة أو حيونة الضحايا ) تضعهم خارج المجتمع الأنساني و وظائفه .كما تساعد على إزالة العقبات الأخلاقية على طريق التخلص منهم وتقتل أي تعاطف إنساني لدى القتلة تجاه الضحايا،لأنهم يعتبرونهم أقل درجة من البشر. العوائق الأخلاقية التي تقف بوجه قتل الأنسان لأخيه الأنسان من القوة لا يمكن معها تنفيذ عمليات القتل و الأبادة الجماعية بسهولة و بطريقة لا تخلف تأنيب للضمير لدى القتلة إلا بعد نزع الصفة الأنسانية عن الضحايا . أن عملية اللاأنسنة تخلق جوا لتقبل الآخر بغير صورته الأنسانية بل يتحول الى رقم أو سلعة أو عنصر يمكن تعويضه في لعبة الأرقام . و كثيرا ما يتردد على ألسنة ضحايا العنف البعثي بأنهم كانوا يعطون أرقاما و يمنعون من ذكر أسمائهم بأي شكل من الأشكال. ورغم إرتباط ذلك بمسألة الحفاظ على سرية القمع البعثي إلا أن الأمر لا يخلو أيضا من هدف تحويل الضحية الى مجرد رقم لأزالة أي عائق أخلاقي على طريق التخلص منه . حتى في الجيش العراقي الذي كانت تسود علاقات قريبة من العبودية بين الضباط و الجنود فيه ، كان التعامل يجري عادة على أساس الأرقام . يمكن فهم هذه الحالة خلال الحروب و لكن من الصعب تبريره في حالات السلم و في ظل الظروف الطبيعية . يبدو ان الهدف هو خلق قطيع مسلوب الأرادة و الكرامة الأنسانية . وهكذا فإن عملية اللاأنسنة لا تشعر القاتل في هذه الحالة بأي ذنب أو تأنيب ضمير لأنه يقتل كائنات أقل درجة من الأنسان و يقوم بعمل ضروري لبقاء النظام التوتاليتاري . بل يمكن أن يثير القتل شعورا بالمتعة و النصر لأنه يمثل في هذه يمثل السيطرة المطلقة على الآخر / العدو. هناك قصص كثيرة عن تعامل و قسوة حراس معسكرات الموت البعثية و السجانين مع الضحايا الكرد تعطي صورا لأناس يصعب تصنيفهم ضمن البشر بدءا من رمي جثث الموتى للكلاب السائبة و الأعتداء على النساء أمام أبائهن و أطفالهن . و تظهر هذه الصور نجاح البعث في تحويل أنصاره الى كائنات خرافية تفتقر الى أية مشاعر أو قيم إنسانية . وقد أورد بعض من شاهد من بعيد عمليات القتل الجماعية أو أجبر على حفر المقابر الجماعية أو تمكن من الهرب من حفلات الموت الجماعي قصصا مرعبة عن أولئك الكائنات . وتجسد هذه القصص صورا لأناس يشبهون تماما ما نقرأه عن حراس و جلادي معسكرات الموت النازية أثناء الحرب العالمية الثانية . وتخلق عملية نزيع الأنسانية من أفراد المجموعة المستهدفة مسافة ضرورية بين القتلة و الضحايا. فالحط من قيمتهم ووضعهم خارج عالم الواجبات و تجويعهم و تركهم في أوضاع قذرة سرعان ما يفقدون معها الشعور بها ويصبح من المستحيل الحفاظ على النظافة . و بذلك تظهر بيئة مناسبة لأنتشار مختلف الأوبئة التي تحصد حياة الآلاف منهم . وقد جرى ذلك بالضبط لضحايا الأنفال في معسكرات طوبزاوة و نقرة السلمان و غيرها . ومات الآلاف من الأطفال و الشيوخ حتى قبل أن تبدأ قوات الموت بحصد أرواحهم . وتعتبر هذه الأساليب أدوات فعالة للحط من قدر و مكانة الضحايا و تجعلهم في وضع يتمنون الموت و يجدون فيه الخلاص ولذلك يستسلمون له و يتقبلونه دون أبداء أية مقاومة . ولعب المشاهدون بموقفهم السلبي دورا كبيرا في عملية الأبادة الجماعية . لقد تسامح الجمهور العراقي مع ما قام به البعث الى الحد الذي أصبح من الصعب بعد ذلك الوقوف بوجهه . و يبدو أن عامل الخوف كان وراء صمت المجتمع العراقي إزاء مذابح الأنفال . لقد أوصل نظام البعث الناس الى درجة من الخوف و الفزع لم يعد أحد يجرؤ على السؤال عن الآلآف الذين يؤخذون و لا يعود منهم أحد . وعندما يصل أي مجتمع الى هذه الحالة من الخوف و الرعب يصبح من السهل القيام بحملات الأبادة الجماعية . و هناك فئة من العراقيين تحاول أن تتهرب من تحمل أية مسؤولية عن الذي جرى في العراق ، فبدلا من أن تعترف بحالة الرعب التي سادت المجتمع العراقي تحاول أن تبحث عن مبررات لجرائم النظام و تغطية الموقف السلبي لهذه الفئات الواسعة من المجتمع . ولا يريد أفراد هذه الفئة أن يعترفوا بأن مقاومة العراقيين لحكم البعث تعود الى سنين طويلة قبل دخول النظام في مسلسل الحروب الخارجية . وشاركت فئات واسعة من السكان العاديين من خلال الجيشين النظامي و لشعبي و الدوائر الأمنية و المجهود الحربي في عمليات الأبادة الجماعية ولو بصورة غير مباشرة . وحتى الذين إمتنعوا عن المشاركة فيها لم يعملوا شيئا من أجل منع حدوثها . كان على الفعلة إما أن يشاركوا أو أن يصبحوا هم بأنفسهم هدفا لأفعال القمع و الأبادة . لم تعد قصص الأطباء مع جرائم قطع آذان الهاربين و وشم جباههم و أفراد الجيش الشعبي في عمليات إعدام الهاربين من الخدمة العسكرية خافية على العراقيين . لم يكن بالأمكان أن تتخذ الأنفال هذا الحجم المرعب لولا إمكانيات البعث المادية و العسكرية و التقنية الى جانب الجهاز البيروقراطي الحكومي و الشبكة الأمنية و الحزبية . وفي كل الأحوال تستطيع جماعة صغيرة منظمة و مسلحة بصورة جيدة أن تنفذ عملية إبادة بحق جماعة كبيرة غير منظمة و غير مسلحة . كرس البعث التكنولوجيا الحديثة و منجزات التحديث للقيام بحملات الأنفال و عمليات الأبادة الجماعية الأخرى . لقد وسعت هذه الأمكانيات من حدود عمليات الأبادة أكثر من السابق . فالذي أصبح بإمكان السلاح الكيمياوي و الطائرات الحديثة و الجيش المتطور أن تقوم به في الثمانينات لا يمكن مقارنتها بأمكانيات الدولة العراقية قبل ذلك بعقدين أو حتى عقد واحد من الزمن . كما أن مؤسسات الدولة الحديثة وفرت جميع متطلبات و خطط الأنفال . إذ أصبح بالأمكان تحديد الفئة / الهدف بكل دقة ، كما قدمت مؤسسات الدولة جميع الأجهزة و الوسائل الضرورية للقيام بالمهمة على أكمل وجه . وقامت أجهزة الأمن المرعبة و الوحدات الخاصة بمهمة الحفاظ على سرية العملية و محو آثارها كلما كان ذلك ممكنا .لقد إستفاد البعث من تطور التقنيات العسكرية و توفر موارد النفط الهائلة و شبكة الأمن و المخابرات و الجيش و الحزب و علاقاته الدولية الواسعة بأبشع صورة من أجل إبادة مئات الآلآف من المدنيين الكرد و غيرهم دون أن يحرك المجتمع الدولي ساكنا . ليست التكنولوجيا و الحداثة بذاتهما مذنبتين في إستخدامهما من قبل أنظمة و حركات توتاليتارية بهذا الشكل السئ . كما لعبت عملية نهب ثروات و ممتلكات الضحايا أيضا دورها في حملات الأنفال . و ربما تشير تسمية الحملات بالأنفال الى هذا الجانب ، فالأنفال تعني غنائم الحرب. و على أية حال فالكلمات ليست مسؤولة عن المعاني التي نحاول تضمينها . الذين ساهموا في تنفيذ الأنفال كان لهم نصيبهم من المواشي و الممتلكات و حتى الجواري و الموالي . هناك قصص كثيرة يصعب التحقق منها عن أخذ الأطفال و توزيعهم على عوائل موالية للنظام ، فضلا عن بيع أعداد من الفتيات الكرديات داخل و خارج العراق . وثقافة الفرهود البعثية و آثارها المدمرة على المجتمع العراقي بحاجة الى دراسات معمقة . يكفي أن نشير بأن نظام البعث جعل منها جزءا من ثقافة الدولة الرسمية سواء من خلال نهب ممتلكات السكان الكرد و بخاصة في الريف لمدة ثلاثة عقود كاملة , أو نهب المدن الأيرانية الحدودية أو فرهود الكويت الذي تجاوز كل حدود عندما قامت المؤسسات و الوزارات العراقية و زعماء المافيا الحكومية بنهب ممتلكات دولة الكويت ، ليجري نهبها على أيدي الحواسم يوم سقوط النظام . في المجتمعات المتعددة الأثنيات كالعراق و التي تسيطر فيها فئة صغيرة على الفئات الأخرى تزداد إمكانيات الأبادة الجماعية . ويشكل العنف أداة قانونية بيد الممسكين بالسلطة لخلق الفروقات بين الناس و تعميقها ، ويجري دعم هذه الظاهرة بأحداث التاريخ الملئ بالعنف في هذه المجتمعات. كثيرا ما يشار خطأ الى أن البعث كان في حرب مع الكرد لذلك قام بتلك الجرائم . ولكن طبيعة النظام البعثي الشمولي تؤشر حقيقة مهمة وهي أن النظام كان سيقوم بقمع الكرد و إبادتهم حتى لو لم يقوموا بمقاومته أو التمرد على سلطته ، لأن مجرد تمسكهم بثقافتهم و ممانعتهم الأنصهار و الأنصياع لدكتاتوريته و الأندماج الكلي بالمجتمع الذي أراد البعث خلقه كان وفق منظور البعث مبررا كافيا للقيام بأبادتهم . إذ كان البعث ينظر الى هذه الجماعة على أنها عقبة أمام النموذج الذي يريد أن يخلقه (مجتمع عربي موحد وحر و إشتراكي !!). وكان ينظر الى أمر الأبادة على انه إزالة لتهديد حقيقي أو رمزي على طريق بناء النموذج البعثي .والضحية في هذه الحالات عادة أقلية قومية أو ثقافية متميزة عن الأكثرية السائدة في البلاد و التي تعتبرها الدولة الشمولية عائقا أمام توسعها أو تتخوف من رغبة تلك الأقلية في إقامة كيان مستقل و البحث عن إعتراف دولي بها. و تتزايد إحتمالات الأبادة لدى الحكومات ذات النخب السياسية أو الأنظمة الجديدة . وهي عادة دول معزولة عن العالم الخارجي و ذات تأريخ ملئ بالقمع والأضطهاد . تعاني هذه المجتمعات من تاريخ طويل من الصراع الداخلي السياسي و القومي .و تستخدم السلطة فيها لتكريم المجموعات الموالية . و يتسبب إنتقال السلطة في إندلاع أعمال الأبادة في حالة وجود أيديولوجيات تحط من قيمة جماعة معينة . و الجماعات التي لم تندمج كليا في المجتمع أكثر تعرضا لمثل هذه الأعمال . كما تزداد إحتمالات الأبادة الجماعية عند حصول الهزيمة العسكرية ، ضعف السلطة ، نشوب الصراع الداخلي ، مع وجود أحزاب مسيطرة و أخرى تشعر بأنها مهمشة أو معزولة و قيادات توتاليتارية فضلا عن إعتماد الناس على القوة العسكرية لحماية أنفسهم . الأبادات الجماعية تحدث في المجتمعات المتعددة الأثنيات حيث الجماعات الدينية و القومية و السياسية تشعر بفروقات عميقة و بمظلومية . ويمكن ملاحظة هذه الخلافات في المشاركة السياسية أو الأمكانيات الأقتصادية و الأجتماعية . و تزداد إمكانيات الأبادة عندما يتصارع طرفان لمدة طويلة و يتطابق التمييز الأقتصادي و الأجتماعي مع حالة التهميش السياسي . و الشرط الأساسي للأبادة هو تحديد المجموعة المستهدفة بحيث يمكن تمييزهم عن المجموعة السائدة . بعكس الأنظمة الشمولية لا تمتلك النخب الديموقراطية سلطات واسعة تمكنها من إبادة مجموعة من الناس ، لأن الثقافة الديموقراطية تضع نفسها في مقاومة مثل هذه الظاهرة . لذلك فإن حجم السلطة و تبني أو عدم تبني الديموقراطية يشكلان العوامل التي تحدد إمكانية قيام نظام سياسي بعمليات الأبادة الجماعية من عدمها . و بعكس المجتمعات المنغلقة لا يمكن أن تحدث عمليات الأبادة أبدا في المجتمعات المنفتحة و الديموقراطية . النظام الديموقراطي لا يدع أي مجال لعمليات الأبادة الجماعية. و تجري عمليات الجينوسايد دائما بصورة سرية و يبذل القتلة جهودا كبيرة لأبقاء أخبارها في الظلام كما يستخدمون الأرهاب للحفاظ على سرية الجرائم . ولكن ولحسن الحظ و على الضد من رغبات القتلة لا تبقى أعمال الأبادة في السر لأماد طويلة بل يجري كشفها ، لأن عمليات بهذا الحجم يشارك فيها عادة أناس كثيرون و تصل اخبارها الى الآخرين بوسائل مختلفة. *) قدمت الأفكار الأساسية الواردة في مقالنا هذا في ندوة عن الأنفال نظمت في مدينة لاهاي بهولندا في شهر نيسان من هذا العام (2004 ).
#جبار_قادر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأنفال : نتاج آيديولوجيا البعث و نظامه الشمولي- 2
-
الأنفال : نتاج آيديولوجيا البعث و نظامه الشمولي -1
-
اللاعقلانية في خطاب الجبهة التركمانية (5) الجبهة و حكاية مجز
...
-
اللاعقلانية في خطاب الجبهة التركمانية (4) الجبهة و أكذوبة تك
...
-
اللاعقلانية في خطاب الجبهة التركمانية (3) الجبهة والرهان على
...
-
اللاعقلانية في خطاب الجبهة التركمانية (2) تسويق الجبهة في ال
...
-
اللاعقلانية في خطاب الجبهة التركمانية - 1
-
سر الحملة على الكرد و تطلعاتهم القومية المشروعة
-
في ضوء مذكرات مقرر لجنة مشكلة الموصل والتي تنشر لأول مرة : ا
...
-
القضية الكردية في العراق : عود الى التذكير بالبديهيات- الحلق
...
-
فضائح إعلامية في برنامج الحوار المفتوح
-
نصائح رجل حكيم لم تستمع إليها الحكومات العراقية ا
-
الشوفينية و الشيفونية الجديدة!
-
عبدالله كيول : صدام إقترح علينا العمل معا لأبادة الأكراد جمي
...
-
تقاطع المشروعين التركي و الأمريكي في العراق
-
مخاطر الأستعانة بالقوات التركية في العراق
-
علوجيات ..(4) علوج أكراد …
-
تركيا و الأتحاد الأوربي : هل سدت أوروبا أبوابها نهائيا بوجه
...
-
علوجيات..(3) ديناصورات سياسية و أفكار محنطة !
-
علوجات..(2 ) بعثيون يهربون من الشباك و يعودون من الباب !
المزيد.....
-
خيام غارقة ومعاناة بلا نهاية.. القصف والمطر يلاحقان النازحين
...
-
عراقجي يصل لشبونة للمشاركة في منتدى تحالف الامم المتحدة للحض
...
-
-رد إسرائيل يجب أن يتوافق مع سلوكيات المحكمة الجنائية الدولي
...
-
مياه البحر تجرف خيام النازحين في منطقة المواصي غرب خان يونس
...
-
مصرع عشرات المهاجرين بانقلاب قواربهم قبالة اليونان ومدغشقر
-
الجنائية الدولية تطالب الدول الأعضاء بالتعاون لاعتقال نتنياه
...
-
رايتس ووتش: تواطؤ أميركي بجريمة حرب إسرائيلية في لبنان
-
الشتاء يهدد خيام النازحين في غزة بالغرق بمياه الصرف الصحي
-
اعتقالات واسعة بالضفة وكتيبة طولكرم تهاجم تجمعات لقوات الاحت
...
-
المحكمة الدولية: على الدول التعاون بشأن مذكرتي اعتقال نتنياه
...
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|