سعد جميل
الحوار المتمدن-العدد: 2720 - 2009 / 7 / 27 - 09:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن تطور المجتمعات وتغير اساليب العيش في اي زمان ومكان كان يرافقه تطور في المهن والحرف. والمهن التي لم تستطع ان تطور نفسها او التي لم يعد الانسان بحاجة الى ماتنتجه ماتت وانقرضت واصبحت من التاريخ. ولاننا نعيش في زمن فريد من نوعه من ناحية التطور السريع وعلى كافة الاصعدة والمجالات, فإني لا اشك بأن اغلبنا قد عاصر انقراض مهنة معينة حتى لو كانت صغيرة او غير ذات اهمية.
فمثلا كثير منّا ربما يتذكر صندوق الدنيا, ذلك الصندوق الذي ما ان يأتي به صاحبه الى الشارع حتى يتجمع حوله الاطفال ليسرد عليهم تلك الحكايات الخرافية. انا بصراحة اتذكر إني رأيته مرة واحدة عندما كنت صغيرا وبالصدفة, وقال لي والدي في وقتها ان هذا يسمى صندوق الدنيا ثم حكى لي فيما بعد الكثير عنه. لكن ما اتذكره جيدا في تلك المرة الوحيدة ان صاحب الصندوق كان عصبي المزاج مع المارة في الشارع وصوته فيه نبرة حزن وتعابير وجهه التي اتذكرها جيدا توحي لك بانه كان مستاءا من مهنته هذه التي تعد تستهوي الاطفال كما في السابق. علمت ايضا فيما بعد ان هذه اللعبة كانت شعبية عند الاطفال وكان صاحبها الذي كان يتسم بالوسامة واللطافة بحكم عمله مع الاطفال ما ان يدخل شارع حتى يبقى فيه لساعات قبل ان يغادره بعد ان افرغ ما في جيوب الاطفال من شدة حبهم وولعهم لسماع ومشاهدة تلك القصص الخيالية. لكن مع دخول التلفزيون الى البيوت وظهور برامج الاطفال وافلام الكارتون لم يعد الاطفال ينجذبون الى ذلك الصندوق القديم ولم يستطع صاحب الصندوق بالرغم من التحديثات التي حاول ان يدخلها على مهنته كإستخدامه لمصابيح متعددة الالوان داخل الصندوق ان ينافس التكنلوجيا الحديثة ومع مرور الوقت اختفت تلك المهنة وانقرضت وبدأ اصحابها يبحثون عن مهن جديدة يعيلون بها عوائلهم.
لكن ما علاقة هذا برجال الدين, هل مهنتهم هي الاخرى ستنقرض? الجواب نعم. وما هو الدليل? الادلة كثيرة منها ادلة ظاهرة في الخطاب الديني الجديد لبعض رجال الدين ومنها ما يخص اصل ظهور الاديان والمعتقدات.
إن ما يقوم به بعض رجال الدين من تجميل وترقيع لمعتقداتهم ونصوصهم بليّها وتأويلها وإعادة تفسير المُفسَر منها كي تبدو عصرية وحداثوية, ما هو إلا محاولة منهم لترغيب انسان الالفية الثالثة بالبضاعة التي في جعبتهم بعد تلميع ظاهرها. فما يفعله هذا البعض من رجال الدين اشبه بما فعله صاحب صندوق الدنيا بادخال المصابيح الكهربائية الى مهنته من اجل اضافة جمالية جديدة ظناً منه انه سيلحق بركب اجهزة التلفاز. كان الاحرى به ان يغير ذلك الصندوق الخشبي القديم والذي هو اساس مهنته لو اراد لمهنته ان تبقى على قيد الحياة. فرجال الدين هؤلاء بدءوا يستشعرون بالخطر القادم على مهنهم ومناصبهم, ومحاولتهم هذه لتجميل معتقداتهم ما هي إلا استماتة اخيرة منهم لانقاذ ما يمكن انقاذه.
والبعض الاخر من رجال الدين اتخذ نهجا خطابيا اخر يعتمد على التزمت والتعصب وتكفير وقتل الاخر المخالف لهم. فهم يعرفون ان بقائهم يعتمد فناء الاخر المخالف. ومع ان قتل الاخر المخالف كانت صفة ملازمة للاديان منذ ظهورها من اجل انتشارها, إلا اننا اليوم نشهد ارهاب وتعصب من نوع اخر وضد اشياء اخرى كالفن والموسيقى والرياضة وعيد الحب والتشبه بالكفار وعمليات التجميل للوجه وقيادة المرأة للسيارة. فلا تفسير لهذا غير التراجع للوراء والانزواء والانحسار ومن ثم التلاشي في الوقت الذي يتقدم فيه الانسان الى الامام.
هذه امثلة بسيطة لعلامات يلاحظها الجميع من خلال تصرفات رجال الدين. لكن ماذا عن اصل الدين والغايات التي جاء من اجلها هل مازالت قائمة ام انها انتفت. في تقديري جاءت الاديان لغايتين رئيسيتين, الاولى تتعلق وباختصار عن تسائل الانسان القديم البسيط عن الظواهر الطبيعية المخيفة التي تحدث من حوله كالبرق والرعد والزلازل والبراكين. فقرر رجال الدين او من كان على شاكلتهم في ذلك الزمان التصدي لهذا التسائل وبدءوا بالبحث عن ماهية هذه الظواهر من اجل خدمة ذلك الانسان الفقير, فكان جوابهم له انها غضبٌ من اله السماء (بحث علمي لا يُستهان به!). ثم قالوا له ماعليك الا ان تتبعنا وسنرشدك الى العبادة الصحيحة حتى لا يصيبك غضب هذا الاله.
ونحن اليوم نتعلم من خلال المناهج الدراسية ان هنالك اسباب طبيعية فيزيائية لحدوث هذه الظواهر وليس لإله السماء اي دخل في ذلك. وبذلك تنتهي صلاحية ذلك البحث العلمي القيم وما عدنا بحاجة اليه ولمنظّريه.
اما الغاية الرئيسية الثانية لمجيء الاديان فهي تصبير (تخدير) الانسان الفقير المظلوم الهلكان على الشقاء والتعب وتحمل الظلم والجور من اجل الاخرى التي سينعم فيها بعد الموت. طبعا الفوز بالجنة ليس للجميع بل فقط للمؤمنين الذين رغم فقرهم لا يبخلون عن تقديم القرابين لاله السماء عن طريق وكلاءه على الارض (استغلال جشع ليس إلا). ولولا هذا الوعد بتلك الجنة الموعودة لإنتحر الانسان منذ اليوم الاول الذي لاقى فيه الشقاء والعناء والظلم, فما الذي كان سيصبره على تحمل كل هذا, خاصة وان عرفنا ان حياتهم وظروف عملهم فيه من الشقاء والظلم الى حد قد لا نتصوره.
لكن ماذا عن الجنة هي الاخرى هل فنّد العلم الحديث وجودها كما فنّد الربط بين حدوث الظواهر الطبيعية واله السماء? الجواب في تقديري لا, لانه لا يوجد علم اسمه علم تفنيد الاساطير بل يجب على الذين يؤمنون بالاساطير ان يثبتوا صحتها بأدلّة عقلانية وليس العكس. فالجنة والفوز بها وكل ما يتعلق بهذه الاسطورة هي من بناة افكار خيال الانسان والانسان وحده بعقله من يستطيع ان يرفضها او يقبلها.
رفض او قبول اسطورة الجنة يعتمد على مقدار الجهل والظلم والقهر الموجود في اي مجتمع. فالانسان الكادح الفقير المظلوم الجاهل هو من يتعلق بحبال الاخرى, لان الانسان بطبيعته محب لحياة اجمل, فإن لم يجدها في حياته يتمنى ان يجدها في مماته (ماساة بكل ما تحمه الكلمة من معنى). لماذا لا يجد الافضل في حياته بدلا من مماته, ما المانع من ذلك? كيف ما المانع من ذلك, واين ذهب الظلاميين اذا من كل هذا , فهم الذين يحقنون الانسان بجرعات اضافية من الظلم والفقر والجهل حتى لا يخرج عن الصراط المستقيم. لِمَ لا فالحياة هي صراع من اجل البقاء وبقاء رجال الدين في مناصبهم يعتمد على تركيز الحقن التي يحقنون بها من هم مخدوعين بقداستهم.
في المجتمعات المتحضرة في الدول المتقدمة لا يسمع احد عن أُناس ينامون من غير عشاء ولا عن مظالم توقض مضاجع مجتمعاتهم ولا عن قهر واستغلال وظلم, ومن لا يستطيع منهم ان يعمل لسبب او لاخر يحصل على مساعدات اجتماعية لكي يعيش حياة كريمة, اما من يعمل منهم فلا ينفك عن رحلاته وممارسة هواياته. يعني باختصار هم يعيشون الجنة على الارض فما الذي سيجعلهم يلهثون وراء الجنة المزعومة في السماء.
إن العالم اليوم يعيش في قرية صغيرة مقسومة الى نصفين, نصفها الاول يعيش حياة مدنية متقدمة يسودها العدل والامان, اما النصف الاخر فمازال قابعا في الظلام. فهل سيقف هذا المظلوم متفرجا على ابناء جلدته في النصف الاخر المتحضر من هذه القرية دون ان يُعمل عقله. طبعا لا فالتغيير آتي لا محال فبيوت القرية ليست ببعيدة عن بعضها البعض.
ان الدين ومعه رجال الدين تسيّدوا العالم لآلاف السنين حيث كانوا الوحيدين الذين تصدّوا لكل ما يحتاجه الانسان في حياته. اليوم انتهى هذا التسيّد واصبح هناك مختصين في كل المجالات يمكن الاعتماد عليهم وما عدنا بحاجة لا لرجال الدين ولا لخزعبلاتهم.
لكن بعد كل هذا, ما الذي يحزنني في رجال الدين كما جاء في الموضوع? إن ما يحزنني ويقلقني حقا انهم سيجدون انفسهم من غير عمل في المستقبل القريب, والمصيبة ان نسبة البطالة في بلادنا اصلا مرتفعة. فكل هؤلاء من رجال دين ومفكرين دينيين (لا اعرف من اين جاءت كلمة مفكر ديني ففي الدين لايوجد اجتهاد او تفكير وانما هو شرائع ثابتة لا تتغير) وعلماء دين !!! وآيات عظام وفقهاء وشيوخ ودعاة وتجار الدين وطلاب دين, كل هؤلاء سيجدون انفسهم مضطرين للبحث عن مهنة اخرى يسترزقون منها. لكن المصيبة ستكون اعظم في حال رفض ارباب العمل توظيفهم لعدم امتلاكهم لأي مؤهل علمي. وبالتالي سيكونون عالة على من حولهم, وسيتوجب على المجتمع حينها ان يتكفلهم ماليا لان المجتمع سيكون متحضر عند انقراض مهنة رجال الدين وفي الجتمعات المتحضرة لايمكن ان يُترك المحتاج دون مساعدة… واخيرا ومن اجل مستقبل افضل لمجتمعاتنا وحتى لا تتحمل الاجيال القادمة عبء هؤلاء الذين داست على مهنهم عجلة التقدم, ادعو الجميع الى ان يفكروا ملياً بالاعمال التي من الممكن ان يمارسها هؤلاء كخطوة اولى في طريق حلحلة مشكلة البطالة التي ستعصف ببلادنا في القريب العاجل. وطاب يومكم.
#سعد_جميل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟