لا بد لي من الاعتراف بأن الكتابة حول الشأن الكردي مدعاة للمجازفة، وكأن المرء يسير على حد السيف، لأن الكرد لا يزالون يحيطون شأنهم القومي بغلالات لاهوتية، الامر الذي من شأنه ان يجعل من اية مقاربة حوارية لهذا الشأن وكأنها اقتراب من تخوم المقدس الديني وانتهاك لمطلقيّته الصمدية.
الكرد شعوب جبلية، تمنحهم ظروفهم الطبيعية والمعيشية، بنية جسدية وسيكولوجية صلبة، قوية، مقاتلة. ان تماسهم المباشر مع طبيعة جبلية قاسية، حادة لا يسمح للخيال ان يحلق بعيدا وراء الغيبيات، ومجاهل الماوراء، بل يضع المرء في مواجهة حسية مباشرة مع صفحة الوجود، دون البحث عن الوسيط الميتافيزيقي، كما في الحضارات الزراعية السهلية والبحرية، حيث طراوة سيكولوجيا الحضارة الطينية تجعل الذات البشرية مرتعا خصبا لاسئلة الغيب ومتاهاته ومجاهيله.
هل نستطيع - تأسيسا على هذه المقاربة الوصفية - القول: ان البنية المعرفية اللاشعورية الكردية تتأسس على علاقة حسية مباشرة مع الوجود، وجود جبلي يعبر عن خصوصيته الجبلية هذه نزوع عميق للتموضع في المكان، عكس الحضارات النهرية (ما بين النهرين) حيث الهجرات، الغزوات، الحروب، او البحرية حيث التجارة، والاساطيل، والموانئ، وعكس الحضارة الصحراوية، التي هي حضارة تنقل، وبحث عن الماء والكلأ؟ والا ما معنى هذا الاستقرار والتوحد والانعزال في عالم الجبال العصية على التنقل والانتقال ومن ثم التفاعل والفعل والانفعال؟
هذا التكور على الذات، المتوحد في المكان ومعه، لعصيان الجغرافيا، المؤسس لعلاقة حسية خاصة مع وجود خاص، ربما يفسر سر عدم التعصب الديني عند الكرد، وربما يعلل حلول العصبية نحو المكان والهوية محل التعصب الديني تاريخيا. فالكرد لم يخلّفوا تراثا فقهيا او كلاميا، او دينيا، او ادبيا وفلسفيا لا في اللغة الكردية، ولا في اللغة العربية التي تمثل الوعاء الحضاري للتعدد الثقافي والاقوامي الاسلامي، فهم لديهم ملال وطرق للدروشة والتصوف والدعوة الى الانكفاء على الذات الفانية، والانسحاب من العالم. ومع ذلك فالملالي لا يمثلون حضورا فاعلا ومؤثرا وقائدا في حياة الكرد، فالزعامة للجغرافيا، ولمن يملك مساحات اوسع من الجبال والاراضي، ومن يملك القوة لحمايتها والسيطرة عليها وعلى الآخرين، ولعل هذا ما يفسر لنا تميز تاريخ الكرد بأنه تاريخ عسكري، تاريخ يتناوبه عنفوان "البيشمركه"، واستسلامية الملا الصوفي. فعندما تغرق الجبال بدماء الفرسان المتمردين، تصمت الجبال وتبدأ تسابيح غفران الملا والدعوة الى الزهد، حتى تبدأ من جديد جلبة اصداء الحديد، والعودة من جديد الى القتال، ومن ثم اللوذ بالصمت، عندما تروى الجبال بدماء الفرسان. اما آن للأكراد ان يخرجوا من هذا النسق الحتمي الذي يشبه اللامقعول بعبثيته التاريخية او اللاتاريخية؟
التموضع في المكان والانتماء الى ذات متوحدة في عزلة عصيان الجغرافيا، يجعلها اسيرة الانتماء الى الهوية، الهوية في هذه الحالة - مرحلة ما قبل القومي البورجوازي المدني - تغدو هوية اهلية عتيقة تنتسب الى الجد، ورابطة الدم.
ومنظومة الوعي التي تتأسس على منظومة انتماء كهذه لن تنتج الا ما يشبه الوعي الديني، الذي كان يلامس الذات الكردية ملامسة خارجية، فجاء الوعي القومي ليتطابق مع ذات (اقواميه) اهلية، عضوية، تتأسس على رابطة الدم، وليس وعيا (مواطنويا) يتطابق مع ذات تنتمي الى امة، مدنية، تتأسس روابطها على علاقات سوسيولوجية (طبقية - حزبية - نقابية) ولهذا ظلت الاحزاب الكردية هي حزب العائلة، والعشيرة، والقوم، والمنطقة، والجهة، فالأقوى وفق التوصيفات السابقة، هو الفاعل والمؤثر، بينما الاحزاب الحداثية التي تطمح الى تنضيدات سوسيولوجية حديثة، خارج الدائرة العضوانية العصبية العتيقة، لا تتمتع بأي حضور لافت.
ما الذي يفيدنا من هذه الممهدات النظرية؟
ان ما يفيدنا، ان الوعي القومي الكردي لم ينتقل بعد الى مرحلة اعادة انتاج صيرورية للذات، وذلك لا يتأسس الا على وعي نقدي حديث، عنوانه الكشف الدائم لا عن "الامجاد والمآثر القومية" بل عمّا يسميه عمر فاخوري الكشف عن "الرذائل القومية"، وخوض معركة نقدية لا تتوقف عند الصحيح، الا لتكتشف الخطأ، عندها يمكن الشأن الكردي ان يخرج من حيّزه الكردي، ويتحول شأنا عاما اقليميا يعنى به العربي والتركي والفارسي، دون حذر ووجل من جانب المعني بهذا الشأن بأنه يتدخل في ما لا يعنيه، وانه يتدخل في الشأن الداخلي للآخر، وأنه اذا تفوه برأي مخالف للبداهات الكردية، تشن ضده اشرس الحملات!
يستطيع الكاتب العربي ان يندد بالوجود الاميركي في الخليج العربي ويشجبه، ويحمّل الانظمة الحاكمة مسؤولية هذا التواجد، ويندد بمواقفها علنا، ولكنه لا يستطيع نهائيا ان يقترب من كردستان شمال العراق، ليندد بهذا الوجود الاميركي، من خلال المظلة الاميركية، عندها ستغدو عدوا لقضايا الشعوب وليس للقوات الاميركية!
والكرد في معمعان تنويههم بالذات القوموية الظفروية - وفق تعبيرات ياسين الحافظ وهو ينتقد الفكر القومي العربي - ينسون وحدة الكيان التاريخي لكردستان، المبرر الاساسي لدعواهم القومية، وذلك عندما لا يرف لهم جفن قومي وهم يجعلون من انفسهم سندانا للمطرقة التركية وهي تطبق على اخوانهم (القوم الاكثر في تركيا) حزب العمال الكردي (PKK) الذي غدا القوة الاكبر في الساحة الكردية، وهو الحزب الوحيد الذي استطاع ان ينتج زعامة شعبية (عبدالله اوج الان) لا تستمد مسوغات (كارزميتها) من هوية عتيقة (قبلية - عشيرة - عائلة)، بل تمكن من انتاج مفهوم حديث للمواطنة يتأسس على كيانية الامة، وليس عضوية الانتماء الدموي للجامعة المغلقة التي لا ترى في القومية الا ما يشبه الدوغما العقائدية الدينية، والتي لا تقبل اي نقد او حوار، انطلاقا من ان الحوار يفتح الابواب واسعة امام النسبي، والادلوجة العقائدية القومية المنطوية على وهم اكتمالها المطلق، ترى في النسبي مساسا بمقدس العصبية الذي يوضع في خدمة مصالح مديري المقدس السياسي، حيث تحل رابطة العصبية القبلية، والانكفاء على ذات متوضعة بالمكان، محل رابطة الامة والمواطنة. والا كيف يمكن ان يفهم ان يكون كل قوم في كل اقليم من اقاليم كردستان في صراع مع الآخر، لكون كل واحد مؤيدا ومدعوما من جانب نظام الطرف الآخر، حتى يصل التناقض حد التواطؤ، كما يحدث اليوم في كردستان شمال العراق.
ان المحرض على هذه المداخلة، هو الكتاب الصادر لاحد مؤسسي الحركة السياسية الكردية في سوريا، الاستاذ عبد الحميد درويش الامين العام للحزب الديموقراطي التقدمي الكردي في سوريا، تحت عنوان "اضواء على الحركة الكردية في سوريا".
ان اهم ما في الكتاب ليس المادة المعلوماتية الغزيرة التي يقدمها المؤلف "الامين العام" وتلك الصور الحية التي يجيد صياغتها الفنية، السردية والتعبيرية، قلم المؤلف وهو يروي تاريخ علاقته بالحركة الكردية في اقاليم كردستان الثلاثة (العراق - تركيا - ايران) فحسب، بل تلك الرؤية النقدية الرهيفة لتاريخ الحركة ومواقفها على المستويين الداخلي والخارجي، مما يشير الى نضج في الرؤية والتفكير تتكون في فضاءات الحركة السياسية الكردية. فالكتاب لا يسرد انجازات وانتصارات وبطولات لا لصاحبه ولا للحركة السياسية التي كان يقودها، مما يومئ الى نزعة اخلاقية تتجلى فيها النزاهة والتواضع والاخلاص.
وهذه الرؤية النقدية تتقاطع مع ما ذهبنا اليه من ضرورة نقد قصور الوعي الكردي في امتلاك وعي مواطنوي بكينونة الامة، تكون فيه الهوية متطابقة مع ذات الامة، لا مع ذات الملة، مع ذات تاريخانية في طور الصيرورة، لا مع ذوات ساكنة ثابتة، مذررة ومشتتة في اشكال كتل سديمية، تؤسس على رابطة الدم، لا على رابطة المواطنة، ومجلى ذلك في هذا الحوار بين الكاتب - الامين العام درويش - الموفد الى كردستان ايران للالتقاء بقائد الحزب الديموقراطي الكردستاني في ايران الدكتور قاسملو بهدف ايجاد التعاون بين القوى والاحزاب الكردية والكردستانية.
فعندما يعرض المؤلف الاستاذ درويش رأيه كقائد حزب في خيارات النضال المطروحة امام قائد الحزب الديموقراطي الكردستاني - ايران، بأن الاجدى استبدال النضال المسلح بالنضال السياسي وذلك في بداية الثورة الايرانية، معددا الاسباب الداعية لهذا الخيار ومنها قول عبد الحميد درويش لقاسملو: "في كردستان العراق ثورة كردية اندلعت منذ تسعة عشر عاما وقادة هذه الثورة او قسم منها يتعامل مع النظام الايراني ضد حكم بغداد، وانتم الآن تتعاملون مع النظام العراقي ضد حكم طهران، افلا يشكل هذا تناقضا بين الثورتين؟... فهم يريدون اسقاط حكام بغداد، في الوقت الذي تقيمون معهم علاقات التعاون، وتريدون اسقاط النظام الايراني ويقيمون هم علاقات التعاون معه!! - الكتاب (ص 247).
امام هذا التساؤل لا يتردد الدكتور قاسملو ان يرد بانفعال وتوتر، بأنهم يعلمون ما يفعلون، وان الشعب الكردي برمته معهم، ويطالب المؤلف ان يبلّغ اصدقاءه، (جلال الطالباني وادريس البارزاني) ان يتخلوا عن الكفاح المسلح فلم يبق مع كل منهم اكثر من مئة شخص، وجُرِّدوا من كل تأييد شعبي، وبذلك اصبحوا عالة على الثورة (ص 228).
تلك هي صورة ميكروسكوبية مكثفة تكشف عن الآلية التي تحكم العلاقات التناحرية بين الاطراف الكردية، فقاسملو مرتبط ببغداد التي يقاتل البارزاني ضد نظامها، والبارزاني مرتبط بطهران الى حد الولاء الذي يدفعه لرفع صورة الشاه على جدار غرفة جلوسه الشخصي...(ص 140).
بل يكشف لنا الكتاب عن تعاون وثيق بين المسؤولين الاتراك وقيادة الثورة الكردية في كردستان العراق (ص 131) يبلغ حد التعاون على تصفية سعيد آلجي سكرتير الحزب الديموقراطي الكردستاني في تركيا، على يد شفان المنشق عن الحزب، والملتحق بثورة البارزاني، فعملية التصفية والأمر كذلك، انما قدمت قربانا لإرضاء الأتراك، حيث تمت تصفيته مع اثنين من رفاقه عام ،1971 في كردستان شمال العراق على يد شفان الملتحق بالبارزاني بذريعة انه كان يمينيا، لكن الكاتب يؤكد ان الاستخبارات التركية (الميت) كانت وراء اغتيال سعيد آلجي، وكانت تتعقبه منذ زمن بعيد، وتتحين الفرص السانحة للتخلص منه، وهكذا كان حيث تمت تصفيته بأيدي خونة من ابناء شعبه... (ص199)، الامر الذي من شأنه ان يرتب بين الحزب الديموقراطي الكردستاني التقدمي (سوريا) والبارزاني قطيعة دامت سبعة عشر عاما، بسبب بيان الاكراد السوريين المندد بالعملية، حتى تمت المصالحة عام 1988 مع مسعود البارزاني في دمشق (ص200).
امام هذه المواجهة النقدية مع الذات التي يقوم بها احد رواد الحركة السياسية الكردية، الاستاذ عبد الحميد درويش، هل ستدخل الحركة الكردية مرحلة جديدة من الشفافية والقدرة على التعايش، والتعدد وقبول الآخر، عبر الارتهان لشرعية الفعل في الداخل، وليس الارتهان لمشيئات خارجية طالما اساءت الى القضية، وادت الى دفع إتاوات جسام لحساب الآخر، ومن الدم الزكي لهذا الشعب الشجاع؟!
هل آن الأوان امام كل هذه الإتاوات التي قدمها هذا الشعب الباسل، كي يغدو رافعة ركنية من روافع العمل الديموقراطي في كل الدول التي يعيش فيها الأكراد (تركيا، ايران، العراق، سوريا) كما يدعو عبدالله اوج الان ويأمل في مرافعاته الاخيرة في سجنه؟
هل يمكن الاكراد السوريين بعد هذه المراجعة النقدية التي قدمها الامين العام عبد الحميد درويش ان يتحولوا قوة فعلية من قوى المجتمع المدني في سوريا، من اجل مستقبل سوريا الديموقراطية كما يحضهم زعيم PKK اوج الان؟
(حلب)
ــــــــــــــــــــــــ
كاتب سوري |