غالب محسن
الحوار المتمدن-العدد: 2718 - 2009 / 7 / 25 - 00:09
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ سقوط النظام الدكتاتوري واحتلال العراق في العام 2003 لم تتوقف الاقلام والاصوات عن تناول تجربة الحزب الشيوعي العراقي في ظل الظروف الجديدة وهذا بحد ذاته مؤشرا على مكانة الحزب وعلى الآمال التي وضعتها جماهيره على عاتقه. ومن نافلة القول ان ليس في حساباتي وانا اكتب مقالي هذا اجراء مسح شامل لكل ما كتب او تقييمه بل هي تأملات اثارتها تحديدا مقالة الصديق العزيز د. سامي خالد والاخرى مساهمتي في الحوار المفتوح في مدينة يوتبوري .
المسألة يا صديقي اعمق من مجرد خلل في التطبيق
فقبل بعض الوقت نشر د. سامي خالد مقالا في عدد من المواقع الالكترونيه هو اقرب للبحث بعنوان "جدلية الفكر ... جدلية الممارسة ... اسئلة التجديد " تناول فيه على وجه التحديد الخطاب الفكري للحزب الشيوعي العراقي ومن ثم تطبيقاته منذ المؤتمر الخامس وصولا للمؤ تمر الثامن. ورغم انني لست بصدد مناقشة أو تقييم المقالة الا انها تركت انطباعا عاما بخيبة امل داخلية في مواكبة الحزب لتطور الاحداث.
ورغم الرصانة والدقة في صياغة العبارات التي تميزت بروح البحث والنقد البناء فقد حرص صديقي الا يخرج بعيدا عن الصياغات الفكرية التي خرج بها المؤتمر الخامس على وجه الخصوص " إذن يمكننا القول أن المؤتمر الخامس أرسى بداية صحيحة وناجحة لعملية الديمقراطية والتجديد في الحزب وعموم نشاطه.. لكن الى أي مدى استمرت هذه العملية على مستوى التنظير والتطبيق؟". ويصبح الاستنتاج بأن الخلل في التطبيق هو تحصيل حاصل.
مبادرة متواضعة في حجمها كبيرة في معناها
وضمن السياق ذاته وتزامنا مع الذكرى 75 لتأسيس الحزب بادرت منظمة الحزب في مدينة يوتبوري/السويد بتنظيم فعالية فكرية غير تقليدية لا من حيث الشكل فحسب بل ومن حيث الموضوع أيضا حيث توجهت المنظمة ليس للرفاق الحزبيين فقط بل ولأصدقاءهم بغض النظرعن المواقف والأرتياحات الشخصية في حوار مفتوح لا يخلو من العفوية حول تجربة الحزب منذ سقوط النظام الدكتاتوري وحتى الآن. لم تكن هناك قوالب معدة سلفا (تسمى محاور) أو وثائق (لأغنائها) . لم تكن هناك نصوص "مقدسة" بل كل شئ كان قابلا للنقد دون شروط أو قيود سوى أحترام الرأي و الرأي الآخر . كانت فكرتي هي المبادرة للبدء بحملة فكرية تهدف لتققيم التجربة واغناء الحوار الفكري قبل ان يصار الى صياغة وثيقة تقييد الحوار ( وفي احيان كثيرة تخنقه ) بتوجهات هي بذاتها محل نقد . (للمزيد من المعلومات عن الفعالية انظر مقال صالح خطاب , أسم مستعار, الذي نشر في عدد من المواقع ومنها الحوار المتمدن في 21 آذار 2009 حول التجربة السياسية للحزب الشيوعي العراقي بعد سقوط الدكتاتورية.)
نقطة البدء
النقد والنقد الجرئ وحده هو الذي مكن اوربا من التخلص من العبئ الثقيل لفترة العصور المظلمة تلك التي تميزت بالارهاب الفكري تحت قيادة الكهنوت المسيحي. لقد قاد مفكرو عصر التنوير مثل فولتير وجان جاك روسو وديفيد هيوم وغيرهم حملة التنوير ضد القمع الفكري من خلال نقد الفكر المسيحي عموما وليس المؤسسة الكنسية فحسب والذي كان حتى ذلك الحين يبدو مقدسا وبذلك فتح آفاقا رحبة لتطور الفكر ومهّد لاكبر عملية نقد تعرض لها المجتمع الرأسمالي على يد كارل ماركس.
وهنا في الجانب الآخر انتقد مفكرو ما يسمى عصر النهضة من امثال جمال الدين الافغاني وتلميذه من بعده الشيخ محمد عبده وغيرهم ممن توفرت لهم فرصة التعرف على الثقافة الاوروبية المجتمع العربي الاسلامي عبر ما اصطلح على تسميته بالنهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين.و لكن الفرق بين النقدين كان كبيرا. فالمشكلة المنهجية في نقد الأخير تمثلت في عدم قدرته على نزع صفة المقدس عن تقريبا كل التراث والتأريخ الاسلامي والذي بدوره مكّن من احتواء هذه النزعة الاصلاحية في حدود هذا المقدس حتى تمكن الفكرالسلفي المتطرف من افراغه من محتواه بل والعودة بقوة الى السيادة الفكرية في العقود الي تلتها . واخذت هذه القوى تلوح علنا بتهمة الكفر والالحاد وأقامة الحد وهدر دم كل من يحاول التفكير في نقد ليس النص المقدس بل وحتى تفسيره الذي تحول بدوره الى نصا مقدسا بما فيها تجربة السلف الصالح بالطبع . ان كل ذلك ادى الى انتعاش ثقافة السحر و الشعوذة واستبدال كتب التأريخ بالاساطير واحلال الاعجاز العلمي للنص المقدس بدلا من كتب العلوم وغيرها من مظاهر الارتداد الفكري.
ان الذي ألمح اليه هو ان النقد ان لم يكن متحررا من اعباء ما يمكن تسميته بالمقدس (سواء أكان نصا أم حدثا تأريخيا أم أشخاصا) سيبقى ناقصا . ان هذا يعود في بعض جوانبه لسطوة وهيمنة الافكار المتوارثة والبالية فنحن لا نعاني من الاحياء فقط بل والاموات ايضا , فالميت يمسك بتلابيب الحي كما كتب ماركس في مقدمة رأس المال.
هل هناك تساؤل غير مشروع ؟
ان الاسئلة هي نتيجة لفعل التفكير وهي في النهاية تؤدي الى المعرفة (كما كان يفعل سقراط) غير انها تصبح مستحيلة في ظل تسلط فكري بغض النظر عن الرداء الذي يرتديه. انني اغامر الان بأثارة بعض التساؤلات التي قد تثير غضب عدد من الرفاق والاصدقاء لكن ذلك ليس هدفي أطلاقا ومع ذلك فأنا أستعين بكلمات ماركس الأخيرة في مقدمة الطبعة الأولى لرأس المال " وسأكون سعيدا بكل حكم نابع من النقد العلمي. أما ما يتعلق بأوهام ما يسمى بالرأي العام , الذي لم أتنازل أمامه أبدا , فأن شعاري لا يزال , كما كان , كلمات الفلورنسي العظيم: سر في طريقك و دع الناس يقولون ما يشاؤون " .
اذا كان النقد من خصوم الحزب له دوافع سياسية , وهذا مفهوم , فأن النقد الموجه من اعضاءه و اصدقاءه وجماهيره مهما كان قاسيا لا يمكن وصفه بالمغرض رغم انه في بعض الاحيان يأخذ طابعا شخصيا , للاسف الشديد, مما قد يضعف من مصداقيته.
ان المثير للحيرة و الدهشة معا هو ان اغلبية واضحة من الشيوعيين (وأنا أحدهم عندما كنت في الحزب) يقرون بأن سياسة الحزب لم تكن تخلو من أخطاء لكن لا أحد يقول ما هي هذه الأخطاء . وما أن يبدأ أحدهم بالحديث عن ما يمكن اعتباره خطأ ( طبيعي أن نختلف في حجمه وآثاره) حتى تهب الاصوات المخلصة دفاعا عن الحزب تارة بأسم " الظروف الموضوعية " وأخرى " تغييير التوازنات الاجتماعية والسياسية " وطبعا وصف المنتقد بأسلوب مهذب مثلا "يضع العربة امام الحصان" أو نعته "بالخبث السياسي" مع حشر العامل الذاتي وكأنه شيئا عرضيا (أو لذر الرماد في العيون) وغيرها من الصيغ الجاهزة.
ان تجربة الحزب بعد 1958 و الجبهة في السبعينيات من القرن الماضي و الكفاح المسلح والموقف من الحروب المتعاقبة كانت و ما زالت أسئلة مشروعة للنقاش وكثيرا ما أثارت خلافات واجتهادات فكرية سواء داخل الحزب أم خارجه بل وحتى بين الاكاديميين من الباحثين و المؤرخين.وفي ظل غياب مراجعة نقدية واضحة لابد لهذه الأسئلة من أن تتكرر حتى تتم مراجعتها بجرأة وألا سيبقى الحزب اسيرا لماضيه (والذي يسميه سامي خالد الانشداد للماضي).
التأريخ عندما يصبح تراثا مقدسا
النص المقدس في كتب الديانات كالتوراة والأنجيل والقرآن أو كنزاربا وغيرها غير قابل للنقد بأعتباره كلام الله أو أنبياءه (وحتى هذه تعرضت وما تزال للنقد). لكن هذا المقدس ليس حكرا على الديانات كما يتصور البعض بل مليئة به كتب التأريخ وسيرة كتبته.
ان الاشكالية في أحد أوجهها كما ارى تتمثل في سيادة ثقافة تنظر الى تأريخ الحزب كأنه تراثا "مقدسا" ينبغي صيانته والحفاظ عليه كما ورثناه . أنه تأريخ بطولات وتضحيات وأخلاص لقضايا الشعب والوطن , وهذا لا جدال فيه بل لا ينكره حتى خصوم الحزب . غير أن المبالغة في التكرار و التركيز على هذا الجانب يؤدي لا محالة الى أهمال ما تبقى من هذا التأريخ بل والأيحاء بأنه خال من الأخطاء و العثرات . أتراه هروبا للماضي أم تراه تراسا لحماية الحاضر ؟ أليست سياسة الحزب اليوم هي تراث الغد ؟
لقد اسسس الحزب تقاليدا تقترب من الطقوس للاحتفال بذكرى تأسيسه وفي مقدمتها تبجيل وتكريم الشهداء وهو اقل ما يمكن تقديمه مقابل تضحيتهم بأروحهم من اجل قضية الحزب. و بالاضافة الى ذلك القيام بالعديد من الفعاليات والنشاطات بما فيها الفكرية ....الخ. وطبعا الاستعداد لهذه الاحتفالات يبدأ قبل المناسبة بفترة و تستمر لبعض الوقت بعد ذلك التأريخ ايضا .وكل ذلك يتطلب حتما تحشيد كل الطاقات والامكانيات لانجاح هذه الفعاليات وقبل كل شئ لا بد أن تكون جماهيرية.
هل يمكن التساؤل دون انفعالات أو اتهامات لماذا يخصص الحزب وقتا وجهدا كبيرين للقيام بهذه الاحتفالات الجماهيرية سنويا ( دع عنك المناسبات اليوبيلية ) ولا يخصص مثلها لتقييم نتائج انتخابات مجالس المحافظات اللاخيرة (حيث كانت الهزيمة مدوية) وجعلها جماهيرية أيضا ؟ ماذا ستكون العواقب أذا جاءت نتائج الأنتخابات القادمة " لا سامح الله" كارثية مثل سابقتها ؟ سأترك الحديث عن حجم و قدرات واولويات الحزب للقارئ النبه !
أن كثيرا من التساؤلات لم تكن ممكنه في زمن الدكتاتورية والعمل السري غير أنها مشروعة الآن وتتطلب أجابات أخرى غير الظروف "الموضوعية " أو "المعقدة" أو الدفاع العاطفي , فالنوايا الحسنة تنفع في الحياة الآخرة أما ما يهمنا الآن في الحياة الدنيا هي نتائج الأفعال !
أن الحزب بحاجة الى لملمة كل الجهود لا الى تشتيتها وأن الحكمة تقتضي دعوة كل المخلصين والمهتمين بالحزب وبقضاياه للمساهمة في النقاش الفكري والأستماع الى "أنتقاداتهم" دون تحامل أو أنفعال في " الرد" عليها وتجاهل الخلافات الشخصية القديمة منها والحديثة بعيدا عن الاتهامات المتبادلة وبدون شروط مسبقة من أجل الهدف الأسمى.
ولتكن تجربة الحوار المفتوح في يوتبوري نموذجا !
د.غالب محسن
#غالب_محسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟