|
رابطة العمل الشيوعي في سوريا - عرض – تحليل - نقد
كامل عباس
الحوار المتمدن-العدد: 828 - 2004 / 5 / 8 - 07:09
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
.مقدمة : للفكر الشيوعي ككل فكر نظري (نشأ وسينشأ في مجتمع منقسم على نفسه)، جانبان. جانب معرفي وجانب إيديولوجي. ومع أن ماركس ورفيقه أنجلز ربطا بين الشيوعية والعلم لأوّل مرة في التاريخ، وأعطيا دفعة كبيرة للجانب المعرفي فيه، إلا أنّ شيوعيتهما لم تتخلّص ولم يكن بإمكانها أن تتخلص من الإيديولوجيا. وما ادعاء تلك الشيوعية بأن فلسفة الطبقة العاملة جزء من المعرفة سوى إيديولوجيا وجدت ترجمتها في الحقل السياسي برفع شعار ديكتاتورية البروليتاريا وعدم الجمع الخلاّق بين الطبقي والإنساني. كان من المفروض أن يتقدم البعد المعرفي على حساب البعد الإيديولوجي في الفكر الشيوعي بعد ماركس وأنجلز، ولكن ما جرى بعدهما في هذا المضمار كان خطوة إلى الوراء. وقد تتابعت الخطوات حتى سيطر البعد الإيديولوجي كلياً داخل الحركة الشيوعية الرسمية تحديداً. لذلك كان من الطبيعي أن يحمل الهم المعرفي شيوعيون من خارج تلك الحركة، هم على الغالب مثقفون مكّنتهم ثقافتهم وتحصيلهم الفلسفي والعلمي من الإحاطة بقوانين الحركة الاجتماعية ككل. في بلادنا العربية كانت الأحزاب الشيوعية الرسمية أكثر ارتباطاً بالنهج السوفياتي وتموجاته الإيديولوجية من كافة الأحزاب الأخرى داخل تلك الحركة، حيث نظرت إلى كثير من مقولاتها وكأنها بديهيات ومسلمات علمية مثل مقولة الحتمية التاريخية، واللوحة الخماسية الستالينية الشهيرة التي تضرب التاريخ على أنفه حتى يدخل رغماً عنه في مخططها. مشاع، رق، إقطاع، رأسمالية، اشتراكية. أما في سوريا، فقد كانت البكداشية هلي الرائدة في هذا المجال وليس للحزب الشيوعي السوري أي اجتهادات نظرية أو سياسية داخل تلك الحركة. ولذلك كان من الطبيعي أن يميز كثير من المثقفين السوريين حاملي القناعات النظرية الشيوعية أنفسهم عن ذلك الحزب، وهو ما شكّل الأرضية الأولى لظاهرة الحلقات الماركسية في سوريا... ظاهرة الحلقات الماركسية في سوريا: شهدت سوريا في الخمسينات حالات فردية عديدة في أكثر من موقع أطلق عليها من قبل الشارع السياسي لقب ماركسي، وكانت تعني أن المشار إليه بذلك شيوعي غير ملتزم بالحزب الشيوعي السوري. لكنها لم تتحول إلى ظاهرة مُؤطرة ضمن حلقات أو شلل أو مجموعات إلا بعد حرب حزيران عام 1967. لقد هزّت حرب حزيران وجدان المثقف العربي عموماً والقومي السوري خصوصاً بكل تلاوينه. قوميين عرب، قوميين سوريين، ناصريين، بعثيين، اشتراكيين عرب... إلخ. ودفعت مثقفي ذلك التيار كي يستعمل عقله بدلاً من ضميره لتفسير أسباب الهزيمة، ومن ثم مجابهة العدو التاريخي المغتصب لفلسطين. وقد راكم لتلك الصحوة العقلية وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة وانفتاحه على الفكر التقدمي والسماح بترجمته وتواجده الحر في المكتبات السورية حتى ولو كان يحمل نزعة الإلحاد علانية. ولم يكن مصدره مقصوراً على الكتب والترجمات السوفياتية، لا بل ساهم حزب البعث خاصة بعد حركة 23 شباط بنشر الفكر العلماني عندما تبنى إصدار سلسلة المناضل ومن بينها كتيبات تعرف بالديالكتيك ومقولاته وقوانينه المادية نذكر منها «عرض موجز للمادية الديالكتية»، و«عرض موجز للمادية التاريخية». تأليف سبيركن وياخوت، وقد ساهمت تلك الكتب وحرية الوصول إليها بثمن بخس في بروز ظاهرة الحلقات الماركسية في سوريا بعد الحرب لتصبح ذات حضور سياسي واضح في الشارع السوري أواخر الستينات. كان لكل حلقة منشأ وتطورٌ خاص بها. منها ما بدأ طريقه بالتحلق حول رمز له حضوره الثقافي والاجتماعي في قريته أو مدينته، ومنها ما كان عبارة عن تكرار للقاءات عفوية بين مثقفين متقاربين في السن والتطلعات الاجتماعية يجتمعون على موائد الشرب حيث يحلو الكلام في السياسة والثقافة. ومنها ما أصبح له اجتماعات دورية وبرنامج خاص به، واشتراكات مالية ومهمات ثقافية وسياسية واجتماعية في منطقة تواجده الجغرافية. وبُحكم منشأ تلك الحلقات فلقد كان للبعد المعرفي النصيب الأكبر فيها. فلم يكن أحد معصوم لديها من الخطأ بما فيه ماركس وأنجلز، والكل يخضع للنقد. وكان هاجسها الأساسي إنتاج رؤيا نظرية للمشاكل العربية على أرضية ماركسية. ومن أهم الموضوعات التي شغلت تلك الحلقات: 1 ـ موضوع البيروقراطية في الأحزاب الشيوعية. 2 ـ أوجه الشبه والاختلاف بين أسس التنظيم عند ماركس ولينين. 3 ـ أنماط الإنتاج وتعاقبها في الشرق. 4 ـ الإسلام والهوية. 5 ـ القضية القومية. 6 ـ القضية الفلسطينية. 7 ـ الطبقات الاجتماعية في سوريا وأسباب صعود البرجوازية الصغيرة. 8 ـ الطبقة العاملة السورية ودرجة تبلورها ووعيها لذاتها كطبقة. 9 ـ موضوع الأسرة الشرقية البطريركية وتحرر المرأة. كما أن العديد من تلك الحلقات انشغل بدراسات ميدانية جمع فيها إحصاءات حول موضوع الطائفية في سوريا ووزن كل طائفة وأسباب توزعها الجغرافي. ولكن الآية انقلبت بعد حرب تشرين ليطغى على تلك الحلقات الهم الإيديولوجي، وتحديداً السياسي. وليصبح لكلٍ فهمه الشيوعي الأممي. وقد كان هناك تباينٌ بين حلقة وأخرى، لا بل بين أفراد الحلقة الواحدة أحياناً. فمنهم من كان يجد نفسه منسجماً مع الأممية الرابعة ورؤيتها السياسية، وآخرون مع الفهم المادي، وآخرون مع الفهم الكلاسيكي للحركة الشيوعية العالمية. وكل يسحب فهمه على الوضع الداخلي. فهذا يرى أن السلطة السورية جزء لا يتجزأ من حركة التحرر العالمية، واعتراضه على الامتداد الداخلي للحركة الشيوعية الرسمية. الحزب الشيوعي السوري وممارساته الانتهازية بسبب تركيبة قيادته الانتهازية، ومنهم من يرى أن تلك السلطة أخطر من أي سلطة رجعية، وهي تنفذ بذكاء مخطط إمبريالي أمريكي، ولا تحرر سياسي أو اجتماعي قبل إسقاطها. في النصف الأول من عام 1974 ، وبعد أن وضعت حرب تشرين أوزارها ورأى فيها العديد من رموز الحلقات حرب تحريكية من أجل إنجاز تسوية ما في الشرق الأوسط. كان واقع الحلقات كما يلي: ـ حلقة في مدينة اللاذقية لها فروعها في ريف جبلة واللاذقية، نشأت عل أنقاض حلقة قديمة تفككت بعدما أصبح أحد رموزها أمين فرع حزب البعث في اللاذقية. ـ حلقة في حماة جُلّ أعضائها من حركة الاشتراكيين العرب، وأبرز رمز فيها كان عضواً قيادياً في تلك الحركة. ـ حلقة في دير الزور هي فرع لحركة القوميين العرب. هناك انفصلت عن الحركة وتبنّت الماركسية. ـ حلقة في جامعة دمشق أغلب أعضائها طلابٌ في كلية الطب. ـ حلقة في جامعة حلب تتمركز في كلية الاقتصاد وأخرى داخل اتحاد العمال. ـ حلقة في الغاب أغلب رموزها فلاّحون تأثروا بالإصلاح الزراعي هناك. ـ حلقة داخل الجيش العربي السوري على الحدود السورية الإسرائيلية في الجولان. أبرز رموزها ضباطاً وجنوداً يؤدون الخدمة الإلزامية هناك. وقد لعب هؤلاء مع رموز طلابية أخرى صلة الوصل بين الحلقات، وتم تبادل الدراسات والأفكار بسبب حركة هؤلاء الإجبارية وتنقلهم من محافظة إلى أخرى. كل الحلقات المذكورة كانت تسترشد بالماركسية اللينينية كمنهج ودليل عمل، وإن كان لبعض رموزها اعتراض على اللينينية في حقل التنظيم. ولذلك استبعد الاتصال لاحقاً بحلقات أخرى لا تضبط إيقاعها على هذا النهج. مثل الحلقة التي تحوّلت فيما بعد إلى المنظمة الشيوعية العربية وتبنّت استراتيجية العنف الثوري لإيقاظ الجماهير النائمة، ومارست عمليات تفجيرية ضد المصالح الأمريكية من أجل ذلك. وحلقة المجالسين في دمشق وأبرز رموزها العفيف الأخضر، والتي كانت ترى أن الطبقة العاملة تعي ذاتها بذاتها وليست بحاجة إلى وسيط من المثقفين لينقل إليها الوعي. وقد أصدرت تلك الحلقة مجلة اسمها «سلطة المجالس»، كتب على غلاف العدد الأول بالقلم العريض: إن عقليتنا العربية بحاجة إلى الصدم حتى الخرى والبول عليها... فيما بعد برز اتجاهان داخل الحلقات الماركسية ردّاً على سؤال: ما العمل؟ الذي طُرح على رموز الحلقات. ـ اتجاه يقول بأن الظرف الموضوعي غير ناضج لقيام تنظيم ثوري في سوريا على طراز ما العمل في روسيا، بسبب ركود الحركة التحتية، وأي عمل بهذا الاتجاه في الظرف الحالي هو قسر لصيرورة الظاهرة وتشويه لها. ويكفي العمل هذه المرحلة في حقل الإنتاج النظري، وذلك ليس قليلاً. فأنجلز مثلاً يضع النضال النظري في مصاف النضال الاقتصادي والسياسي. ولينين يقول: لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. وحركتنا الشيوعية العربية بشكل عام، والسورية بشكل خاص لم تبدأ من النظرية. لا بل يمكن القول بثقة أن تلك الحركة لم تقدم شيئاً يذكر لإغناء الماركسية على أرضية الخاص العربي، وأمامنا الكثير على هذا الطريق، ولم ننجز منه شيئاً بعد. ـ اتجاه آخر يرى بأن واقع الحلقات يسمح بالارتقاء نحو خطوة تنظيمية أرقى. لا بل إن ذلك ضرورة من الوجهة الثورية النضالية كي لا تتحلل الظاهرة، وأي تأخر عن ذلك هو جُبن وانتهازية وضرب من ضروب الترف الثقافي المميز لمنظّري المقاهي. والماركسية بجوهرها فلسفة التغيير لا التفسير. وقد باشر أصحاب وجهة النظر تلك عملهم فوراً فجمعوا وبوبوا واستخلصوا المنحى العام لتلك الحركة وعقدوا اجتماعاً أواخر عام 1974 صدر عنه خلاصة لتلك الدراسات تتضمن موقفاً سياسياً توفيقياً تجاه البعد الأممي من أجل شد كل الأطراف نحو التنظيم، وقاموا بإيصاله إلى كافة الحلقات، وطالبوا بتقديم الملاحظات عليه جماعات أو أفراداً، وإرسال من يحوز على أي دراسة في أي موضوع كان إلى المركز للاستفادة منها. في النصف الثاني من عام 1975 اجتمع نصف العدد السابق تقريباً من كوادر الاجتماع الأول، وأقرّوا لائحة تنظيمية واسماً للتنظيم السري الجديد هو «عصبة الثوريين». وهو دليل على تأثير كوادر الحلقات القديمة التي كانت تود العودة إلى ماركس وعصبته الشيوعية في التنظيم، وليس إلى لينين. وحددوا المهمة اللاحقة بأنها مهمة دعاوية مُدتها عام كامل تصدر فيه الدراسات تباعاً من العام إلى الخاص. ولكنها لن تصل إلا إلى من التزم بالتنظيم الجديد، وحمل اسماً حركياً وانخرط في خلية أو منطقة تابعة للمركز. وقد صدرت تلك الممنوعات تباعاً بعد أن حُذف الاسم عنها، لأن توزيعها ترافق مع ملاحقة واعتقال السلطة لكوادر المنظمة الشيوعية العربية. وخوفاً من الالتباس والعواقب الأمنية، وكانت بالترتيب على الشكل التالي، وبين الواحدة والأخرى أسبوعان أو ثلاثة. 1 ـ ملامح الصراع الطبقي على المستوى العالمي. 2 ـ الأممية والحركة الشيوعية العالمية. 3 ـ العنف الثوري وأشكال الانتقال إلى الاشتراكية. 4 ـ الثورة العربية والحزب الشيوعي العربي. 5 ـ القضية القومية. 6 ـ القضية الفلسطينية. 7 ـ البرجوازية الصغيرة والسلطة السورية. 8 ـ الجبهة والتحالفات. 9 ـ الطبقة العاملة السورية. 10 ـ الحركة الشيوعية المحلية. كانت تلك الدراسات عصارة فكر الحلقات الأول ذو السمة النقدية العقلانية الهادئة المتزنة التحليلية، والتي تلتقي في المنحى العام مع الحركة الشيوعية العالمية مع بعض التمايزات. فمثلاً، سمة العصر يقابلها موضوع الصراع الطبقي العالمي. وتصنيفها لمعكسر الثورة والثورة المضادة يشبه تصنيف الحركة الشيوعية العالمية، فمعسكر الثورة هو منظومة الدول الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي وحركة التحرر العالمية. والطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية، ولكن الثقل والعامل الحاسم في كل ثورة ليس المعسكر الاشتراكي كما ترى الحركة الرسمية على طول الخط، بل يعود إلى حرارة الصراع تبعاً للظروف. وبالنسبة للواقع العربي رأت أن طابع الثورة القادمة ديمقراطي بشكل عام، وإن كان قد تم إنجاز بعض تلك المهام في بعض الساحات العربية. فقد تم بشكل مشوه ومبتور ولا بد من استكمالها من أسفل إلى أعلى بتحالفات واسعة وديمقراطية وعريضة. ولكن، وقبل انتهاء صدور الموضوعات الاستراتيجية خرج الرفاق عن مهمتهم الدعاوية المركزية فأصدروا نشرة تحريضية سمّوها (1 أيار)، تنتهي بصفحة كاريكاتير سياسي. وعللوا ذلك بأنهم يريدون أن يضعوا رفاقهم الملتزمين بصورة الصراع الطبقي الجاري في سوريا وحركته كي يستطيعوا أن يستخلصوا الدروس النظرية والسياسية، وليست موجهة للجماهير. ولكن دخول الجيش السوري إلى لبنان أعطى هؤلاء الشجاعة الكافية للإعلان عن نواياهم الحقيقية. وفعلاً صدر بيانان سياسيان: الأول ، على الجميع أن يعرفوا ماذا جرى ويجري في لبنـان . والثاني ، يا حكام سوريا ارفعوا أيديكم عن لبنان. وتم توزيعهما على نطاق واسع، في الشارع، والجامعة، والسينما... إلخ. كان ذلك السلوك التحريضي القشة التي قصمت ظهر البعير، وسببت الطلاق التام بين التيارين المذكورين آنفاً، فقد رأى التيار العقلاني إذا صح التعبير أن الرفاق سائرين لا محالة للاصطدام مع السلطة في ظل اختلال توازن القوى كلياً لغير مصلحتهم ومصلحة أوهامهم، وهو ما سيسبب خراب بيوتهم وبيوت أصدقائهم أيضاً. وهكذا تلاشت ظاهرة الحلقات الماركسية في سوريا بعد حوالي عشر سنوات على ظهورها، وهي مدة على قصرها غنية بالعبر والدلالات، وأهمها عبرتان: الأولى: إن تحرر الظاهرة الكامل من الوصاية الإيديولوجية جعلها تفهم الشيوعية كمنهج مادي جدلي، وليست ديناً جديداً له طقوسه وأنبياؤه ونصوصه المقدسة. الثانية: استشفافها المبكر لمآل الحركة الشيوعية وأحزابها البيروقراطية بسبب بينتها التنظيمية المبنية على الفهم اللينيني للتنظيم وطرازه المرسوم في قرآن الشيوعيين ـ ما العمل ـ.
رابطة العمل الشيوعي المرحلة الأولى : ولدت رابطة العمل الشيوعي من رحم الحلقات الماركسية ولادة قيصرية سببتها الحرب الأهلية اللبنانية، ودخول الجيش السوري إلى هناك. في 28 آب عام 1976 اجتمع في مدينة حلب (24) أربع وعشرون مندوباً (أطلق عليه فيما بعد اسم الاجتماع الثالث الموسع)، القسم الأعظم منهم لم يتجاوز الثلاثين من عمره. وأبرزهم: 1 ـ عباس عباس . 2 ـ فاتح جاموس. 3 ـ أصلان عبد الكريم. 4 ـ محمد معمار. 5 ـ أحمد جمّول. 6 ـ هيثم العودات (مناع). 7 ـ حسين أمّارة. 8 ـ يوسف البني. 9 ـ مصطفى خليفة. 10 ـ جهاد عنّابة. 11 ـ كامل عباس. 12 ـ وجيه غانم. 13 ـ نهاد نحاس. 14 ـ زياد مشهور. 15 ـ حامد المحمود. وعلى مدى ثلاثة أيام بلياليها ناقش المجتمعون ضرورة ولادة تنظيم ثوري جديد في سوريا يرفد الحركة الوطنية اللبنانية، ويقاتل إلى جانبها، ويعبّر عن صوت سوري داخلي محتج على الموقف السوري تجاهها. وقد حرص المؤتمرون أن يكون ذلك الصوت مستقبلاً نابعاً من العمق السوري يستمد شرعيته وديمومته من الداخل ويرفض أي دعم مالي من جهة خارجية، وتحديداً من اليسار الفلسطيني لكي لا يقع تحت وصايته كما جرى للعديد من التنظيمات العربية. هذا على المستوى السياسي، أما على المستوى النظري والتنظيمي، فقد كان الصراع بين ماركس ولينين حاضراً في المؤتمر. فأنصار عصبة الثوريين مثلاً يودون تنظيماً مفعماً بالمؤتمرات، كل ستة أشهر للمنطقيات، وكل سنة للمؤتمر العام، ويحق للمؤتمرين دائماً عزل وإسقاط من لم تثبت جدارته في أي هيئة قيادية، تماماً كما كان الحال في عصبة الشيوعيين أيام ماركس، وأصحاب النهج اللينيني يعرفون أن تنظيماً كهذا محله في أوروبا، وليس في بلد لن تطول المواجهة فيه بين التنظيم الوليد والسلطة. ولذلك انحنوا للموجة لأنهم يعلمون أنهم سيكسبون الجولة عند أوّل حملة قمع، لكن الجميع كانوا متفقين على منع زحف البيروقراطية إلى التنظيم مستقبلاً. من أجل ذلك تجنبوا كلمة «أمين» في التنظيم، وغيروا اسم اللجنة المركزية إلى هيئة مركزية، واسم المكتب السياسي إلى لجنة عمل لتلك الهيئة، ولجنة العمل تنتخب من الهيئة المركزية كل اجتماع لها، وتوزع المهام بين أعضائها. مسؤول تنظيمي، مسؤول مالي، مسؤول علاقات خارجية، مسؤول دعاوي... كما انتخبوا لجنة رقابة على الهيئة المركزية من خارجها. وكل قراراتهم تقوم على قاعدة التزام الأقلية بالأغلبية، ولكن الأقلية يحق لها النضال من أجل تحويل وجهة نظرها إلى أغلبية، والانتصار في المؤتمر القادم عبر الدعاية لأطروحاتها في مجلة داخلية تحمل اسم البروليتاري. أما اللائحة المالية الملحقة باللائحة التنظيمية فكانت أشبه بضريبة تصاعدية على دخل الرفاق، لأن التمويل محصور بالاشتراكات والتبرعات الرفاقية... شقّت ـ الراية الحمراء ـ لسان حال التنظيم الوليد، طريقها في الساحة السورية بعد المؤتمر مباشرة، وكان فيها من الجرأة والشجاعة في قول الحقيقة وتسمية الأمور بمسمياتها ما لم يكن معهوداً من قبل السلطة ورموزها، ولكنها أمهلتها حتى استقر وضعها في لبنان لتعود فتسكت هذا الصوت النشاز، فكانت أول حملة قمع بعد صدور ستة أعداد لحل الرايـة في 24 آذار عام 1977... أوكلت مهمة القضاء على الرابطة إلى جهاز أمن الدولة في سوريا، وقد تعرّف على أبعاد المنظمة ونشاطها وكيفية تمويلها وارتباطاتها الداخلية والخارجية، وكوّن انطباعاً عاماً عنها. شباب وطنيون متحمسون، خبرتهم السياسية محدودة، سلاحهم الوحيد هو الكلمة. ولذلك لم يكن على عجلة من أمره في تصفيتها. وكانت لجنة العمل محتاطة للأمر، مما سهّل على التنظيم الاستمرار ولملمة الجراح، وإعطاء أوامر للرفاق المطلوبين بالتواري عن أعين الأمن. وبدلاً من أن تكون تلك الحملة حافزاً للتفكير بالتروي وعدم المواجهة مع السلطة، هرب الرفاق إلى الأمام فبدأ الفعل ورد الفعل بين السلطة والمنظمة. بعد الحملة الأولى قام الرفاق بطبع الخط الاستراتيجي ضمن كراسات أنيقة وتمّ نقله على ظهور البغال من لبنان وتوزيعه في كل المحافظات السورية توزيعاً شبه تحريضي، وأجريت بعض التعديلات عليه لصالح حماس وانفعال الشباب في تقييمهم للسلطة، فبدلاً من استعمال عقلهم وتفهم دوافع السلطة السورية في لجم ساحة يمكن أن تعرقل عملها لمصلحة إجراء تسوية للشرق الأوسط مبنية على التوازن الاستراتيجي العسكري بالتعاون مع السوفيات، انتهى كرّاس السلطة السورية والبرجوازية الصغيرة بكلام منمّق أدبي يقول: لقد سقطت ورقة التوت عن فرج تلك العاهرة التي تغنّت بعذريتها طويلاً ووقفت شامخة في معسكر الإمبريالية، ومن لا يصدق فلينظر ماذا فعلت بالمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية بعدما استولت على أكثر من 80% من الساحة اللبنانية. م . وفي كراس القضية الفلسطينية، رأى الشباب أن تحرير كامل التراب الفلسطيني يتطلّب إسقاط إحدى دول الطوق، وقد استبعد الرفاق الساحة الأردنية لأنها لا تحمل الأهمية الكافية وفهم القارىء سيدله أي دولة يريدون إسقاطها. وقد كان هذا الهروب إلى الأمام محرجاً لرجال الأمن أمام قيادتهم السياسية فجاءت الحملة الثانية أشرس وأعنف كمّاً وكيفاً في أيار 1978، وقد شملت الحملة عضو التنظيم ومفاصله كلها تقريباً، ولم يبق من الهيئة المركزية سوى ثلاثة، هم: أصلان عبد الكريم، فاتح جاموس ونهاد نحاس. أما أحمد جمّول وهيثم العودات اللذان لم يعتقلا، فقد فضلا أن ينجوا بجلديهما وغادرا التنظيم والساحة السورية كلياً. وهكذا وجد الرفاق أنفسهم وجهاً لوجه مع طراز حزب لينين المرسوم في كتابه «ما العمل»، وصنع الثورة في سوريا على طريقة البلاشفة في روسيا بدزينة الأذكياء والاحتراف الثوري، فأصبحوا أصوليين لينينيين يسحبون سحباً ميكانيكياً تجربة البلاشفة في روسيا على سوريا. وبدا كأن العقل أخذ إجازة بسبب وتيرة القمع وتصاعدها. كل حملة تصيب المنظمة بنزيف كادري مضاعف. من لم يذهب إلى السجن فضّل ترك المنظمة بسبب تلك المواجهة لينضم إليها شباب جدد حالمين معجبين بتلك المواجهة الفروسية، وليتعلموا السياسة من خلال الاحتراف وتكييف حياتهم بشكل كامل مع مصلحة التنظيم. بعد الحملة الثانية ترممت المركزية من رفاق كلهم مطلوبون لدى الأمن، أي محترفين ثوريين رغماً عنهم. فأصبحت أوائل عام 1979 كما يلي: 1 ـ فاتح جاموس . 2 ـ أصلان عبد الكريم . 3 ـ نهاد نحاس . 4 ـ علي الكردي . 5 ـ كامل عباس. 6 ـ منيف ملحم. 7 ـ وائل السواح. 8 ـ حسام علوش . 9 ـ أحمد رزق.10 ـ مصطفى خليفة . 11 ـ زياد مشهور زادها الشجاعة والجرأة والاستمرار في قول الحقيقة مهما تكن النتائج. وقد تجلى الهروب إلى الأمام على صعيد النظرية والممارسة . فعلى صعيد النظرية تم تطوير أهم موضوعة في الخط الاستراتيجي لا بل نسفها كلياً . لتصبح طبيعة الثورة القادمة في سورية ثورة اشتراكية . فطبيعة الثورة يحددها نمط الإنتاج السائد ونمط الإنتاج البديل . والثورة الديمقراطية في سوريا قد أنجزت كلها تقريباً وما بقي منها على عاتق الجبهة الشعبية المتحدة بقيادة الحزب الثوري، وانسجاماً مع الموضوعة رفع الرفاق شعار إسقاط السلطة على أوسع نطاق . كما أنهم رأوا أن دور الذات أكبر من دور الموضوع في صنع الثورة داخل البلدان المتخلفة، وبالتالي على الحركة السياسية استنهاض الحركة العفوية وليس انتظارها أو التلاقي مع حركتها، وانسجاماً مع ذلك رأى الرفاق أن عليهم أن يزيدوا في تحريضهم كماً ونوعاً فأصبح توزيع البيانات والراية الحمراء قطاعياً وتحريضياً وأسبوعياً، ونتيجة لهذا النشاط الجديد سحب فرع الأمن العسكري الملف من أيدي أمن الدولة ليشن حملة مفتوحة حتى يقضي على التنظيم كلياً . وفي آذار 1979 اجتمعت المركزية لتدارس الوضع ولم يكن قد بقي منها سوى تسعة فقط , هم أصلان عبد الكريم , فاتح جاموس, نهاد نحاس , منيف ملحم, كامل عباس , وائل السواح , أحمد رزق, زياد مشهور , علي الكردي . كان الاجتماع عاصفاً ومتوتراً ومشحوناً بالخوف والغضب معاً وقد طرحت فيه آراء عديدة متباينة ومتناقضة تماماً , منها مثلاً رأي يطالب بحل المنظمة والعودة إلى مرحة الحلقات الماركسية , الوجه المقابل له , مزيداً من النشاط السياسي والتحريضي مهما تكن النتائج , وقد اتفق المجتمعون بعد مداولات استمرت طويلاً على حماية المنظمة كصوت سياسي وتغيير النهج السابق القائم على التضحية بالمنظمة كشهداء على تلك المرحلة أمام محكمة التاريخ, من أجل ذلك تقرر لأول مرة في تاريخ المنظمة تشكيل قيادة ظل ترحل حالاً من سوريا , إلى لبنان وهي بنفس الوقت هيئة تحرير الراية , مشكّلة من أصلان عبد الكريم , كامل عباس , وائل السواح , أحمد رزق , والخمسة الباقون داخل سوريا هم لجنة عمل , ينحصر عملهم في توزيع الجريدة التي ستصدر بأوقات متباعدة وليس أسبوعياً , وحسب الإمكانية , وتسلم باليد للرفاق والأصدقاء والقوى السياسية , وتلملم جراح المطاردين والمطلوبين ما أمكنها ذلك. وإذا تم اعتقالها وهو الأرجح . تقوم قيادة الظل بالعودة إلى سوريا وبهدوء من أجل استمرار المنظمة كصوت سياسي. وقد تبنى المؤتمرون قراراً بالأغلبية طبعاً يدين المرحلة السابقة ويقول: ساد في المرحلة السابقة داخل المنظمة نزوع يساري بشكل عام تجلى بالتوزيع القطاعي والتحريضي. وبشكل عام، وبعد الولادة القيصرية للحلقات شب الجنين وترعرع في كنف اللينينية وأصبحت المنظمة في تلك المرحلية منظمة أصولية لينينية تحكمها القاعدة الفقهية الأصولية قياس الشاهد على الغائب، وتحولت من سلطة العقل إلى سلطة النقل، ونادراً ما خلا افتتاح مقال أو كراس من نص مقدس يتم الاستشهاد به. وتم سحب المرحلة الروسية بأكملها إلى سوريا، وغرّ الشباب بعض أوجه التشابه بين المرحلتين ومنها انتشار الحلقات العام والمعنوي في روسيا أوائل القرن وفي سوريا أوائل السبعينات وما نتج عن حركة الاثنين من منظمات . مثل منظمة النهوض . والفصيل الشيوعي , واتحاد النضال الشيوعي . والمنظمة الشيوعية العربية وكلها يمكن أن تجد لها شبيهاً في روسيا آنذاك، إضافة إلى الماركسيين العلنيين والشرعيين التي كانت تعج بأصواتهم صحف سوريا وروسيا في المرحلتين المذكورتين. وكانت أهم أوجه التشابه هو طبيعة القمع المعمم على الشعبين وازدياد شدته ووتيرته . ففي روسيا هناك جنود القيصر يلاحقون كل معارض بلا حسيب أو رقيب . وفي سوريا هناك قانون طوارئ قائم منذ سنين . كل عام يتوسع ليشمل مجالاً جديداً يرافقه نمو وتضخم الأجهزة الأمنية. أمن سياسي , أمن عسكري , أمن دولة , أمن سرايا , أمن جوي , أمن قصر , ولكل فرع دولته المستقلة وجواسيسه ومخبروه حتى أصبحت النكتة في الشارع السوري, لكل مواطن مخبر من أجل حماية الثورة. توهج حلم المنظمة بانتصار الثورة العربية بوجود ظاهرة مشابهة في مصر أفرزت حزب العمال الشيوعي المصري , ومصر وسوريا هما عمق الثورة العربية , والثورة العربية بموقعها الجغرافي وماضيها الحضاري ستضغط على البيروقراطية في الدول الاشتراكية وتعيد للينينية زخمها الثوري من جديد . وبذلك نلعب مرة أخرى كعرب دوراً حضارياً ومركزياً في التاريخ . كما كان على أيام الرسول العربي وبشكل أرقى هذه المرة . وبهذا الشكل كانت أحلامهم المهزلة لأحلام لينين والبلاشفة ومستمدة منها ومن دفاعه عنها في كتابه ما العمل . لقد كانت أوجه الخلاف أكبر بكثير من هذا التشابه الظاهري . فالحلقات الماركسية في روسيا كان للمسألة الطبقية الدور الأول في نشوئها. أي التناقض بين الغنى والفقر . في حين جاءت الحلقات الماركسية في سوريا وليدة المسألة الوطنية , أي نتيجة الهزيمة , ولم يكن المجتمع يعاني من الفقر المدقع، بل كانت الجماهير في بحبوحة نسبياً بعد التأميم وبعض الإصلاحات الاجتماعية . الحلقات الماركسية في روسيا جاءت رداً على إفلاس نظام أوتوقراطي قيصري من كافة الجهات في حين جاءت الحلقات الماركسية في سوريا ضمن نظام يُعتبر وطنياً بعرف المعسكر الاشتراكي، وكل حركات التحرر في العالم وفي مجابهة مع الإمبريالية. ونتيجة لهذا الاختلاف جاءت الحلقات في روسيا وسط تناغم بديع بين الحركة السياسية التقدمية بشقيها الشيوعي والقومي (الشعبيين)، وبين الحركة العفوية. في حين لعبت حرب حزيران دوراً متعاكساً على الحركة السياسية التقدمية والعفوية في سوريا. وهذه النقطة أهم فارق بينهما، ففي حين رأت الحركة السياسية التقدمية أن عليها مضاعفة الجهود من أجل إزالة آثار العدوان، وأن الوطن أهم من كل شيء، وكلما رأيت قذارة في وطني يجب أن ازداد تعلقاً به لا الهرب منه. فبدأت مرحلة الصعود والصحوة القومية. كان مسار الحركة العفوية على العكس تماماً، فلقد كفرت بالوطن والوطنية، وبالتقدم والاشتراكية، ورأت في ذلك السبب الجوهري لمعاناتها. باسم الوطن والدفاع عنه يُقتطع جزء من طعام الأطفال، ووزارة الدفاع حصتها في الميزانية أكثر من 70%، وبستة أيام تذهب أخصب محافظة لتصبح ملحقة بالعدو التاريخي، وجيشها العقائدي المدافع عنها يهرب كيفياً تاركاً سلاحه في أرض المعركة. وبدلاً من أن تخف وتيرة القمع والنهب باسم الوطن تزداد على عامة الشعب. أمام هذا الواقع، كان المنحى العام للحركة الشعبية في هبوط، وبالهروب نحو السماء لكي تعوّض عن معاناتها في الأرض على عكس الحركة السياسية القادرة على تفسير تلازم القمع مع الوطنية عند أنظمة كتلك. واستمر التفارق بين الحركتين طيلة فترة الحلقات والرابطة دون أن يلتقط الرفاق الخيط، ويدركون الفارق بين صنع الثورة في روسيا وصنعها في سوريا... تجلت تلك الأصولية اللينينية في علاقة المنظمة بالقوى السياسية أيضاً وباستعمال عبارات بعينها عند لينين في وصف تلك القوى من الإصلاحية إلى الانتهازية، إلى تخوين كثير من رفاقه الشيوعيين مثل بليخانوف عندما خالفوه رأيه. تجلت تلك الأصولية بالدعوة إلى مركز أممي موجه مثل دعوة لينين من أجل إنشاء أممية ثالثة واستشهدوا بنصه. (وبالرغم من أننا لا نعرف كيف ستتطور الأمور في المستقبل، إلا أننا سنعمل بلا كلل من أجل فرع روسي لأممية جديدة)، وهنا فرع عربي. وهكذا، بدلاً من الدعوة إلى مزيد من الاستقلالية في كل ساحة، والتنسيق والتشاور بين الشيوعيين لرسم منحى عام للنضال في كل منطقة على حدة بسبب تطور البشرية بعد لينين، نعود إلى الوراء لنشكل هيئة أركان جديدة من خمسة أشخاص على مستوى العالم المترامي الأطراف يقودون كومنترن جديد. ولقد ارتمى الرفاق في النهاية بأحضان اليسار الجديد كلياً، واليسار الجديد على المستوى العالمي ظهر بعد أحداث أيار في فرنسا عام 1968، أي بنفس فترة نشوء الظاهرة في سوريا. وهو يفصل فصلاً تعسفياً بين الستالينية واللينينية، وبعض اتجاهاته ترى أن الأزمة في الحركة الشيوعية الرسمية بدأت بعد المؤتمر العشرين للاتحاد السوفياتي، ولذلك أنبياؤها أربعة هم: ماركس، أنجلز، لينين، ستالين. مثل حزب العمال الشيوعي المصري، وهو على العموم يقف موقفاً وسطاً بين الحركة الشيوعية الرسمية واليسار المتطرف، إذ أن تطرفه على مستوى الكلمة وليس السلاح. ولقد كان الرفاق كعادتهم منسجمين مع أنفسهم، وعملوا ما بوسعهم في التنسيق مع أطراف اليسار الجديد في المنطقة. حزب العمال الشيوعي الكردستاني، حزب العمل الشيوعي في تركيا، فدائيي خلق في إيران، ودعوا إلى مؤتمر لكومنترن عربي من اليسار الجديد يحضره حزب العمال الشيوعي المصري، ورابطة العمل الشيوعي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية في البحرين، ومنظمة 23 مارس في المغرب، ومجموعة الحقيقة في تونس. ولكن جهودهم باءت بالفشل. والخلاصة، لقد دُفعت الرابطة للانتقال كلياً لتكون صوت الضمير في سوريا بدلاً من صوت العقل، وكان الدافع الرئيسي لذلك هو القمع المعمم على الظاهرة، والطريقة الأمنية الوحيدة التي استعملتها السلطة من أجل القضاء عليها، والقمع في كل مكان مُسكن للأزمات السياسية أو الاجتماعية. ولكن الأزمة تنفجر في المستقبل مهما طال الزمن، وبشكل أعنف من السابق. رابطة العمل الشيوعي المرحلة الثانية : انفجر الصراع المسلح بين السلطة والأخوان المسلمين بعد مجزرة المدفعية التي وقعت في حلب، 16 حزيران 1979، في وقت كانت فيه فروع الأمن بقيادة الأمن العسكري مشغولة بالوصول إلى رأس الرابطة لفصله عن جسدها، وبالتالي تفكيكها كلياً. تنفست قيادة المنظمة الصعداء بعد المجزرة، لأن رجال الأمن انشغلوا بما هو أهم وأخطر غصباً عنهم، وقد تنادت هيئتها المركزية الموزعة بين لبنان وسوريا للاجتماع من أجل إصدار بيان سياسي حول المستجدات الأخيرة. وكان الجديد في ذلك الاجتماع، موقفاً سياسياً هادئاً متزناً لم يتعامل بردة الفعل أو الشماتة إذا صح التعبير قادهم إليه اهتماماتهم النظرية تحديداً حول الهيمنة والسيطرة الطبقية لدى حدوث أزمة بين الشرائح البرجوازية، والتي تحدث عموماً في ظل ركود تحتي كامل. رأوا أولاً بحركة الأخوان المسلمين حركة رجعية تريد أن تعود بالبلاد إلى القرون الوسطى، يقف وراءها شرائح من البرجوازية التقليدية حيث تجد فرصتها التاريخية في الانقضاض على السلطة وإزالة البرجوازية البيروقراطية. تلك البرجوازية التي تخسر يومياً على سبيل المثال لا الحصر أكثر من مليون ليرة من تسويق السلطة للأقطان، وأن المنظمة ستراقب باهتمام بالغ تطور الصراع وما يستلزمه من تغيير في تكتيكها واستراتيجيتها. وكان موقفها ذلك متميزاً بين القوى السياسية الوطنية المعارضة والمكوية بنار قمع ومحاصرة السلطة وأجهزتها الأمنية لأعضاء تلك القوى. فقد رأى فيه التجمع الوطني الديمقراطي صراع بين سلطة وشعب، وحمّلت السلطة المسؤولية الأولى فيما آلت إليه الأمور داخل سوريا. ومع تطور واستمرار الصراع، تجلت الصورة لقيادة الرابطة على الشكل التالي: صراع بين جبهتين. برجوازيتين، كل منهما له أدواته وحلفاؤه الداخلية والخارجية. حلف رجعي أسود بين الحركة الدينية الرجعية وحزب البعث العراقي، يستعمل التكتيك الطائفي مستفيداً من السمة الطائفية ذات الأقلية العلوية عند السلطة من أجل إسقاطها. مدعوم من محيط عربي يودّ الضغط على السلطة السورية لكي يُصلي الرئيس السوري في القدس كما صلى أنور السادات، ولتتم التسوية مع العدو التاريخي على شاكلة مصر. ورأت الخروج من الأزمة بتشكيل قطب ثالث من القوى الوطنية الموزعة بين الجناحين المتصارعين، يكون قادراً على الفعل في الساحة لمصلحة الشعب وقواه المنتجة. من جهة السلطة بدأت غزلاً مكشوفاً مع القوى الوطنية ومع الشعب وفئاته، وراحت تكيل الوعود لها من خلال مبعوثيها إلى المحافظات، وبأنها ستحاول الانفتاح على القوى الوطنية. وقد شملت تلك المرحلة الرابطة بسبب موقفها السياسي، فأطلقت سراح (120) رفيق و (10) رفيقات محملة إياهم رسائل إلى قيادة المنظمة المجهولة الإقامة للسلطة من أجل حوار جدي بين الطرفين. ومع اشتداد الصراع ونشوء ازدواجية سلطة في محافظتين هما حماة وحلب، عقدت الهيئة المركزية للمنظمة بكوادرها القديمة والجديدة مطعّمة بكوادر أخرى اجتماعاً موسعاً خرجت فيه بتقرير آب الشهير بالأغلبية، كان استكمالاً لفهمها النظري السابق. إن الصراع وصل إلى مرحلة كسر العظم، فك الرقبة بين جهتين. جهة رجعية مدعومة عربياً وعالمياً تودّ تركيع سوريا وجرها إلى تسوية في الشرق الأوسط لا تقبل بها، وجهة برجوازية بيروقراطية مستميتة في الدفاع عن سلطتها. وما دام الأمر كذلك، وما دام القطب الثالث، القطب الوطني مشتتاً وملحقاً بين الجبهتين ولا وجود لفعله على الأرض، فإن المنظمة إذا دخل عصام العطار (كورنيلوف) إلى دمشق ستحمل البندقية إلى جانب حافظ الأسد (كيرنسكي)، أي بصريح العبارة يجب نقل البندقية من كتف إلى كتف، والدفاع عن هذه السلطة بالطبع من موقع مستقل، بعد أن كنا نرفع شعار إسقاط السلطة. لا يعقل أن تساهم الرابطة في إسقاط سلطة ليأتي بديل لها أسوأ منها من كافة المستويات بالنسبة للقوى الوطنية. ومن يتوهم بمجيء سلطة ليبرالية قد تمنح بعض الحريات لا يقرأ اللوحة جيداً، فالبرجوازية القادمة تأتي بعد أزمة وهي تحمل سمتها الفاشية الواضحة. القتل على الهوية. في حين تظل السلطة ديكتاتورية، والمسافة ليست قصيرة بين الفاشية والديكتاتورية، ومن ناحية الإيديولوجيا تعتمد السلطة الإيديولوجيا البعثية، في حين تعتمد البرجوازية القادمة الإيديولوجيا الدينية، والفارق بينهما ليس قليلاً بالنسبة لنضال الشيوعيين على كافة المستويات. بعد تقرير آب مباشرة، استدعت السلطة رموز الهيئة المركزية الذين خرجوا من السجن من أجل حوار رسمي مع المنظمة، ونقلوا الرسالة إلى القيادة. وكان الردّ أن المنظمة تريد ترتيب بيتها الداخلي، وعقد مؤتمر بأسرع وقت يمنحها تلك الصلاحية. واقتنعت السلطة بالردّ وانتظرت المؤتمر. وبين تقرير آب ومؤتمر آب لم تستطع المنظمة أن تنسجم مع تقريرها. فالتقرير جاء بالأغلبية، ويعني أن هناك أقلية تعارضه هي في الحقيقة أغلبية ضمن قواعد الرابطة. ولم تنتقل بندقيتها أبداً إلى الكتف الأخرى، بل وزعت نيرانها على الجبهتين. دعاوتها ضد الحلف الرجعي الأسود، وتحريضها ضد السلطة ورموزها. وقد أصدرت في تلك الفترة جريدة جماهيرية أسبوعية اسمها «النداء الشعبي»، كانت موادها كلها تقريباً ترصد ممارسات السلطة وأجهزتها الأمنية وتُحرض عليها.... في كثير من الظواهر السياسية، تصل الظاهرة بلحظة ما إلى مفترق طرق، ويتعين عليها أن تختار الطريق المناسب. وقد تكون رغبة القاعدة العريضة للظاهرة عكس مصلحتها. في هذه اللحظة تتحمل قيادة التنظيم المسؤولية السياسية، وعليها تقع مهمة اختيار الاتجاه المعاكس ليأتي الزمن فيبرهن صحة اختيارها فيزيدها قوة ومتانة في واقعها وبين قواعدها. توفّرت تلك الفرصة لرابطة العمل الشيوعي عام 1980، عام 1981.(عام انعقاد المؤتمر التأسيسي الذي تحولت فبه الرابطة الى حزب العمل ) كان المطلوب نقلة نوعية على مستوى السياسة موازية لنقلتها النظرية عندما أنتجت تقرير آب. كان المطلوب التخلي عن تلك الأصولية اللينينية، وإنتاج خطاب ولغة سياسية عقلانية في التعامل مع السلطة ومع القوى الوطنية المعارضة. كان المطلوب انسجاماً مع فهمها فتح حوار جدّي مع السلطة على أرضية العداء لكامب ديفيد وأدواته الداخلية والخارجية كما هو محدد في أدبيات المنظمة. وكان من الممكن تسمية الحوار مساومة تشرح فيها أبعادها لجماهيرها وللقوى السياسية وللسلطة أيضاً، وتسمي سبب المساومة، بسبب شكل التحالف القائم في الجبهة الوطنية التقدمية. وبموجب تلك المساومة تتعهد المنظمة بوقف كافة أشكال التحريض ضد السلطة ورموزها، ولكنها لن تدخل الجبهة حتى تختبر نوايا وجدية السلطة من خلال الممارسة على الأرض والسماح لها بتعبئة الشارع ضد الرجعية، وضد أدوات التسوية الخارجية التي تواجهها السلطة. وبمقدار ما تلمس جماهير المنظمة مصداقية السلطة في أقوالها وترك المنظمة وشأنها ما دامت ضد الرجعية والإمبريالية فقط، بمقدار ما يتعبّد الطريق نحو تحالف مستقبلي صحيح. تلك المساومة لو تمت لاستفاد الطرفين منها آنذاك، فالسلطة تُشل صوت معارض وجريء في قول الحقيقة، ولم تكن تطمح أكثر من ذلك إبان ضعفها واشتداد الصراع مع الجهة الأخرى. والمنظمة لن تخسر إلا بعض رفاقها مؤقتاً، المكويين من قمع السلطة والذين تحلقوا حولها في الماضي بسبب مواجهتها الشجاعة لهذا القمع أكثر مما تحلقوا حولها بسبب قناعتهم باستراتيجية المنظمة الشيوعية. لو تم ذلك، لتراجعت المنظمة تنظيمياً أنذاك، ولكن الرابح مستقبلاً كان المنظمة والوطن أيضاً.
ملاحظة : كتبت هذه الدراسة في سجن تدمر العسكري عام 1986 نشرت لأول مرة أواخر عام 2002 ضمن كراس بعنوان . (حزب العمل الشيوعي في سوريا – رؤية من الداخل
#كامل_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة ثانية في كتاب صدام الحضارلت
-
التروتسكية والستالينية داخل سوريا في خندق واحد ضد الامبريالي
...
-
حزب لكل الطبقات الاجتماعية أ م حزب لطبقة بعينها ؟؟
-
نحو حزب شيوعي سوري من طراز جديد
-
مقاطعة الحرة ......... لماذا ياحضرات ............ ؟؟!!
-
الإصلاح السياسي المرتقب والدور المفترض أن نلعبه فيه
-
مدخل الى فهم عصري لحل المسألة الكردية
المزيد.....
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
-
نجل شاه إيران الراحل لـCNN: ترامب و-الضغط الأقصى- فرصة لإنشا
...
-
-لقد قتلت اثنين من أطفالي، فهل ستقتل الثالث أيضا؟-: فضيحة وف
...
-
كيم: المفاوضات السابقة مع واشنطن لم تؤكد سوى سياستها العدائي
...
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|