سيار الجميل
الحوار المتمدن-العدد: 830 - 2004 / 5 / 10 - 05:16
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
مقترحات ومعالجات ارتكازية .. من اجل استعادة العراق وتطوره
لقد عرفنا مما سبق تحليله والكشف عنه في عدة مقالات نشرناها منذ اعوام مدى شراسة التخريب الذي مورس على العقل العراقي في جانب واحد وخطير من جوانبه الاساسية .. وان مجرد الوقوف هكذا نولول ونبكي على العادة العراقية المألوفة سوف لن ينفعنا بشيىء من الاشياء ابدا . وعليه ، اناشد كل الاخوة المفكرين والاكاديميين العراقيين ان يقدموا مقترحات وعلاجات رصينة وعلمية ويخرجوا من اطار الخوف ومضامين الرعب .. فالعراق واجياله بحاجة ماسة الى بناء عقليات جديدة تبتعد كثيرا عما هو مألوف وسائد اليوم من مخلفات عهد مظلم طويل سادت فيه كل الغوغائية والزيف والاكاذيب المفبركة والمطولات والمدائح وكيل الشتائم ضد الاخرين من دون سبب حقيقي مقنع والابتعاد عن الميول الحزبية والعواطف السياسية والايديولوجية وخصوصا في استعادة التفكير العلمي الذي افتقد لزمن طويل .. ان الاجيال الجديدة لا يمكنها ان تبقى ضمن الاسيجة التي بناها صدام حسين واحاط العراقيين بها من كل الجهات باسم المبادىء القومية الشوفينية والعقيدة البعثية الاحادية واستخدام الدين كما يريدونه استخداما شريرا وبليدا وطائفيا ..
نحن اقدر على فهم التغيير
الحقيقة انني اشارك الكاتبة كريستينا اسكويوث في مقالتها " اصلاح مناهج التعليم العالي : حانت لحظة تقليب اوراق التاريخ " التي نشرتها في جريدة " كريستيان ساينس مونيتور " في الشهر المنصرم عندما قالت : " الشاهد ان هذه النسخة المنقّحة من مقرر التاريخ ، انما تؤكد تلك التحديات السياسية الكبيرة التي تواجهها السلطة العراقية المدعومة من قبل الولايات المتحدة الامريكية ، والى جانبها كافة المجموعات اللاربحية والخاصة المسؤولة عن كل شيىء تقريبا ، بدءا من اعادة بناء المدارس ، وحتى تدريب المعلمين ، وصولا الى تنقيح المناهج التعليمية العراقية . وفي الوقت الذي لا يريد فيه المستشارون الاميركيون ان يظهروا بمظهر من يملي على العراقيين نظرتهم وتفسيرهم للتاريخ ، فهم في الوقت ذاته ، لا يريدون لهذا التاريخ ان يتخذ مظهر العداء السافر للولايات المتحدة الاميريكية ، او ان يطغى عليه نفس التشدد الديني والراديكالية المتطرفة " .
نعم ، لابد من التغيير النوعي في كتابة التاريخ عند العراقيين ولكن ضمن شروط عراقية وعلمية ربما له القدرة على الاستفادة من كل المدارس المعاصرة من دون ان تكون امريكية مئة بالمئة .. واتمنى ان يتم التغيير على ايادي عراقية وبعقل عراقي مستحدث ولا غرابة ان قّدم العلماء من كل العالم المتقّدم رأيهم ومشورتهم في استعادة بناء المناهج التعليمية والنقدية . لقد كانت النظرة البعثية والسلطوية بالذات للتاريخ العربي أحادية وشوفينية وغير منهاجية ولا نقدية ابدا .. وعندهم لا تاريخ يعلو على تاريخ العرب .. ولا جنس يعلو على جنس العرب .. ولا حضارة تعلو على حضارة العرب .. ولا خلود وامجاد الا لتاريخ العرب .. ولا انتصارات في التاريخ الا للعرب .. ولا رجولة وشجاعة وخصال الا للعرب .. الخ انها عملية فاشية برمتها واشعار رسمي من اعلى قيادة في البلاد ان العرب هم كل شيىء في تاريخ الانسانية والبقية مجرد رعاع منحطين وجهلة وظلاميين من الدرجة العاشرة في سلم التاريخ !
انه تقليل من شأن بقية العراقيين اولا بابراز بطولات للعرب وحدهم وكأن لا وجود لاجناس اخرى وانواع اخرى واصناف اخرى من البشر ! بل وتم تزييف تاريخ الاخرين من دون العرب .. فالايرانيون كلهم فرس مجوس في النظرة البعثية .. وصلاح الدين عربي ليس كرديا في النظرة البعثية .. ونبوخذ نصر عربي اصيل من عشيرة ( البو ناصر ) وتاريخنا الاسلامي كله مجرد تاريخ للعرب لا شراكة للاخرين فيه ابدا !! ان هذا العهر الشوفيني السياسي باستخدام التاريخ وتشويهه من قبل صدام حسين يعكس بما لا يقبل مجالا للشك ان الرجل لم يكن عربيا اصلا ، فلدي معلومات جد نادرة تثبت بأن صدام حسين قد ولد في بلدة الشويش قرب كركوك وليس في قرية العوجة قرب تكريت !!! وساحاول اثبات ما توصلت اليه تاريخيا من معلومات قبل ان انشر ذلك على الملأ ، فهو – كما يبدو - من فضلات بقايا جماعات مهاجرة من احدى اصقاع آسيا الوسطى في فترة تاريخية حرجة ومعينة من حياة العراق الحديث .
ماذا يمكننا ان نفعل ؟
حتى لا نعطي الذرائع للامريكيين في تكريس او وضع مبادىء لكتابة التاريخ في العراق ، أهيب بكل الزملاء والاخوة من المؤرخين العراقيين العلماء الشرفاء الذين لم يتلوثوا بالفاشية او يمارسوا القمع الفكري او التزمير الاعلامي او الادلجة بمختلف طوائفها والذين لم تكن لهم ارتباطاتهم باجهزة النظام الخاصة .. ادعوهم اليوم وبعد زوال عهد الطاغية ونحن في ظل الاحتلال ان يكونوا مدركين حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم ازاء مهام غاية في الاهمية والخطورة ولكنها نبيلة من خلال تحرير مناهج عراقية جديدة وخصوصا في العلوم التاريخية وتخليصها من اي نزعة فاشية ومن اي فبركة سياسية ومن اي عفونة حزبية ومن اي تزويرات سلطوية ومن اي تقديسات قومية وللبطل القومي .. الخ ومن تلك المهام الاساسية الالتفات الى الاخذ بالمرتكزات المقترحة التالية :
ثمة مهمّات ومرتكزات اساسية
اولا : المحذوفات
حذف فصول كاملة من الكتب والمقررات الدراسية السابقة او كل مضامين الفصول السابقة وتبديلها بمواد معرفية موضوعية متوازنة وحقيقية . واجراء تنقيحات متأنية وشاملة للمقررات الدراسية الحالية وهي عملية ليست هيّنة ابدا ، بل انها بحاجة الى ان تستغرق حتى نهاية العقد الحالي . ان هذا " المشروع" الحيوي بحاجة الى اقرار كتب منهجية عراقية جديدة ومتطورة تخضع تآليفها للتقويم العلمي المقارن بمدارس معاصرة ومتطورة .
ثانيا : اهمال ما انتجه العهد السابق
ان الحاجة الماسة تدعو الى تجاهل اية اصدارات وكتابات ومنشورات عراقية كانت بالالاف المؤلفة كالتي نشرت على منهج النظام القديم والقائم على مبادىء الالغاء والقسر والنفي للاخر ، والتقليل من شأن الاخر فضلا عن مهمته في زرع كراهية الاخر وخصوصا الجيران .. ويمكن ان نجد نماذجها متوزعة في مضامين المقررات التربوية والجامعية وفي التآليف التي كانت السلطة من وراء انتاجها .
ثالثا : اعادة تقويم الاعمال الهزيلة
وهناك ايضا ضرورة اساسية واستباقية عراقية من اجل اعادة تقييم اعمال وشهادات وترقيات كل ذلك النفر من العراقيين الذين استغلوا مناصبهم وعلاقاتهم وسلطاتهم في الحصول على امتيازات وشهادات عليا ودرجات وترقيات علمية لا تتناسب وامكاناتهم الهزيلة ومنتجاتهم الضحلة . واقترح وضع اسس جديدة لابد من اجتيازها ، ويمكن الاستعانة باسس جامعات اخرى وخلال سقف زمني محدد لتصفية كل من يقف في طريق التقدم العلمي في العراق .
رابعا : اعتماد المكونات العلمية واللغوية
وثمة مبدأ او عدة مبادىء اساسية تطالب وتناشد المءسسون الجدد : الابتعاد بالجيل العراقي الجديد عن الاحكام الدعائية وعن الدعايات الانشائية وعن كل الحشو والتكرار والسذاجة والاطناب .. وعن كل ما كان مقررا في السابق من المتداولات في الاعراف التي كانت تسود كل من الدولة والمجتمع ومزاولة نقد كل ما يدعو الى نقد تجارب العهد وآلياته ووسائله في هذا المجال ، فضلا عن اشاعة روح النقد والمشافهة وحسن التعبير والاداء باستخدام لغوي وفكري افضل .
خامسا : القضاء على المصطلحات والتعابير القديمة
الابتعاد نهائيا عن جملة هائلة من المصطلحات والتعابير التي استخدمها البعثيون او انهم اجبروا على استخدامها واغلبها تعابير شوفينية في كتابة التاريخ وقراءته وخصوصا تاريخ العرب والمسلمين ، فالقاموس البعثي يحتوي على تعابير معينة ومفاهيم نابعة من صلب ايديولوجية مضطربة لم تعد تحمل رومانسية ميشيل عفلق واقرانه كما كانوا قد رسموها بتأثير البعث الايطالي او النازية الالمانية ، بل غدت تحمل كل بصمات صدام ومضحكاته !
سادسا : الشفافية والصراحة
لابد ان يتعوّد ابناؤنا منذ اليوم على ان يتكلموا ويكتبوا بصراحة متناهية وان يشعروا انهم اليوم احرارا وان يبدوا اراءهم علانية من دون خوف او وجل وان يخرجوا من دوامة الرعب التي كبلوهم به عشرات السنين .. فالجهر بالصراحة والحق في المنتديات العامة وفي الكتابات المعرفية سيزيد من قوة المعرفة العراقية باساليب تختلف عن لغة العلاقات السلطوية والاوكار الحزبية التي تخفي عكس ما تعلن ، وان اعلنت ، فهي تنافق ولا تواجه !!
سابعا : تركيز على الادوار الحضارية والمعاصرة
لابد ان يغدو منهج تدريس التاريخ في المدارس العراقية مركّزا على الادوار الحضارية والاجتماعية ودور العراق منذ القدم في بناء الحضارة الانسانية باعتباره مهد حقيقي للانسان فضلا عن انفتاح العراقيين على تواريخ الامم الاخرى .
ثامنا : التفكير العراقي المدني
لابد من استعادة المناهج التعليمية العراقية انفاسها ضمن تفكير مدني لا يمكن ان تخذله اية نصوص سياسية او شعارات مؤدلجة اذ كانت مناهج العراقيين على مدى تسعين سنة مناهج مدنية معلمنة نجحت في انتاج جيلين حديثين ونخب مثقفة وابداعية ومتخصصة منذ 1908 عند تأسيس اول كلية عراقية للحقوق وحتى العام 1968 عندما صودر التفكير السياسي والمدني العراقي وتكاد تذهب تلك المناهج مع اصحابها على امتداد خمس وثلاثين سنة من اساليب الحكم السابق .
تاسعا : تجديد الاستشارات والبنى الفوقية والتحتية
الدعوة الاساسية في كل جغرافية العراق من شماله وحتى جنوبه الى محاولة رصد مبالغ مالية ضخمة من قبل الحكومات العراقية القادمة للانفاق على خلق وسائل وأدوات وآليات جديدة منها : خبراء ومستشارين ومحكمين دوليين يأتون لفترات محددة يقضونها برفقة العراقيين والى جانبهم من اجل تبادل المنافع العلمية ، وعلى الاخوة العراقيين ان يتنازلوا من عليائهم قليلا للاعتراف بحجم التأخر من دون الشعور بالضآلة والاصغاء للاخر من اجل مستقبل جديد ناهيكم عن تجديدات البنى العراقية الفوقية ( = العناصر البشرية ) والبنى التحتية ( = المكونات المادية ) في احداث التغيير المنشود .
عاشرا : استعادة المحتوى العلمي للعراقيين
لابد من العناية بالنخب المتخصصة وتقييم ادائها دوريا واقصاء كل من استغل مكانته الحزبية بنيل شهادات عليا في العراق من دون اي تقاليد علمية واكاديمية ومنهجية ونقدية من اجل استعادة المحتوى العلمي للعراقيين ورفع مكانتهم في كل المرافق الحيوية في العراق . واهيب بالسلطات الاكاديمية العراقية وبوزارة التعليم العالي والبحث العلمي اليوم ان تعيد للجامعات والمعاهد الفنية العراقية هيبتها وسيادة روح العلم في اروقتها ورحاب حرماتها بعيدا عن اي تدخلات حزبية وشعارات دينية وطائفية وعرقية ومؤدلجات فكرية .. تنال كلها من حالة التوافقات والانسجام وروح الحوار ، بل وتسود بشراسة على حساب العلم والتعليم والبحث العلمي .
وأخيرا : يبقى العراق بحاجة الى المزيد والمزيد !
هذا ما وددت اليوم تقديمه من المرتكزات التي اعتبرها اساسية في استعادة الحياة العراقية سابق عهدها في العطاء وانتاج الابداع ، وليكن معلوما ان تلك " الحياة " سوف لن ترجع ابدا لما كانت عليه قبل خمسين سنة ، بل نطمح لأن تختزل الزمن وتتسارع تاريخيا من اجل اللحاق بما هو الحال في مجتمعات متقدمة لم تكن الا في طور التخلف عندما كان العراق صاحب مؤسسات معتبرة وابداعات رائعة قبل خمسين سنة من اليوم .. فهل سيحقق العراقيون طموحات جديدة في بناء العراق الجديد .. هذا ما سيجيب عليه المستقبل ان نجحوا في توظيف امكاناتهم وادارة شؤونهم بعيدا عن كل من لا يريد لهم الاستقرار والبناء .
#سيار_الجميل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟