نبيل عبدالفتاح
الحوار المتمدن-العدد: 826 - 2004 / 5 / 6 - 06:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
دخل إصطلاح الإصلاح, وصفاته ومجالاته المتعددة ـ السياسية والدينية والاخلاقية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والتعليمية ـ إلي دائرة الموضات الفكرية, وأصبح المفردة الأكثر شيوعا في لغة الصحافة والخطابات السياسية الحكومية, والمعارضة. ثمة موجات من تدافع اللغو والاضطراب المفهومي, والنزعة البيانية في توظيفات الإصطلاح, الذي بات, وكأنه في ذاته يحمل حلولا سحرية لكل مشاكلنا وهمومنا المعقدة التي أنتجتها سياسات الفساد السياسي والاقتصادي والإفقار وتحقير المعرفة في بلادنا طيلة العقود الماضية.
يبدو الإصلاح, وكأنه دخل دوائر تشويه المعاني والدلالات التي تجيدها صفوة سياسية حاكمة ومعارضة, تتسم عناصرها الغالبة والنافذة, بضعف التكوين ونقص الخبرات والمهارات السياسية, وعدم الكفاءة.
يبدو لي أن بعضهم من فرط كراهيته للخطابات الإصلاحية, قرر تحويلها إلي مادة للاستهلاك المبتذل, وتحويل الإصطلاح إلي كيتش, في ظل وطأة الاستخدام المستمر للإصطلاح في الآلة الإعلامية الرسمية, والمعارضة, والمستقلة, وذلك حتي يفقد مفهوم الإصلاح الديني والسياسي والتعليمي.. الخ, أي دلالة وهيبة وحضور نفسي, واستدعاءات لصور الإصلاح ومجالاته ومساءلاته في ذاكرة المصريين, عندما يطرح عليهم الإصطلاح والمفهوم وسياساته وآلياته, في الخطابات الوطنية الجادة والمسئولة وذات المشروعية التاريخية الموصولة في مطالباتها بالاصلاح القومي الشامل.. ثمة مشاعر قرف جماعي, وعزوف عن التعامل مع إصطلاح الإصلاح, من كثرة استخدام السلطة السياسية ـ وبعض المعارضين ـ وبعض كبار الموظفين, ومثقفي السلطة ممن يريدون إصلاحا يؤدي إلي تبديل وجوه السلطة بوجوههم, وكأن الإصلاح مجرد تغيير وجوه بأخري شائهة مثلها!! يبدو اننا ازاء تحول لدي السلطة السياسية, من الخوف من الإصلاح ـ لأنه ببساطة يطرح المساءلة السياسية والقانونية عما حدث خلال العقود الماضية ـ بل وكراهية الإصطلاح ومعانيه ودلالاته, إلي السعي للحض علي
كراهيته في اوساط الجمهور, وذلك من خلال كثرة اللغو بأسم الإصلاح السياسي, والتعليمي, والديني.. الخ!
هل تترك السوق اللغوية لعمليات التشويه والحض علي كراهية الإصلاح, بالقطع لا, ولا ينبغي استسهال إشاعة اليأس الجماعي, لأن هذا ما تريده القوي المعادية للديمقراطية والإصلاح في الحكم والمعارضة الرسمية واللارسمية في مصر.
إن طوفان اللغو باسم الإصلاح السياسي والديني و..,.. الخ! وراءه قوي عديدة, ترتبط بأواصر من المصالح تنامت وتشابكت خلال العقود الماضية, من خلال إعطاء بعض الأحزاب المعارضة بعض المقاعد البرلمانية أو التعيين في مجلس الشوري, ومن هنا يمكن ملاحظة بعض التواطؤات بين مواقف حكومية وحزبية معارضة. أن بعض الخطابات الحزبية المعارضة الزاعقة في مطالبها الإصلاحية لا تعدو كونها دخانا في الهواء ـ إذا شئنا استعارة تعبير المرحوم جلال الحمامصي ـ وفي اوقات المغانم الانتخابية وغيرها, هناك لغة المصالح والمقاعد التي تدار في خلسة المختلس اذ جاز التعبير, وهي ألعاب تعيد انتاج النظام السياسي اللاديمقراطي, والتخلف السياسي والمؤسسي في مصر.
لكل خطاب حول الإصلاح مصالحه السياسية, التي يحاول جعل اصطلاح الإصلاح قناعا تتدثر وراءه مصالحه. الصفوة السياسية الحاكمة لديها زعم ـ يفتقر إلي الدقة وإلي الشرعية التاريخية ـ تتمثل في أن الاصلاح بدأته منذ فجر التاريخ, كما كتب المستشار السياسي للرئيس في صحيفة هيوستن كرونيكل أن مصر تخوض عملية اصلاح مستمرة منذ فجر التاريخ, وأنها خلال العشرين عاما الماضية أجرت عمليات اصلاح سياسية واسعة النطاق تضمن حماية الحقوق الاساسية لجميع المواطنين. ولا شك أن هذه الوجهة من النظر تعبر عن حماسة سلطوية أقرب إلي بروباجندا النظم السلطوية, أكثر من كونها لغة سياسية رصينة يمكن التوقف امامها بجدية, لأن كل المؤشرات الموضوعية والدراسات العلمية في مجالات الحريات العامة الأساسية, وحقوق الانسان, والمؤسسات السياسية, ودولة القانون, وغيرها لا تساند وجهة النظر الدعائية السابقة, بل وتدحضها دحضا شاملا وباتا. والسؤال ما وراء هذا الخطاب؟ يرمي هذا الخطاب إلي محاولة تثبيت ادعاء ان اية محاولة لاصلاحات شكلية من قبيل انشاء المجالس الحكومية, كحقوق الانسان, وآخر للشباب مزمع انشاؤه مع اجراءات الولاية الخامسة للرئيس, وهي تعبير عن خيار سياسي داخلي, وليس امتثالا للمطالب والضغوط الأوروبية والأمريكية, ويتناقض هذا الخطاب مع نفسه في أنه انتج اعقاب المبادرات الخارجية الأوروامريكية, بل ويطرح امام الادارات السياسية المعنية في واشنطن ولندن وباريس وبرلين وروما.. الخ, ثم يطرح في اطار اننا سنقوم باصلاحات أخري, لكن عبر سياسة الخطوة خطوة. أن المنطق الذي يتأسس عليه هذا الخطاب, أن الشعب المصري ـ بتاريخه المجيد في بناء الدولة ـ الأمة, ودولة القانون, وفي إقامة البرلمانات.. الخ ـ غير مؤهل حاليا لتطويرات ديمقراطية كاملة وناجزة, ومن ثم اصلاح الخطوة ـ خطوة, هو الملائم له, ونحن نعرفه اكثر من الخواجه الأمريكي ـ البريطاني. هذا المعني خطير من وجهين: الأول إعطاء شرعية لمطالب وضغوط الامبريالية العولمية بضرورة الاصلاح, وقبول الضغوط والمطالب, ولكن التفاوض يدور حول نسب الاصلاح وحدوده وزمنه! هذا يعني ان مرجعية هذا الموقف ليس الأمة المصرية, ومؤسساتها حتي ولو كان بعضها لا يعبر عن غالب ارائها, وانما الادارات الأمريكية ـ الأوروبية التي أطلقت مبادراتها الإصلاحية.
الوجه الثاني, أن الأمة المصرية غائبة في هذا الخطاب, ولا تستدعي لتقول رأيها وماذا تريد؟
الخطاب السلطوي حول إصلاح الخطوة ـ خطوة, ومن يشايعه ويروج له ـ من مثقفي السلطة واذنابها, وبعض كبار الموظفين السياسيين والبيروقراطيين ـ يأخذ بسياسة التلميحات بين الحين والآخر, كالغاء قانون الطواريء, أو اصدار قانون انتخابات جديد, أو الحوار مع احزاب المعارضة, أو اصدار قانون يخصص بعض المقاعد للمرأة في مجلسي الشعب والشوري.. الخ.. بث التلميحات, في المقالات والتصريحات والخطب واللقاءات يرمي إلي تحقيق عدد من الأهداف:
1 ـ اشارات للإعلام الغربي, وللادارات السياسية الغربية بأن ثمة استجابات لمبادرات الإصلاح علي الطريق لتخفيف الانتقادات في وسائل الإعلام الأورو ـ أمريكية.
2 ـ كسر حدة الغليان والغضب الداخلي من استمرارية الجمود السياسي وشيخوخة النظام وصفوته الحاكمة, في ظل ازمة اقتصادية واجتماعية طاحنة, تعبر عن تاريخ من الخلل في السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
3 ـ اعطاء الانطباع بأن السلطة السياسية المصرية لا تخضع لضغوط خارجية!! ولا لضغوط داخلية! وهو امر مثير لأن المطالب الشعبية بضرورة اجراء إصلاح سياسي, هي حق شرعي للأمة بوصفها مصدر السلطات جميعها, ومن ثم لا يعد ضغطا بأي حال, بل أن إعمال هذه المطالب هو تعبير عن مصدر الشرعية السياسية الحقيقية في البلاد.
4 ـ سياسة التلميحات تكشف عن أن منطق اصلاح الخطوة ـ خطوة الجزئي, لن يكون شاملا, وانما يبدو كمحاولة لاستيعاب الضغوط الدولية, وبعض المطالب الداخلية, لإعادة انتاج النظام وصفوته الحاكمة لمصالحها ولذاتها دون تغيير حقيقي أو فتح للملفات شامل, مع استمرار أركان الحكم في مواقعهم, أو استبدال بعضهم بوجوه شاحبة تعمل لديهم, أو في أروقة السلطة.
5 ـ تلميحات التغيير في الوجوه, تدفع إلي بث تناقضات داخل الجماعتين الثقافية والسياسية بين الطامحين إلي تقلد بعض مواقع وزارية أو اعلامية أو بيروقراطية, وبين العناصر المستقلة بما يحد من عنفوان النقد الاجتماعي والسياسي للنظام وسياساته وصفوته الحاكمة.
السؤال الذي نطرحه هنا لماذا يطرح بين الحين, والآخر امكانية الغاء قانون الطواري؟ ببساطة لأنه لا يمكن تأسيس نظام ديمقراطي نيابي, وهناك نظام طواريء, يفتقر المواطنون ـ اين هم؟ ـ أية ضمانات قانونية ازاءه, بل انه لا دولة قانون في ظل نظام طواريء شكل ابرز سمات النظام السياسي التسلطي واداءه خلال خمسة عقود ويزيد. من هنا وجب الغاؤه ـ وتحويل نصوصه إلي تعديلات تحت مسمي مكافحة الإرهاب والمخدرات ـ يمثل ضربة رمزية حكومية لاضعاف خطابات المعارضة, والخطابات النقدية السياسية والاجتماعية للعناصر الوطنية المستقلة داخل الجماعة الثقافية المصرية. ان امعان النظر في الخطاب السياسية الرسمي ـ ومواليه واذنابه, يكشف عن انه لا يمتلك فلسفة سياسية وقانونية ودينية شاملة للإصلاح القومي, بحيث يضع مصر الأمة, والمجتمع والدولة علي طريق التجديد والنهوض داخليا واقليميا, وقصاري ما يرمي اليه هو السعي لتطويق مطالب الإصلاح ومبادراته الخارجية, والداخلية, واستثمار الوقت في المناورة مع الادارة الجمهورية ـ في واشنطن, في انتظار الانتخابات الرئاسية القادمة في نهاية العام الحالي, خاصة في ظل الأوضاع العراقية, التي قد تصرف الادارة الأمريكية عن مبادرتها حول الشرق الأوسط الكبير, وحول مكانها في سلم اولوياتها في المنطقة. ان الغاء قانون الطواريء لا قيمة له دون اصلاح في الفلسفة القانونية كلها, ودون اعادة هيكلة للنظام القانوني كله في ضوء منظومة حقوق الانسان بأجيالها المتعددة, ان الاصلاح القانوني هو جزء لا يتجزأ من بنية كلية ومتكاملة من اصلاحات في الأنساق السياسية والمؤسسية والدينية والتعليمية والإعلامية.. الخ.
أن خطورة هذا الاتجاه الرسمي, هو ان وراءه مريدين, منهم بعض القوي المعارضة الرسمية التي تطرح خطابا زاعقا حول الإصلاح بهدف الحصول علي مزايا سياسية في اطار صفقة ما, تتم خارج رقابة الرأي العام بل واعضاء هذه الاحزاب المعارضة التي تفتقر إلي شرعية شعبية, وإلي جذور كالحزب الحاكم تماما.
ثمة ايضا اتجاه بين مثقفي السلطة يطرحون خطابات إصلاحية هدفها احلال بعضهم محل بعض شيوخ الحزب الحاكم والحكومة, تحت دعوي نحن اكثر كفاءة ومعرفة منهم, وهم عناصر غالبيتهم من الفرز الثالث أو الرابع في الجماعة الثقافية والأكاديمية ـ لا مأثر ذات وزن لغالبيتهم في الثقافة والسياسة والبحث ـ, ونحن قادرون علي التعامل مع الإعلام والادارات الغربية, وعلي التصدي للاتجاه النقدي المستقل. نحن هنا ازاء عرض قوة عمل ايديولوجية عاطلة في سوق السجال والهجاء السياسي المصري والعربي
#نبيل_عبدالفتاح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟