|
وصمة عار وشعاع أمل:لبنى .. السودانية
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 2728 - 2009 / 8 / 4 - 08:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لماذا لا يتوقف العالم العربى عن الغوص فى مستنقع التخلف؟ ولماذا يزخر بهذا العدد الغفير من الدكتاتوريين، بينما لا يتمتع إلا بالنذر اليسير من حقوق الإنسان؟ ولماذا ينتشر به التعذيب والترويع وتتفشى فيه هذه المعدلات الرهيبة من الأمية؟ ولماذا دأب هذا المكان – الغنى بالنفط – على إنجاب الملايين من السكان الذين يعانون من سوء التعليم وسوء التغذية.. ووطأة الفساد؟ *** هذه الأسئلة الموجعة، يزداد ألمها عندما نعرف أنها وردت على لسان الكاتب البريطانى الشهير روبرت فيسك، فى سياق مقال مهم نشرته له صحيفة "الاندبندنت" يوم 28 يوليو الماضى تحت عنوان لا يقل كآبة هو: "لماذا لا تزال الحياة فى الشرق الأوسط تضرب بجذورها فى العصور الوسطى؟" ولو أن كاتباً أجنبياً آخر، غيره، طرح هذه الأسئلة بهذه الحدة لاتهمناه بالغطرسة الغربية واحتقار العرب. لكن روبرت فيسك – كما نعرف – مراسل صحفى مخضرم، يعرف المنطقة العربية جيداً، ربما أكثر من كثير من الصحفيين العرب، ناهيك عن أنه يعرفها أكثر من كل المراسلين الأجانب، والأهم أنه الأكثر نزاهة من بينهم جميعاً، ويكفى أن نتذكر أنه لم يتردد فى أن يوجه أصابع الأتهام إلى بلده – بريطانيا – وحليفتها الاستراتيجية – الولايات المتحدة الأمريكية – باعتبارهما المصدر الرئيسى للشر فى العالم خلال المائة سنة الأخيرة، والسبب الأساسى لمعظم مصائب العرب من المحيط إلى الخليج، وبالذات منذ اغتصاب فلسطين وزرع إسرائيل فى قلب المنطقة. أى أن الرجل ينتقد الأوضاع فى المنطقة العربية من منطلق حبه لشعوبها وتضامنه مع أهلها، حتى ضد سياسات حكومة البلد الذى يحمل جنسيته. وهو فى مقال "الاندبندنت" المشار إليه لا يتخلى عن تحميل الغرب الاستعمارى مسئولية تخلف العرب، ويؤكد ذلك فى مقدمة هذا المقال عندما يقول "نعم.. أنا أعرف تاريخ الاستعمار الغربى، وأعرف المؤامرات التى دبرها الغرب تحت جنح الظلام، وأعرف أيضاً الحجة العربية القائلة بأنه لا يمكنك مناوأة الملوك والشيوخ والأوتوقراط العرب بينما "العدو على الأبواب"، فى إشارة ضمنية إلى إسرائيل. لكنه يستطرد هذه المرة قائلاً "إن هناك بعض الحق فى ذلك كله .. لكنه ليس كل الحق". أى أنه بدأ يولى اهتماماً أكبر للأسباب الداخلية للتخلف الذى يبقى العالم العربى فى غياهب القرون الوسطى. ويعبر عن ذلك بقوله "أظن أن المشكلة الرئيسية التى توجد فى عقل العرب أنهم لا يشعرون بأنهم أصحاب البلد ..". وأياً كان ما يقوله روبرت فيسك فإن الحقيقة المرة – سواء قالها هو أو لم يقلها – هى أننا نعيش بالفعل فى القرون الوسطى، بينما يشهد العالم ثالث ثورة فى تاريخ البشرية، بعد ثورة الزراعة وثورة الصناعة، ألا وهى ثورة المعلومات. وتعالوا نلقى نظرة خاطفة على عالمنا العربى.. فماذا سنجد؟ سنجد أن أكبر معدل للأمية فى العالم يوجد فى بلاد العرب، كما يوجد أكبر معدل للبطالة، وأكبر معدل للفقر، وأكبر قابلية للاستبداد والاستعمار. ألا يعنى وجود هذه المعدلات القياسية المتخلفة، فى وقت تنطلق فيه البشرية فى كل قارات الدنيا إلى آفاق ثورة المعلومات، دليلاً دامغاً على أننا تفوقنا على أنفسنا فى سرعة الاندفاع إلى ظلام العصور الوسطى؟! واذا تركنا الوقائع المادية وذهبنا إلى الجانب الفكرى لن نجد فى العالم بأسره دولاً تعادى الحداثة مثلما تفعل الدول العربية. لقد دفعت البشرية ثمنا باهظاً للخروج من جحيم العصور الوسطى التى شهدت هيمنة الكنيسة على البلاد والعباد فى أوربا. ولم يكن هذا الخروج ممكنا إلا بفصل الدين عن الدولة والمدرسة وإعطاء ما لقيصر لقيصر ومالله لله. وكان هذا هو السبيل إلى دخول عصر النهضة وبناء الدولة المدنية الحديثة التى تقوم على القانون لا على الفتوى، والمواطنين لا الرعايا. أما نحن العرب فنسير عكس حركة التاريخ، حيث نتسابق فى تدمير المكتسبات القليلة التى حققها آباؤنا وأجدادنا بالدم والدموع والعرق والتضحيات الجسام لوضع لبنة الدولة المدنية. وها نحن نهرول نحو إقامة الدولة الدينية القائمة على ولاية الفقيه وتسييس الدين وتديين السياسة التى هى دعائم العصور الوسطى. ومن يرى مبالغة فى ذلك ندعوه إلى رحلة إلى السودان الشقيق ليس للسياحة أو المشاركة فى "ونسة" سودانية حميمة، وإنما لحضور أغرب محاكمة يمكن تخيلها فى القرن الحادى والعشرين، هى فى الحقيقة محاكمة لا مكان لها سوى فى العصور الوسطى إلى جوار محاكم التفتيش سيئة الذكر والسمعة. *** محكمة تفتيش القرن الحادى والعشرين السودانية تمثل أمامها لبنى أحمد الحسن، تذكروا هذا الأسم جيداً، وهى صحفية شابة تكتب فى جريدة "الصحافة" ولديها عمود ثابت عنوانه "كلام رجال". وهى من الأقلام الشابة والتقدمية فى الصحافة السودانية الحديثة. أما تهمتها فهى ارتداء "البنطلون"، أى والله العظيم .. البنطلون، الذى اعتبرته الشرطة القائمة على تنفيذ قانون النظام العام "خطراً على المجتمع وقيمه السمحه"، لأنه بمثابة زى "يخدش الحياء والذوق"، وهى تهمة عقوبتها "الجلد" أربعين جلدة بشكل علنى وفقاً لنص المادة 152 من القانون الجنائى السودانى لعام 1991. يحدث هذا فى بلاد العرب فى عام 2009، بعد أربعين عاماً من هبوط الإنسان على القمر، وبعد عقود من صدور عهود ومواثيق حقوق الإنسان التى تحظر عقوبات الايذاء الجسدى، وفى مقدمتها الجلد بطبيعة الحال، كما تحظر التدخل التعسفى فى الحياة الخاصة لأى إنسان، أو فى شئون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته.. ناهيك عن ملبسه!! ومن لا يريد أن يذهب إلى السودان ليشاهد هذه المهزلة على الطبيعة يكفيه أن يفتح موقع جريدة "سودانيز أون لاين"، العدد 25، ليقرأ على الإنترنت التقرير المثير لشاهد العيان "حمور زياره" الذى ينقل هذه الوقائع المذهلة ثانية بثانية وكأنه يقودنا فى "آلة الزمن" للعودة من المستقبل إلى القرون الوسطى، لكنه يعطينا فى نفس الوقت بصيصاً من الأمل، حيث ينقل لنا وقائع المواجهة البطولية لهذا التخلف الرهيب من قبل هذه الفتاة الرائعة، ومحاميها المحترم نبيل أديب الذى يمثل فى الحياة القانونية السودانية مكانة القديس نبيل الهلالى فى ساحة العدالة المصرية. ومن هذه الوقائع المشرفة رفض لبنى أحمد الحسن حصانة الأمم المتحدة التى تعفيها من المحاكمة، وكذلك رفضها صفقة الدكتور محيى الدين تيتاوى رئيس اتحاد الصحفيين السودانيين لشطب البلاغ مقابل تعهدها بعدم تكرار ارتداء ملابس مماثلة، ورفضها عفوا رئاسيا يرفع الحرج الدولى عن النظام ويبقى القوانين الشاذة. كل هذه التسويات والحلول الوسط ترفضها "لبنى" وهيئة دفاعها الواعية، وتصر على أنه لا حل سوى إلغاء القوانين المقيدة للحريات ووقف التغول على خصوصيات الناس وابتزازهم وإذلالهم عبر القانون باسم الدين والشريعة، وهى مستعدة للمضى إلى نهاية المشوار حتى لو تعرضت للجلد مثلما حدث لآلاف السودانيات على يد نظام بلاعقل ينتمى إلى العصر الحجرى. وهذه نقطة ضوء، وطاقة نور، تأتينا من الجنوب، تشد أزر كل الرافضين لاستمرار غوص العالم العربى فى مستنقع التخلف والوصاية على خلق الله.. علماً بأن "لبنى" ليست حالة فردية سودانية وإنما هى ظاهرة عربية.. لها تجلياتها المتنوعة بشكل أو بآخر فى هذا البلد العربى أو ذاك.
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة سريعة في تقرير محترم (1)التقرير السنوي السادس للتنافسي
...
-
ما رأى بشير عقيل؟!حسنة وأنا سيدك!
-
مروه.... -النوبية-
-
أيها المصريون: اعقلوا قليلا!
-
جنيه 2005 العجيب
-
وصف مصر بالمعلومات
-
دماء على أرض مصر
-
مفارقات القبض علي عبدالمنعم أبو الفتوح!
-
بعد رواج مزايدات المتاجرة بدماء مروة الشربيني متي نعلن الحرب
...
-
لماذا رفض -غالى- مناقشة قضية -مروه-؟!
-
مال.. وصاحبه غائب!
-
ازدواج المعايير .. وازدواج الشخصية
-
الإصلاح الزراعي... الثاني 1 2
-
التطبيع .. وسنينه
-
خطاب ليس ككل الخطابات »2«
-
خطاب ليس ككل الخطابات (1)
-
الحرب الأهلية الصحفية .. الجديدة!
-
اقتصاد المعرفة: سلاح الأغنياء وأمل الفقراء (1)
-
اقتصاد المعرفة: سلاح الأغنياء وأمل الفقراء (2)
-
»الخصخصة« و»الفلفصة« »1«
المزيد.....
-
الصليب الأحمر يتسلم المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وجادي
...
-
القناة 13 العبرية: وصول الاسيرين يهود وموسيس الى نقطة التسلي
...
-
الكنائس المصرية تصدر بيانا بعد حديث السيسي عن تهجير الفلسطين
...
-
وصول المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وغادي موزيس إلى خان ي
...
-
سرايا القدس تبث فيديو للأسيرة أربيل يهود قبيل إطلاق سراحها
-
سرايا القدس تنشر مشاهد للأسيرين -جادي موزيس- و-أربيل يهود- ق
...
-
قائد الثورة الاسلامية يزور مرقد الإمام الخميني (ره)
-
خطيب المسجد الأقصى يؤكد قوة الأخوة والتلاحم بين الشعبين الجز
...
-
القوى الوطنية والاسلامية في طوباس تعلن غدا الخميس اضرابا شام
...
-
البابا فرنسيس يكتب عن العراق: من المستحيل تخيله بلا مسيحيين
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|