أعلن الوزير العمالي السابق يوسي بيلين مساء 3/6/2002 خلال مؤتمر بـروتوكولي في تل أبيب عن تأسيس حركة جديدة لليسار الإسرائيلي باسم «شاحر» والتي تعني «الفجر> باللغة العبـرية، كما أنها الاختصار العبـري لثلاث كلمات «سلام، تعليم، رفاه».
إعلان نوايا
جاء الإعلان وسط حفل يضم أكثر من ألف شخص من مؤيدي الحركة الجديدة وأنصارها، حيث وعد بيلين أن الحركة ستعمل «على توحيد معسكر السلام الإسرائيلي، بهدف إبقاء إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية ترتكز على السلام والعدل الاجتماعي».
ومن أجل حل معادلة «دولة يهودية ديمقراطية» قدم بيلين اقتراحاً ثورياً «لإلغاء التجنيد الإجباري» في مجتمع تكاد المؤسسة العسكرية تشكل عموده الفقري، وتحويل هذه المؤسسة إلى مجرد جيش صغير مهني، ومقابل صرف عشرات المليارات من الدولارات التي سيوفرها هذا الإجراء إلى مجالات الديمقراطية والرفاه الاجتماعي، وفي المقدمة منها يأتي العمل على سد الهوة وإلغاء التمييز وتحقيق المساواة الكاملة لفلسطينيي الـ48، ثم العمل على تطوير التعليم وعلمنة الدولة تماماً وفصل الدين عن الدولة..الخ.
ولا يقل بـرنامج بيلين لتحقيق السلام ثورية عن بـرنامجه الديمقراطي، حيث أبدى ثقته بإنجاز اتفاق شامل للسلام في المنطقة، خلال أربع سنوات، يقوم على الأسس التالية:
1ًـ انسحاب كامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 مع تعديلات حدودية طفيفة، وإزالة جميع المستوطنات اليهودية التي أقيمت في الضفة الغربية والقطاع، تمهيداً لإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.
ويقترح بيلين أن تكون القدس عاصمة مشتركة للدولتين، الغربية إسرائيلية، والشرقية فلسطينية، كما طالب بضرورة إيجاد حل واقعي لقضية اللاجئين الفلسطينيين يرضى عنه الطرفان، دون أن يوضح رؤيته لهذا الحل.
2ًـ الانسحاب من هضبة الجولان السورية المحتلة عام 1967، وجعلها منطقة منزوعة السلاح، وإيجاد نظام خاص على الضفاف الشمالية الشرقية لبحيرة طبـريا، على غرار ما جرى في طابا المصرية، بحيث تكون تحت السيادة السورية الكاملة مع نظام معاملة خاص للإسرائيليين، أي يدخلون إليها بجوازات سفر ولكن من دون تأشيرة دخول.
خطوة متأخرة
يقول بعض المراقبين: إن يوسي بيلين طرح أفكاراً جريئة وثورية، لكنها متأخرة بعض الشيء، وهي الأفكار ذاتها التي حاول رئيس وزراء إسرائيل السابق إيهود باراك أن يقاربها في بـرنامجه الانتخابي عام 1999 إنما بصياغات عامة. وقد حقق فوزاً انتخابياً كبيراً تحت شعارات «السلام» و«الديمقراطية» التي تخلى عنها بسرعة لصالح ممارسات بـراغماتية مترددة أدت إلى ضياع الوزن الانتخابي والسياسي لحزب العمل، والذي تكرس بعد التحاقه ببـرنامج حكومة «الوحدة» اليمينية بقيادة شارون.
لذلك انتقد بيلين في خطابه «التأسيسي» إن صح التعبير، إيهود باراك محملاً إياه مسؤولية فشل مفاوضات السلام مع السلطة الفلسطينية. لكنه انتقد بشدة أكبـر رئيس حزب العمل الحالي بنيامين بن اليعازر وتابعه شمعون بيريس لمشاركتهما في «حكومة الحرب» مؤكداً «أن الذين يشاركون في مثل هذه الحكومة لا يمكن أن يقودونا إلى السلام».
ويقول المراقبون: إن هذه الخطوة كانت مطلوبة قبل انتخاب أريئيل شارون، إلا أن جناح الحمائم في حزب العمل والذي يضم في قيادته إضافة لبيلين كلاً من رئيس الكنيست الحالي إبـراهام بورغ، والوزير السابق حاييم دامون، والنائب العربي نواف مصالحة وغيرهم، فضلوا انتظار هزيمة الحزب بقيادة باراك، على التقدم خطوة جريئة باتجاه توحيد صفوف «اليسار وقوى السلام» في إسرائيل.
مزيد من التردد
وحتى بعد الهزيمة وخروج باراك من قيادة الحزب، ظلت المعركة مفتوحة على شعار الدخول في حكومة «وحدة» مع شارون، ولاحقاً الاستمرار بها، أو مغادرتها. إلا أن اليسار الإسرائيلي، وتحديداً جناح الحمائم في حزب العمل كان متردداً في الذهاب إلى النهايات المنطقية لموقفه الأيديولوجي والسياسي، وظلَّ مكتفياً بمواقع هامشية من الحياة السياسية في إسرائيل، يمارس من خلالها نقداً غير ذي جدوى في ظل الجنوح المتزايد للمجتمع الإسرائيلي باتجاه اليمين المتطرف، وخاصة على خلفية استمرار حرب الإبادة والاحتياجات ضد الشعب الفلسطيني ومدنه ومخيماته.
يصف يوسي بيلين هذه الحالة بقوله: إنه «من المخجل لإسرائيل عموماً، ولمعسكر السلام فيها بشكل خاص، أن يكون التنافس الحزبي لدينا محصوراً بين زعيم اليمين المتطرف اريئيل شارون، وبين سلفه الأكثر تطرفاً بنيامين نتنياهو» مؤكداً أن «مثل هذا التنافس لن يدمر عملية السلام فقط، بل مصالح شعوب هذه المنطقة، وفي مقدمتها الشعب الإسرائيلي، حتى تفرض على الساحة السياسية تنافساً آخر، بينهم وهم قوى الحرب، وبيننا نحن قوى السلام».
والمفاجأة أن بيلين رغم كل المقدمات والنتائج الثورية التي يتوصل إليها يعلن أنه لن يترك حزب العمل الآن، لأنه «يأمل في أن ينسحب حزب العمل من حكومة الوحدة الوطنية بـرئاسة شارون في غضون ثلاثة أشهر بعهد الانتخابات الأولية التي ستجري في حزب العمل»، كما أوضح للإذاعة العبـرية. وفي حديث آخر لموقع «يديعوت أحرونوت» على الانترنيت 3/6/2002 يقول «ما زالت تراودني آمال بأن حزب العمل سيعود إلى نفسه، لكنني لا أرى نفسي جزءاً من حزب العمل، ولأول مرة منذ ثلاثين سنة لن أشارك في مؤتمر الحزب، لن أكون جزءاً من هذا الفشل».
يعتقد ابـرهام تيروش في صحيفة «معاريف» 5/6/2002 أن بيلين سينتظر الانتخابات التمهيدية لحزب العمل في تشرين الثاني القادم «وإذا فاز رامون سيبقى بيلين كما يبدو في حزب العمل، وستكون حركة [شاحر] حدثاً عابـراً».
يسار على الرف
تردد بيلين الذي يعتبـر من أهم مهندسي اتفاق أوسلو 1993، وواضع وثيقة «بيلين ـ أبو مازن» أو التصورات المشتركة لهما حول تسوية نهائية، يمنعه الآن من ترك الحزب. ويمنعه في الوقت نفسه من تأسيس حزب جديد لليسار، رغم كل أطروحاته عن ضرورة هذا الحزب، ويكتفي حالياً بتشكيل حركة، يصفها تيروش بأنها «حركة على الرف» والأصح أنها مؤشر على يسار هامشي لا يزال على الرف، ويتردد في النزول إلى طاولة القرار السياسي في إسرائيل.
فرغم الحديث عن معسكر موحد «للسلام الإسرائيلي» يضم مجموعة من حمائم حزب العمل مع حركة ميرتس اليسارية، وحزب الخيار الديمقراطي المنشق عن اليهود الناطقين بالروسية، إضافة لحركة «السلام الآن» و «كتلة السلام» وغيرها من التنظيمات المشاركة في تحالف السلام وبعض المثقفين، إلا أن شكوكاً متزايدة تبـرز حول الطبيعة القيادية التنافسية لكل من يوسي بيلين من العمل ويوسي سريد زعيم ميرتس، كما أن شكوكاً أكثر تظهر حول الاصطفافات داخل حزب العمل إذ لم يتردد إبـراهام بورغ في تأييد رئيس الحزب بن اليعازر في مواجهة وزير الخارجية السابق شلومو بن عامي في اجتماعات المركز الأخير.
والسؤال هو: هل تكفي هذه الشكوك لتسويغ تردد بيلين، الذي «قصف ولكنه لم يحرق الجسور»؟ أم أن خوفه نابع بالأساس من طبيعة «اليسار الإسرائيلي» الذي بدا جبانا في مواجهة اليمين الصهيوني، لذلك كان يرفع الشعارات منذ تأسيس الدولة العبـرية دون أن يتقدم كثيراً على الأرض في مسائل الديمقراطية والسلام وغيرها؟ وهذا ما يفسر أن يوسي بيلين بدا كمن يدفع لإعلان موقف لا يريده، كما كتبت سيما كدمون في صحيفة «يديعوت أحرونوت» 7/6/2002 أم لعله ينفس عن رغباته خارج مخدع الزوجية. ويعلن أنه يبغض الطلاق؟
قد يخرج حزب العمل من الحكومة، وقد يفوز رامون في الانتخابات التمهيدية القادمة، وقد تطرأ مفاجآت كثيرة، إلا أن ما يجري يؤكد أن حزب العمل ماضٍ في التلاشي. وهذا تعبير عن أزمة اليسار الإسرائيلي بدرجة كبيرة.