ابوالقاسم المشاي
الحوار المتمدن-العدد: 832 - 2004 / 5 / 12 - 06:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
فيزياء الجسد..أبدية الحنين
ان الجسد يقبع في ركن قاص من سجنه المعتم مترقبا" تلك الجدلية التي تحمل الكثير من سحنات وملامح العلاقة بين النص والخطاب الى ان تزعفه المعرفة الناتجة عنه وفيه , لتنشله من بين ركام التقارير ( البيوطبية)وتجعله يساهم بكفاءة منقطعة النظير في ديمومة وصيرورة ذلك الكائن الجامح الساكن فيه لينتقل من حالة التملك الى حالة الكينونة . و تنشغل وتشتغل هذه المعادلة بصيغ وحدود تنشد الهوية والجمالية ( الوشم) ،والتي نوصفها هنا بعمليات( الحفر المعرفية) . وبالتالي فان الحفر على الجسد لا يقل إجهادا" وضراوة عن الحفر على الحجر بل يتجاوزه إذ يكشف عن وثيقة تاريخية ذات دلالات ابستمولوجية تتعدد بتعدد صيغها, من أكثرها تعقيدا" كحركة الدماء ونمو الأنسجة والخلايا وبكتيريا الأمراض المتعددة وديناميكية الجسد التي تلفظ كل ما هو غريب عن الجسد وان تقبلته أحيانا" لحاجتها الى ( قطع غيار جسدية ) الى اقلها تعقيدا" في ( الألم , الصراخ , اللذة , الضحك , البكاء , الجري , ... الخ ) وكلها صيغ يحتفظ بها الجسد في اللاوعي وتستدعي بواسطة قوانين فسيولوجية وبيوطبية صرفة لا علاقة لها بوعى الاخر أو بالأحرى ( العي الاخر ) الذي يقطن خارج الجسد ليراقب حركته عن كثب مرورا" بالدور المعرفي للخلايا حسب وظيفتها وسلامتها وموقعها وديناميكيتها تلك التي تتعامل معها الفسيولوجيا البيوطبية الشعبية تعاملا" تراثيا" خاصة في الحجاب والختان والرقص والهياج المتعمد وغيرها بغرض ترويض الجسد من خلال محاولة كسب ود وصداقة الخلية واسكيمتها التي لا تقبل الاعتراض أو التعليق حتى علم التشريح الحديث ولكن كلا ( المشرطين ) يمثلان خدشا" لتلك الفردية والخصوصية التي مثلت فيزياء الكائن البشري صاحب الجسد عن طريق حواسه وهي مواقع التأثير فيه ولهذا تلعب الفسيولوجيا البيوطبية دور ( النص) المقيد لحركة ( الخطاب ) وهكذا فان تلك الجلبة التي تحدثها تقارير ( ومشارط ) الفسيولوجيين والقانونيين واهل الاجتماع وهم رجال الحفر على الجسد والمكلفين برفع تقارير عنه تهدف الى ان تجعله سجينا" لطين الأرض ليقتات من دودها وواقعيتها دون ان تسمح له بأية محاولة للتعالي حتى على ذاته نحو الخطاب , وهو البعد الثاني له وفي مقدمته اللغة التي تنعش حالة فرديته وخصوصيته , ولكن الجسد يغافل الجميع ليكون وثيقة مكتوبة ومحفورة على حجارته ليكون حضارة الجسد التي تمثل درجة صفر الكتابة وبداية النحت على حرف الجسد..، هنا فقط بعد لحظة انتصاره الوحيدة حتى بعد موته حيث يصعب التمييز بين الجسد وخطابه كما صعب من قبل التمييز بين العقل والعته في عتمة ذلك التفسير الفسيولوجي البيوطبي ,ليبدأ هكذا زمن الكتابة زمن البهجة التي سخرت قبل ( جاسندي) بأمد بعيد جدا" سخرت من تلك الثنائية التي تنتصب قائمة في المشروع الديكارتي حيث لا يلتق الجسد مع خطابه إلا في موعد غامض مضروب في ( الغدة الصنبورية ) . فالخطاب إذن , أي اللغة ليست آمرا" مكتسبا" من خارج الجسد كما يقول الفيلولوجيين التطوريين , أو الفيلولوجيين الاجتماعيين بل طفرة تأتي من داخل الجسد من اسكيما الدم فيه , من الخلية , والأنسجة التي امتلأت ببكتيريا تحولت بموجب ميكانيكا وفيزياء الجسد الى حروف للكلام ومن ثم الى حروف للكتابة شكل الجسد أبجديتها ألام،
إنها المعرفة التي تدفع الجسد ليتجاوز ذاته محاولا التملص من قوانين مطبقة الشفاه وحوادث بلا تاريخ والتي يمثلها الجسد ذاته فيكون القاضي والمتهم , كيف لا , وهو
مؤسسة القانون , وفي الوقت نفسه سجينها التواق الى حرية النص كحجر للكتابة , فكل ما هو مكتوب على حد تعبير ( بيير كلاستر) مؤسس على قانون والجسد مادته الأولى أنها الكينونة التي من اجلها قدم الجسد نفسه كنص لا يقبل التأويل أو التحريف من خلال ( ثالوث الدم ) اعني ( الفسيولوجيا البوطبية – القانون – وعلم اجتماع الحواس ) وهي نفسها الكينونة التي دفعته أيضا" الى مشافهة الأخر من خلال الخطاب كحرارة للاتصال مشكلا" بذلك وعيا" متجاوزا" لذاته ( أي قوانينه) ليقرب المسافة الفاصلة ما بين عالم الجبرية وعالم الحرية والأخير تمثله اللغة افضل تمثيل
اسكيما الدم ..و النداء المحترق
ان الجسد كوثيقة مكتوبة لتاريخية الكينونة تمثل ( ابو خيه) عارمة يمثلها الجسد هذه المرة , لا الوعي بخلاف المقولة الهوسرلية , وكمحض اسكيما مكنتها ديناميكية الجسد ان تضع بين قوسين قوانين الجسد والأخر المواجه له ( القوانين والشرائع الموضوعة ) حتى لا تطال اللغة ( جنينه الشرعي ) والتي لا تتمثل استلابا" لفردية الجسد كما يفعل القانون ( فسيولوجيا" كان أم قانون وضعي أم عرف اجتماعي ) الذين أحاطوا الجسد بذلك السياج المقرف من العدمية , حتى اصبح تاريخ ذلك الصراع ما بين الجسد وكينونته تاريخيا" للمرض النفسي ومولدا" (للبيمارستان )على حد تعبير (ميشيل فوكو ) فالفصمام ما هو إلا صراع بين ألانا والأخر كما يذهب (فرويد ) في تحليله مع ( بروير ) لإحدى المريضات بالهستيريا – أو فوبيا الجسد كمرض السيكاثينيا وان كان ( فرويد ) قد فتح الباب على مصرعيه ليصل الى ( ملهاته أو مأساته الكبرى ) في إرجاع الوظائف العليا للإنسان لغريزة الليبيدو والجنسية التي جعلت ( اوديب ) الملك الإغريقي يقتل آباه ليتزوج امرأته وهو لا يعلم أنها أمه كما ان اسكيما الدم تلك المتجسدة في الدورة الدموية , اللعاب , الروائح الكريهة التي يفرزها الجسد , أو تلك الأنسجة التي تقطنها بكتيريا الجسد .. الخ , هي البنى التحتية الصامتة لكل ما نتوهم انه متعال أو متجاوز , لا بالمعنى الذي اعتنقه ( فرويد) أو علماء التحليل النفسي الذين كانوا ضحية النص ( قوانين الجسد) كما يشهد تفسير ( جاك لا كان) ( للرسالة المسروقة ) ( لادجار ألان بو ) ولكن بمعنى أنها كانت تمثل درجة صفر الكتابة ( رولان بارت) أي ذلك الباب الذي تركه الجسد مواربا" ما بين الخلية واللغة , ما بين الأنسجة وحرارة التواصل فما أنتجه ( دانتى وما يكل أنجلو وليوناردو دافنشي واسخليوس ) سلك اطورا" عدة ما بين فسيولوجيا اللغة وفسولوجيا الجسد ! حتى تصل الى تلك النظرة الجمالية والأدبية والشاعرية وغيرها من أساليب اللغة ودروبها التي كانت (محض حفرية على الجسد ) فأن ميكانيزمات الجسد، ( والمطرودة للغرابة من رواق الخطاب ) تذكرنا دائما بماضيها الدموي عندما كانت محض خلية ذات مدخل واحد تطورت حسب تفسير ( دارون ) الى الإنسان فكانت وكنا تلك الدودة , وذلك القمل، أي كما يذهب نيتشة في نصه الذي نادى فيه بانتصار الجسد و الميتافيزيقيا تحت أقدام ذلك البهلوان المغامر الذي سقط من على الحبل كما جاء ( في هكذا تكلم زرادشت ) فكان مثالا" عنده لشجاعة الجسد ورغبته الملحة في كتابة قصة موته حتى لا ينعاه الآخرون فنحن نقرأ الجسد ونفككه كمن يقرأ ويفكك كتابا" كما يذهب ( ميشيل برنارد ) الى ان يتطور ليكون طرقا" انثربولوجيا" حول حضارة الجسد وكتابته ( كالوشم والخضاب والحفر على الوجه والتحنيط وتعذيب الجسد وطقوسه , وحرق الهنود للجسد ليتحول الى مونادات محترقة يستحيل قراءتها أو لملمة حروفها ) كما أنها من ناحية أخرى هي القراءة التي سوف تحي فينا يوتوبيا البطل من خلال تشريعات ( حمورابي ) للجسد الآشوري ومن خلال ( فرعون ) مصر الذي وقفت مومياه منتصبة أمام الشمس كما يقول ( كتاب الموتى – وكتاب الملوك ) متمسكا" بصولجانه وقد امتلأت بالكتابات الهيروغليفية وهو ينشد الخلود .. وان كان الجسد نفسه قد غاصت بسمته منذ أمد بعيد وانطفأت أنواره الى الأبد
اسنادات
أويغن فنك : فلسفة نيتشة، ترجمة الياس بديوي، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1974
فتحي التريكي : الفلسفة الشريدة ، مركز الانماء العربي ، بيروت ، بدون تاريخ
محمد الكبسي : ميشال فوكو : تكنولوجيا السيطرة على الجسد ، سراس ، تونس ، 1994
كلود ليفي ستراوس : الانثربولوجيا البنيوية ، ت : مصطفى صالح ، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1977
يورغن هابرماس : القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1991
M. Foucault, La volonté` de savoir, Gallimard, Paris, 1976
M. Foucault, Surveiller et punir : naissance de la prison, Gallimard, Paris,
#ابوالقاسم_المشاي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟