|
دولة الإسلام أم دولة بني ساعدة؟ (1)
عبد الرحيم الوالي
الحوار المتمدن-العدد: 2724 - 2009 / 7 / 31 - 09:48
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تلتقي الجماعات و الأحزاب الإسلامية، مهما اختلف تصنيفها بين "متطرفة" و أخرى "معتدلة"، حول هدف واحد من الناحية السياسية يتمثل في إقامة "الدولة الإسلامية" وفقا للنموذج المعبر عنه ب"دولة الخلافة". "دولة الخلافة" هذه هي، بالنسبة لجميع الجماعات و الأحزاب الإسلامية، "دولة الإسلام" النموذجية التي لا بد من العودة إليها عودة حتمية حتى و إن اختلفت الطرق و مناهج العمل بين العنف الدموي و العمل السلمي. و بعيدا عن فورة الخطاب السياسي فإن "دولة الخلافة" أو "دولة الإسلام" هي معطى تاريخي بحت في المقام الأول و الأخير. و هو، بحكم ذلك، مادة للبحث التاريخي من منظور علمي صرف. و بهذا المعنى ل"دولة الخلافة" كمعطى تاريخي، أي كدولة وُجِدَتْ في مرحلة تاريخية معينة، فالسؤال الأول الذي يطرح نفسه على كل مَنْ يحاول البحث في تاريخ هذه الدولة هو: متى و كيف نشأت دولة الخلافة الإسلامية؟ هل نشأت في عهد الرسول (ص) أم بعد وفاته؟ و هل يوجد في السيرة النبوية ما يفيد أن الرسول (ص) كان يتصرف من موقعه كرئيس دولة؟ عندما بدأ الرسول (ص) نشر دعوته إلى الإسلام نجد واقعة ذات دلالة قوية في هذا الاتجاه. فقد أورد ابن هشام في السيرة النبوية أن قريشا أرسلوا عتبة بن ربيعة ليفاوض الرسول فقال له: "يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، و إن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا من دونك، و إن كنت تريد مُلْكاً ملكناك علينا". و عندما انتهى عتبة بن ربيعة من كلامه كان جواب الرسول أنه قرأ عليه سورة "فُصِّلت" من القرآن. موقف الرسول هذا، أي قراءته صورة "فُصِّلت" بالذات لم يكن اعتباطياً. فهي تتضمن الجواب الصريح، و الواضح، حول هوية الرسول أولا، و حول مهمته ثانياً، و حول عرض قريش ثالثاً. ففي السورة :"قُل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه و استغفروا و ويل للمشركين". وفي حرص القرآن على تأكيد هوية الرسول بقوله "إنما أنا بشر مثلكم" تحلُّل واضح و نهائي من أي صفة من صفات المُلك أو رئاسة الدولة أو التطلع إلى الحكم. و المهمة الوحيدة للرسول هي دعوة الناس إلى عبادة الله باعتباره الإله الواحد و إخراجهم من الشرك (يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه و استغفروا و ويل للمشركين). أما المُلك الذي عرضته قريش على الرسول مقابل التنازل عن دعوته إلى التوحيد فقد جاء الجواب عليه في السورة من خلال ذكر مملكتي عاد و ثمود اللتين هما، كماهو معروف، مملكتان من ممالك العرب القديمة، والتذكير بالمصير المأساوي الذي انتهت إليه كل منهما. و في هذا تبخيس للمُلك المعروض على الرسول من قبل قريش و الذي لا يصل في شيء إلى ما كانت عليه مملكتا عاد و ثمود من أسباب القوة و مظاهرها، و تبخيس للمُلك عامة باعتباره مُلكاً زائلاً. رفض الرسول المُلك و السيادة على قريش و وصل أمر دعوته إلى قيصر الروم من خلال الكتاب الذي أرسله إليه الرسول. و في هذا الكتاب أيضا لم يتصف الرسول بأي صفة من صفات المُلك أو رئاسة الدولة إذ جاء في الكتاب: "من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم" (أنظر "نور اليقين في سيرة سيد المرسلين" للشيخ محمد الخضري ـ دار الفكر ـ ص 152). فقد اكتفى الرسول هنا باستعمال اسمه الشخصي مجردا من أي صفة أخرى بينما وصف هرقل بأنه "عظيم الروم". "و لما وصل هذا الكتاب إلى القيصر قال: انظروا لنا من قومه أحداً نسأله". و لم يكن هذا الذي سأله القيصر إلا أبا سفيان، الذي كان من كبار قريش و من أشدهم عداوة للرسول. و من جملة ما سأل عنه القيصر أبا سفيان إن كان أي من أجداد الرسول ملكاً. و عندما انتهى أبو سفيان من الإجابة عن كل الأسئلة التي طرحها عليه القيصر قال الملك: "لو كان من آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه". كل هذه المواقف، و غيرها، تشير إلى أن الرسول رفض أن يكون ملكاً على قريش و لم يكن منظورا إليه من طرف ملك الروم باعتباره ملكاً. و مقابل رفضه الملك على قريش كان عليه (ص) أن يتحمل كل الأذى الذي لحقه من قريش و من غيرهم إلى أن أصبح حقه في الحياة مهددا و أصبحت السيوف مسلولة أمام غرفة نومه فهاجر إلى المدينة المنورة. و عند هذه النقطة بالذات، أي عند الهجرة النبوية، يقف بعض الذين يزعمون أن الرسول أسس الدولة الإسلامية في دار الهجرة. فهل فعلا كان الأمر كذلك و كانت هناك دولة في عهد الرسول في المدينة المنورة؟ هجرة الرسول إلى المدينة المنورة لم تكن إلا بعد اتفاقين مع قبائل هذه المدينة في محطتين: العقبة الأولى و العقبة الثانية. و نص هذا الاتفاق على أن قبائل المدينة، التي ستسمى بعد ذلك ب"الأنصار"، تحمي الرسول شخصيا (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم و أبناءكم). فهي بيعة للرسول على حمايته شخصيا و حماية المسلمين المهاجرين من أي أذى قد يلحقهم من قريش أو من غيرهم، و لم تكن بيعة مُلك بمعنى جعل الرسول ملكاً عليهم، أي رئيس دولة في المدينة المنورة. و هذا ما يتأكد من سلوك الرسول قبل معركة بدر بعد أن أصبح جيشه خارج المدينة المنورة إذ استوقف الجيش و استشار الأنصار. يقول ابن هشام في السيرة النبوية: "ثم قال رسول الله (ص): أشيروا علي أيها الناس. و إنما يريد الأنصار، و ذلك أنهم عدد الناس، و أنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا و نساءنا. فكان رسول الله (ص) يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، و أن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم" (السيرة النبوية ـ ابن هشام ـ المجلد الثاني ـ ج 3 ـ ص 162). هكذا، فالرسول و هو على مشارف أول معركة بين المسلمين و قريش لم يكن يملك سلطة القرار على الأنصار، أي على أهل المدينة المنورة التي يزعم البعض أنه أقام بها دولة. فرئيس الدولة ليس في حاجة إلى تجديد العقد مع جيشه و لا حتى إلى استشارته و إنما يصدر إليه الأوامر التي يراها مناسبة و ينفذها الجيش دون نقاش. و بالتالي فالموقف هنا مختلف تماماً من حيث هو موقف رجل يتمتع هو والمهاجرون معه بحماية أهل المدينة المنورة و ليس ملكاً و لا رئيسا عليهم و إنما هو مستجير بهم، أي يعيش في حمايتهم. و بناء على هذا نستطيع أن نقول بكل اطمئنان بأن الرسول (ص) لم يكن رئيس دولة قامت في عهده بالمدينة المنورة. و هي دولة لم تقم أبدا في حياة الرسول (ص) و لا يوجد أي دليل تاريخي على وجود مؤسسات للدولة في هذه المرحلة من تاريخ الإسلام. و إلى حدود السنة الخامسة من الهجرة، عند حدوث غزوة بني المصطلق، كان الرسول و المهاجرون يُنظَر إليهم من طرف بعض الأنصار باعتبارهم دخلاء على مجتمع المدينة. و يؤكد هذا ما حدث في غزوة بني المصطلق بسبب الازدحام على الماء بين بعض المهاجرين و بعض الأنصار. فبعد الغزوة، التي حدثت عند مكان به ماء يقال له المُرَيْسيع، "وردت واردة الناس، و مع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه و سنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، و صرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول، و عنده رهط من قومه فيهم: زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أوقد فعلوها، قد نافرونا و كاثرونا في بلادنا، و الله ما أعدنا و جلابيب قريش إلا كما قال الأول: سَمِّنْ كلبَكَ يأْكُلْك، أما و الله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل". (ابن هشام ـ المصدر السابق ـ المجلد الثاني ـ ج 4 ـ ص 253 ـ 254). أكثر من ذلك فقد كان هناك من الأنصار من يدعو إلى عدم الإنفاق على المهاجرين حتى يكونوا مجبرين على ترك المدينة المنورة إلى وجهة أخرى. و إلى ذلك أشار القرآن: " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون. يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون" (المنافقون ـ الآيات: 7 ـ 8). إن كل عاقل لا يمكن أن يتصور أن واحدا من "الرعايا" يمكن أن يعتبر أنه هو "الأعز" و أن رئيس الدولة هو "الأذل" و يهدده بإخراجه من دولته و أن يعتبر المهاجرين من قريش، قبيلة رئيس الدولة، بمثابة كلاب (سَمِّنْ كلبَكَ يأكلك). و نحن هنا في السنة الخامسة من الهجرة النبوية و لسنا عند بداية الهجرة. إذا كان الرسول لم يؤسس دولة في المدينة المنورة، باعتبارها دار الهجرة، و ظل هناك كثير من الذين سماهم القرآن "منافقين" يرفضون أصلا وجود الرسول و المهاجرين بين ظهرانيهم، و يعتبرونهم دخلاء، و إذا كان هدف الرسول ـ كما يزعم الإسلاميون ـ هو إقامة الدولة؛ فقد كان من المنطقي تماماًَ أن يقيمها في موطنه الأصلي الذي هو مكة بعد فتحها. و إذا كان ـ قبل الهجرة ـ قد رفض أن يكون ملكاً على قريش لأن ذلك كان مشروطا بالتخلي عن دعوته إلى الإسلام، فإنه لا محالة كان سيعمل على إقامة هذه الدولة في مكة بعد انتصار الإسلام و فتح مكة، بل إن منطق السياسة يقضي بأن يجعل من مكة، موطنه الأصلي، عاصمة لملكه سيما و أن مكة كانت لها مكانة رمزية كبيرة في شبه جزيرة العرب برمتها. لكننا، عند فتح مكة بالذات، نجد موقفا يحمل دلالة معاكسة تماماً. يذكر ابن هشام في السيرة النبوية أن الرسول، و هو على رأس جيشه قرب مكة، و بعد أن أسلم أبو سفيان، أمر أن يتم عرض جيش المسلمين على هذا الأخير. وعندما مرت به الكتيبة التي كان فيها الرسول التفت أبو سفيان إلى العباس بن عبد المطلب، عم الرسول، و قال: "ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ و لا طاَقة، و الله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلك ابن أخيك الغداة عظيماً". فكان جواب العباس بن عبد المطلب: "يا أبا سفيان، إنها النبوة". (السيرة النبوية ـ المجلد الثالث ـ ص 61 ـ 62). و لأنها كانت نبوة و لم تكن مْلكاً لم يدخل الرسول مكة مزهوا و لا متباهيا كما يدخل كل ملك منتصر. بل إنه دخلها ـ كما تجمع على ذلك كل مصادر السيرة النبوية ـ منحني الرأس "تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عٌثْنُونَه ليكاد يمس واسطة الرحل" (المصدر السابق). و حين وقف ليخطب في الناس على باب الكعبة قال: "يا معشر قريش؛ إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، و تَعَظُّمَهَا بالآباء. الناس من آدم، و آدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى، و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)... الآية كلها. ثم قال يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم و ابن أخ كريم؛ قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء". ليس في قول الرسول و لا في فعله يوم فتح مكة و بعده أي شيء يفيد أنه تصرف كرئيس دولة، بقدر ما أصر على أن يقدم نفسه باعتباره واحدا من الناس الذين هم من آدم، و آدم من تراب. ثم إنه سلم مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة و لم يسلمه لعلي بن أبي طالب، ابن عمه، الذي قال له: "يا رسول الله؛ اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك". و لم يأسر من قريش أحدا و إنما قال لهم "اذهبوا فأنتم الطلقاء". و ذلك عكس ما يقضي به منطق السياسة و إقامة الدولة الذي يفترض تولية أمور الدولة للمقربين و القضاء نهائيا على الخصوم السياسيين. و أكثر من ذلك فمباشرة بعد فتح مكة قرر الرسول أن يعود إلى المدينة المنورة، دار الهجرة، و أن يعيش بها إلى حين مماته. يقول ابن هشام: "و بلغني عن يحيى بن سعيد أن النبي (ص) حين فتح مكة و دخلها، قام على الصفا يدعو الله، و قد أحدقت به الأنصار، فقالوا فيما بينهم: أترون رسول الله (ص)، إذ فتح الله عليه أرضه و بلده يقيم بها؟ فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله؛ فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال النبي (ص): معاذ الله! المَحْيَا مَحْيَاكُم، و المَمَات مَمَاتُكم". لم يكن دخول مكة من طرف الرسول باعتبارها عاصمة دولة، و لا حتى باعتبارها موطنه الذي سيعود ليقيم فيه بعد أن تم تهجيره منه قسراً. بل إن هذا الدخول كان باعتبار مكة حاضنة للبيت الحرام بما له من رمزية دينية. و قد كانت الغاية الوحيدة من هذا الدخول هي أن يحل التوحيد محل الشرك في البيت الحرام باعتباره، تاريخيا، رمزا للتوحيد منذ النبي إبراهيم و باعتباره "أول بيت وضع للناس". و هو المعنى الذي تؤكده أول خطبة للرسول عند باب الكعبة عقب فتح مكة و التي بدأها قائلا: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق وعده، و نصر عبده، و هزم الأحزاب وحده". (أنظر ابن هشام ـ المصدر السابق). فقد اتصف الرسول، مرة أخرى، بصفته عبدا لله بدون أي لقب آخر بما في ذلك لقب النبي أو الرسول، فقال "نصر عبده"، و لم يقل "نصر نبيه" أو "نصر رسوله". و لم يعلن، فيما عدا التوحيد، سوى أن الناس سواسية و أن "كل مأثرة أو دم أو مال يُدَّعَى فهو تحت قدمي هاتين إلا سَدَانة البيت و سِقاية الحج". (المصدر السابق ـ ص 73). فمعنى المأثرة في لسان العرب "الشرف" و "المفخرة". و معنى كلام النبي أنه لا شرف و لا مفخرة إلا خدمة الكعبة و سقاية الحج. و قد رأينا كيف أنه لم يستأثر بهذه المأثرة لنفسه و لا لعشيرته، و لم يحتفظ بمفتاح الكعبة لنفسه، و لم يسلمه لعلي بن أبي طالب ابن عمه، و إنما سلمه لعثمان بن طلحة وفاءً بوعد سابق، و لم يستجب لطلب علي بجمع الحجابة و السقاية لبني عبد المطلب، أي لعشيرته. مفتاح الكعبة، و السقاية، لم يستأثر بهما النبي بعد أن دخل مكة مع ما لهما من حمولة رمزية في ممارسة السلطة داخل مكة. و لم يسلم لعشيرته أي سلطة على البيت الحرام و قال جوابا على طلب علي: "إنما أعطيكم ما تُرْزَءون لا ما تَرْزَءون" (نفس المصدر ـ ص 75). فكيف لرئيس دولة يدخل عاصمة دولته، فلا يحتفظ لنفسه و لا للمقربين منه بأي سلطة رمزية فيها منذ البداية، بل أكثر من ذلك يسلمها لشخص آخر، ثم يغادر عاصمة ملكه ليعود إلى حيث كان هناك مَن يعتبره "الأذل"؟ لا يوجد حاكمٌ زاهدٌ في الحكم و لا في أي رمز من الرموز التي تجسد الحكم إلى هذا الحد. و لم يكن الرسول حاكماً، و لا ملكاً، و لا رئيس دولة بأي شكل من الأشكال. فمهمته كانت، بالنص القرآني الصريح، محصورة في كونه رسولا (ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)، و لم يكن طامحاً إلى المُلك. و لذلك عاد إلى المدينة ليموت فيها مهاجراً. و في خطبة الوداع لم يذكر الرسول من قريب و لا من بعيد أمر الدولة أو الحكم، و كان كلما ألقى جزء من خطبته يسأل: "ألا هل بلغت؟" و لم يسأل: "ألا هلْ حكمت بينكم بالعدل؟" أو أي سؤال من هذا القبيل، إذ كانت مهمته كرسول محصورة في التبليغ (إنما عليك البلاغ). و هو لم يشر إلى أمر الدولة سوى لأن هذه الدولة، ببساطة، لم تكن موجودة في عهده. و الجيش الذي دخل مكة باعتباره جيش الإسلام كان يمثل تحالفاً لكل القبائل التي دخلت في عهد الرسول، أي في حلفه، بعد صلحه مع قريش. و قد رأينا كيف كانت كتائب المقاتلين تُعرض على أبي سفيان كل كتيبة باسم القبيلة التي تمثلها، و لم تعرض عليه باعتبارها وحدات قتالية متعددة تنتمي إلى جيش نظامي و موحد. فمتى كانت هناك دولة بدون جيش نظامي موحد تتأسس عليه سيادتها؟ لم يذكر النبي شأن الدولة في خطبة الوداع و أدركه الأجل المحتوم مهاجراً في المدينة المنورة. و فقط بعد وفاة النبي، و انقطاع الوحي، طُرح سؤال الخلافة باعتباره سؤالا مطروحا بين أناس لا أحد منهم نبي، و باعتباره سؤالا لم يحسم فيه الوحي و لا الرسول، أي باعتباره سؤالا منتميا إلى عهد ما بعد النبوة. و كما هو معروف في مصادر التاريخ الإسلامي فقد طُرِح سؤال الخلافة هذا في سقيفة بني ساعدة و نشأ حوله، منذ البداية، خلاف بين المهاجرين و الأنصار. بهذا المعنى فدولة الخلافة نشأت في سقيفة بني ساعدة بعد انتهاء الوحي و وفاة النبي، أي أن نظام الخلافة ـ أو ما يسمى كذلك ـ هو نظام سياسي وضعي كسائر أنظمة الحكم، انتهى إليه المسلمون الأوائل فيما بينهم دون أي تدخل من النبي الذي كان قد توفي، و لا من الوحي الذي كان قد انقطع. و بالتالي فهو نتاج لظروف و ملابسات تاريخية و ليس ضمن ما نزل من عند الله، أي أنه نظام مجرد من أي شرعية سماوية. و بالنتيجة فهذا النموذج للدولة، الذي يمثل الهدف السياسي الأسمى للجماعات و الأحزاب الإسلامية، هو نموذج بشري لا إلهي، أي أنه نموذج سياسي لا نموذج ديني. و ما دام كذلك فهو قابل للمقارنة مع كل أنظمة الحكم الوضعية باعتباره متساويا معها لا باعتباره متفوقا عليها من حيث هو نموذج "إسلامي". ذلك أن وصف "الإسلامي" هنا لا يعني أكثر من أن الذين وضعوا هذا النموذج كانوا مسلمين. فهل نجحوا، فعلاً، في إقامة دولة على أساس هذا النظام؟ و هل استطاعت هذه الدولة أن تحقق استقرارها و استمرارها؟ أم أنها ـ عكس ذلك ـ كانت نموذجا للدولة الضعيفة، الهشة، التي تمزقها الخلافات و المنازعة في شرعيتها من الداخل قبل أن تتهددها الأخطار من الخارج، و انهارت ـ نتيجة ذلك ـ بعد زمن يسير من نشأتها الأولى؟
#عبد_الرحيم_الوالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دولة الإسلام أم دولة بني ساعدة؟ (2)
-
نحو بناء ثقافة تنويرية تشاركية
-
رسالة مفتوحة من صحافي مغربي إلى السفير الأميركي بالرباط: رجا
...
-
دفاعاً عن الإسلام و الحرية
-
سيناريو اختطاف لم يتم
-
نحن و إسرائيل: حرب دائمة؟
-
جولة بوش في الشرق الأوسط و الخليج: مزيد من الأخطاء و الدماء
-
أسئلة ما بعد 7 شتنبر بالمغرب: بؤس السياسة و سياسة البؤس
-
نضال نعيسة: مشروعية السؤال و سؤال المشروعية
-
هَل تُصلِحُ الأمم المتحدة ما أفسده جورج بوش؟
-
تموز العراقي أمريكياً: قتلى أقل، نيرانٌ معاديةٌ أكثر!
-
ما قبل جورج بوش و ما بعده: عالمٌ يوشك أن ينهار
-
من الحزام الكبير إلى الأحزمة الناسفة
-
انخراط شعبي تلقائي يفشل المخطط الإرهابي بالمغرب
-
انتخابات 2007 أو معركة الأسلحة الصدئة: المغرب بين المراهنة ع
...
-
أميركا والإسلام والعرب: من أجل العودة إلى الأصول
-
تحسين صورة أميركا في العالم العربي: أسباب الفشل وفرص النجاح
-
الحركة الأمازيغية بالمغرب: وليدة الديموقراطية أم بذرة الطائف
...
-
التجربة -الليبرالية- بالمغرب: نحو مقاربة نقدية
-
الإرهاب و الدواب
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين
...
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|