حدث وتعليق .
النهج الثالث !
خلال الأيام الفائتة ، شغل بالي حدثان منفصلان تماماً ، تزامنا في الوقوع بالصدفة المحضة . وكل حدث منهما استثار لديَّ أسئلته الخاصة به . وكان لذلك التزامن العفوي دوره المساعد في وصولي إلى الإجابة الأكثر صواباً أو منطقاً ، حسب وجهة نظري ، على أهم تلك الأسئلة .
الحدث الأول _ الحوار المباشر الذي نظمته وبثته ، مشكورةً ، صفحة الطريق ، مع الرفيق سكرتير ل.م للحزب الشيوعي العراقي . ومنه استمعنا إلى شرح مسهب لسياسة الحزب حول حرب أمريكا المفترضة ضد زمرة بغداد الحاكمة . وهي سياسة الخيار أو النهج الثالث بين
خيارين أحلاهما علقم . خيار مساندة الحرب ( إن وقعت طبعاً ) ، وهو بالتالي بمثابة التشجيع على قيامها ، أو خيار معاكس ، هو الاصطفاف مع الزمرة والمساهمة في الدفاع عن حكمها الطفيلي الإرهابي .
وقد رفضت قيادة الحزب كليهما بصورة قاطعة وحاسمة . وعززت ورسخت قناعة المستمع ، بالرفض المطلق والبات لهما ، الحماسة العالية للرفيق السكرتير ، وهو يكرر ذلك الرفض القاطع ، مما يلغي أي احتمال في إعادة النظر بتلك السياسة مستقبلاً في كل الأحوال وفي ظل جميع المتغيرات المحتملة . ووراء ذلك ، كما وضح من الحوار ، ثوابت مبدئية وطنية وعقائدية لا تقبل المساومة إطلاقاً . وبذلك الموقف " العنيد " يكشف الرفيق التزام قيادة الحزب بمقولة ماركس الشهيرة وهو يحذر رفاق حركته " إياكم ، والمساومة في المبادئ ." .
وقد استثار هذا الحوار لدى بعض المتدخلين العديد من الأسئلة أبرز ما يهمني منها هو الشك في جدوى تلك السياسة أو في إمكانية تنفيذها على أرض الواقع الملموس وفي تأثيرها على النتائج المحتملة في حال شن الحرب أو في منع قيامها أصلاً . وهي سياسة وضعت كطريق لخلاص العراق من حكم الزمرة الإرهابية ، صدقت أمريكا في إعلاناتها أم كذبت . وما طرحه الرفيق السكرتير سياسة جديدة ، بحكم الأوضاع المستجدة ، ولذلك فهي تثير مثل تلك الشكوك المشروعة لدى المستمع وهو يرغب في المزيد من البراهين والإيضاحات الملموسة . وقد أوضح الرفيق واقعية وإمكانية تنفيذ تلك السياسة من خلال تقديم مقترحات عملية ممكنة التحقيق في الواقع في الظرف الراهن والتي لخصها في قضية مركزية رئيسية وهي الاعتماد الكامل في التغيير على القوى الذاتية للشعب العراقي والرفع من طاقتها إلى الدرجة الأقصى من خلال توحيد نشاط وعمل القوى الوطنية المعارضة لتحقيق أهداف ملموسة ( ميثاق عمل ) ملزم لها جميعاً ، يضع مصلحة الشعب والوطن ، قبل وفوق أية مصلحة أخرى . بتلك الصورة فهمت واستوعبت خلاصة أفكار الرفيق السكرتير حول الخيار الثالث .
وقد أخذت بدوري أبحث عما يزيدني قناعةً بصواب وجدوى وواقعية تلك السياسة .
الحدث الآخر _ ومع انشغالي بالحدث الأول ، تصادف الإعلان عن نتائج الانتخابات الفرنسية التشريعية في دورتها الأخيرة ، التي أسفرت كسابقتها ، الانتخابات الرئاسية ، عن انتصار كبير لليمين الفرنسي ، بقيادة الديغوليين ، على اليمين المتطرف العنصري وعلى اليسار المعتدل والمتطرف في آن واحد .
وقد استثارت لديّ تلك النتائج سؤالاً رئيسياً هو :
ما هو سر الرصيد العالي الذي لا تزال تملكه " الديغولية " لدى الشعب الفرنسي بحيث بقيت لاعباً رئيسياً وأساسياً على الساحة السياسية منذ نشأتها ؟ وهي وأنصارها الفائز الأكبر في الانتخابات الأخيرة .
في التأريخ والواقع الفرنسي معطيات عديدة ليست في صالح الحركة الديغولية ولا تبرر ذلك النجاح ، إن لم تشير إلى النقيض منه وأبرزها :
· _ الديغولية هي حركة سياسية تمثل قوى الرأسمال الكبير في فرنسا وتدافع عن مصالحه .
· _ الشعب الفرنسي كان في مقدمة شعوب أوربا في ممارسة الأفكار الثورية ووضعها موضع التنفيذ في ثورته الكبرى في 14تموز عام 1789 . وجاءت بعدها كومونة باريس في بداية العقد الثامن للقرن التاسع عشر كأول سلطة في العالم أنشأتها وقادتها الطبقة العاملة وكان لها السبق في دك وتدمير سلطة الرأسماليين ولو إلى حين . وكذا كان الحال عند نزول الشباب الفرنسي إلى الشوارع في انتفاضة شعبية كاسحة عام 1968 ضد الديغولية نفسها ، ألحقت بها خسائر فادحة انزوى على أثرها رمزها التاريخي شارل ديغول واعتزل الحياة السياسية بسببها .
إذن ، ما هو السبب الرئيسي لنجاحها الأخير ؟
لم يبقَ أمامي ، للحصول على جواب معقول ، سوى البحث في تاريخ الحركة الديغولية ومواقفها السياسية منذ ولادتها . والبحث أساساً في العامل الموضوعي والتاريخي ، الذي كان سبباً رئيسياً لظهورها ونشأتها ونموها .
ومن خلال ذلك وجدت ما يمكن اعتباره تفسيراً منطقياً أو مقنعاً على الأقل . وهذا التفسير قادني إلى الربط بين الحدثين رغم تباعدهما ، ورغم الاختلافات والفروق الهامة في الظروف والمعطيات وفي مستجدات الأحداث .
لقد عرفت واجتازت فرنسا ظرفاً ينطبق عليه وصف الرفيق السكرتير لحالة العراق وشعبه في الظرف الراهن . لقد عاش الشعب الفرنسي فترةً كالحة في حياته بين " المطرقة والسندان "! .
فقد حكمته زمرة طفيلية عرفت بحكومة فيشي . وفي ظل دعم مباشر لها من النازيين بات توازن القوى راجحاً بقوة لصالحها على حساب الحركة الوطنية .
ونشأ وضع صعب للغاية في مواجهة القوى الوطنية الفرنسية . ففي وقت كانت تناضل فيه ضد زمرة مجرمة ليس لها همٌ وهدف سوى التطفل وحكم الناس على حساب وفوق كل شئ ، وجدت نفسها مجبرةً على الاستعانة بالدعم الخارجي ، الذي فرضه الاختلال الكبير في توازن القوى . وكان موقفاً معقداً وصعباً للغاية . فمن بين أبرز المرشحين الأساسين للتحالف معها هو منافستها الرئيسية على مناطق نفوذها وهي بريطانيا العظمى . وكان لابد من التعاون معها وسيلة للقضاء على الحكم الطفيلي الهجين المدعوم من قبل ألمانيا النازية ومقاومة احتلال أراضيها مع الحفاظ على استقلالها ، بل وحتى على " مستعمراتها !" في آن واحد .
وفي تلك الظروف وبسببها نشأت الحركة الديغولية التي اختارت وتبنت سياسة النهج الثالث في التعامل مع مصالح الوطن أولاً وأخيراً بالتخلص من زمرة فيشي الطفيلية " أساس البلاوي "! بإغرائها الأجنبي في الهيمنة على مقدرات الوطن والتدخل في شؤونه الداخلية .
ولغرض ضمان نجاح ذلك النهج المستقل استجابت تلك الحركة للمنطق السليم ، الذي كان الشيوعيون الفرنسيون السباقون للدعوة إلى انتهاجه وفي المباشرة في تنفيذه رغم الصعوبات الهائلة والإمكانيات المادية المحدودة ، وهو التعبئة الداخلية القصوى للقوى الوطنية في الداخل باعتبارها العامل الرئيسي في الخلاص من دكتاتورية وإرهاب الزمرة والحفاظ على استقلالية القرار الوطني في التعامل مع جميع " الحلفاء " الخارجيين .
وتبنت الحركة الديغولية مقترحات الشيوعيين والثوريين اليساريين حول مستلزمات نجاح ذلك النهج في الحياة العملية وفي مقدمتها ، تشكيل الجبهة الوطنية الموحدة التي ضمت اليمين واليسار وفقاً لبرنامج عمل صريح ومعلن . واعتمدت المقاومة الداخلية كقوة رئيسية في إجراء التغيير . وأصبحت الجبهة الوطنية الموحدة هي القائدة الوحيدة المسؤولة عن تلقي وتوزيع المساعدات العسكرية والمادية الخارجية والتنسيق معها في طرد المحتلين النازيين من أراضيها وتشكيل مؤسسات إدارية فرنسية في المناطق المحررة . وكذلك نجحت في الحفاظ على " حقها !" في إدارة " مستعمراتها في الخارج !" .
وقد شهدت العلاقات توترات عديدة بسبب محاولات القوى الخارجية ، وبالأخص بريطانيا ، لإيجاد ركائز داخلية تابعة لها من بين نفس الشريحة الاجتماعية الطفيلية لزمرة فيشي من وراء ظهر قوى الجبهة " الحليفة " . وهو ما تمّ التصدي له بقوة وبإصرار شديد وعنيد أبدته القوى الوطنية جميعها وتميزت بها شخصية ديغول القوية بصورة خاصة . وقد جسدها في مواقف عملية مشهودة أجبرت الحلفاء على التراجع عنها في ذروة حاجة القوى الوطنية لمساعداتها ودعمها .
وتلك المواقف الوطنية الصلبة ، النادرة لدى قوى البرجوازية عموماً ، هي التي جعلت من ديغول بطلاً قومياً لفرنسا ، وهي التي أعطته رصيداً ضخماً ، مكّنه من إنشاء حركة تمتلك جذوراً تاريخية تمتد بعيداً داخل الشعب الفرنسي ، والذي يجد فيها ملاذاً له في فترات الشدة والخطر كما حصل في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية . وكذا الحال عندما تتعرض فرنسا لضغوط كبيرة تقوم بها أمريكا " الصقور " لفرض مقاساتها الخاصة بها على الشعب الفرنسي كما هو حاصل الآن .
إن سر قوة الحركة الديغولية يكمن في نشوئها وولادتها من رحم الحركة الوطنية وفي إصرارها وعنادها على الحفاظ على مصلحة وطنها وتميزها في الحفاظ على كرامتها
وشرفها الوطني .
إنها بحق وليدة النهج الثالث المستقل وموقفها أحد أبرز عوامل نجاحه في التطبيق .
كيف لنا أن نصف الطريق الذي سلكه الوطنيون الفرنسيون ؟
أليس هو أشبه بما أسماه الرفيق السكرتير بالخيار الثالث ؟ والتماثل لا يبرره الشكل فقط وإنما المحتوى أيضاً ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار المستلزمات والشروط التي طرحها الرفيق السكرتير ضمانة للنجاح في التطبيق أيضا ؟
بالنسبة لي لقد وجدت أن ذلك الخيار الصعب جداً ، ولكن الناجح والمتحقق فعلاً ، كان السبب الرئيسي في حصول الحركة الديغولية على رصيد كبير لدى الشعب الفرنسي ، الذي مكّنها من ممارسة الدور الرئيسي والأول في حكم فرنسا خلال فترة طويلة من الزمن ، رغم
" موبقاتها " الرأسمالية وتوجهاتها اليمينية التي يعاقبها عليها الشعب بين فينة وأخرى .
وفي نفس الوقت وجدتُ في تجربة الشعب الفرنسي وقواه الوطنية المخلصة للوطن والشعب من اليمين واليسار ، فائدةً ملموسة بتجسيدها مثلاً شاخصاً على واقعية وإمكانية نجاح سياسة الخيار الثالث ، المقاربة لسياسة الشيوعيين العراقيين في الوقت الحاضر ، بتفاصيل أو أشكال
مختلفة ، ولكن بمحتوى مشترك واحد خلاصته وفحواه الدفاع عن مصالح الوطن وإمكانية تحقيقها والاستفادة من جميع العوامل المساعدة والدعم الخارجي ، مع الحفاظ العنيد على المبادئ وعلى الكرامة والعزة الوطنية .
____ 17/حزيران/2002 نزار خالـد . __
__________________________________________