كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 825 - 2004 / 5 / 5 - 07:24
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
من أجل إعطاء تقدير سليم نسبياً عن مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق يتطلب مراجعة مسألتين جوهريتين, وأعني بهما:
طبيعة المشكلات التي واجهت المجتمع العراقي والعوائق التي تحيط بالعملية الديمقراطية في المرحلة الراهنة,
مستلزمات النهوض بهذه العملية خلال الفترة القادمة.
وبصدد المسألة الأولى يفترض النظر إليها من عدة زوايا, وهي:
الزاوية الأولى: البعد التاريخي والقاعدة الاقتصادية:
أ?. البعد التاريخي الذي اقترن بسيادة الدول الاسلامية الاستبدادية على العراق طيلة قرون طويلة ومن وقوعه تحت الهيمنة الأجنبية لعقود عديدة أخرى.
ب?. سيادة العلاقات الإنتاجية الاستغلالية شبه الإقطاعية وتقاليدها وتراثها الرجعي المتخلف وتأثيرها المباشر على بنية المجتمع الطبقية, إضافة إلى الهيمنة الاجنبية ونهبها لخيرات البلاد النفطية وإعاقة عملية البناء والتعمير والتقدم في العراق.
ت?. الصراع المتواصل بين المجتمع العشائري بتقاليده وتراثه وعاداته من جهة, والمجتمع المدني الذي ما يزال يراوح في مكانه منذ عقود من جهة أخرى.
الزاوية الثانية: البعد السياسي والوعي الاجتماعي:
أ?. سيادة النظم الاستبدادية وغياب الحياة الدستورية والديمقراطية في البلاد وتعقد العلاقة بين السلطة والمجتمع منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة حتى الوقت الحاضر.
ب?. ممارسة العنف والإرهاب والقسوة في التعامل السياسي والاجتماعي وخوض الحملات العسكرية والحروب في معالجة المشكلات الداخلية والإقليمية.
ت?. ممارسة السياسات العنصرية والشوفينية والتمييز القومي والديني والطائفي والفكري في مواجهة مجتمع متعدد القوميات والأديان والمذاهب والأفكار والآراء السياسية ورفض جميع النظم السياسية التي حكمت العراق الاعتراف بالحقوق القومية أو التخلي عن ممارسة التمييز بمختلف أشكاله وصور ممارسته.
ث?. الدور المتميز والسلبي للدين والتراث الديني من خلال استخدامه الرجعي المتخلف والانتهازي من قبل الغالبية العظمى من ورجال الدين في المجتمع العراقي. تخلف المجتمع عن مرحلة التنوير الديني الفعلي وجمود الفكر الديني على هامش الحياة وبعيداً عن الواقع الموضوعي والحضارة الإنسانية الحديثة.
ج?. انعكاس كل ذلك سلبياً على الوعي الاجتماعي والسياسي للفرد والمجتمع, وعلى الحياة السياسية والحزبية, وعلى البنية الداخلية والفكرية والسياسية للأحزاب والقوى الاجتماعية العراقية.
الزاوية الاقتصادية والاجتماعية: وهي تتلخص في الواقع التالي:
أ?. بطء شديد في نمو العلاقات الإنتاجية الرأسمالية الوطنية الحديثة وتخلف عملية التراكم الرأسمالي المنشود للبلاد, وهيمنة الرأسمال الأجنبي على المصدر الرئيسي للدخل القومي فترة طويلة أو سوء التصرف يه وتوزيعه وإعاقته تطور الحياة الرأسمالية في البلاد.
ب?. التخلف الاقتصادي وضعف وبطء عملية التنمية الصناعية وتحديث الزراعة وتغيير بنيتها الإنتاجية وإنتاجية العمل.
ت?. الجمود النسبي في البنية الطبقية للمجتمع العراقي وانهيار فعلي للطبقة الوسطى وتفاقم الفئات الهامشية في المجتمع على حساب نمو الطبقة العاملة والعمال الزراعيين في الريف والبرجوازية الوطنية بشكل عام.
ث?. استمرار الاعتماد على مورد النفط المالي في ميزانيتي التنمية والاعتيادية وضعف مشاركة القطاعات الاقتصادية الأخرى في تكوين الدخل القومي وتبعية الاقتصاد العراقي للتجارة الخارجية.
ج?. السياسات القمعية والحروب المستمرة أدت إلى تدمير البنية التحتية ومشاريع التنمية والخدمات العامة وإدخال التقنيات الحديثة في الاقتصاد والمجتمع.
ح?. الدور المتخلف للمرأة بسبب طبيعة السياسات والمواقف الرجعية إزاء المرأة وحقوقها ورفض مساواتها الفعلية بالرجل من جانب الفئات الحاكمة وأوساط واسعة في المجتمع.
الزاوية الرابعة: المحيط العربي والإقليمي والدولي للعراق
أ?. التأثير المستمر والمباشر للنظم العربية الرجعية والاستبدادية على الوضع في العراق, إضافة إلى التأثير المباشر والكبير للقوى الدينية المتطرفة.
ب?. التأثير الإقليمي والتدخل المستمر في شؤون العراق الداخلية من قبل دول الجوار العربية وغير العربية.
ت?. صراع المصالح الأجنبية في العراق لأسباب بترولية واستراتيجية دولية وإقليمية.
هذه اللوحة المعقدة تركت بصماتها على الواقع العراقي وعلى اتجاهات تطوره, إذ كانت للحرب الأخيرة التي سقط النظام تحت وطأتها تركة وتداعيات غير قليلة مسحوبة إلى المجتمع من العقود المنصرمة, إضافة إلى سياسات الاحتلال الراهن التي لها آثارها المباشرة التي يعاني منها المجتمع حالياً, وأبرزها:
· طريقة إسقاط النظام, إذ لم تكن القوى الذاتية للمجتمع العراقي مؤهلة لإنجاز هذه المهمة, وبالتالي فقد أُنيطت المهمة بقوى أجنبية لها مصالحها وأساليب تعاملها مع الواقع العراقي.
· فرض الاحتلال ورفض تسليم السلطة للمعارضة المناهضة لصدام حسين وبروز الفراغ الحكومي وتداعياته وسيادة حرية الفوضى في البلاد. ويفترض فينا أن لا ننسى بأن الحرب في مضمونها الأساسي لم تكن تحرير الشعب من النظام العراقي, بل هي ناتج عرضي لاستراتيج الولايات المتحدة في المنطقة.
· الإرهاب وفقدان الأمن والاستقرار والاستعداد لممارسة العنف والقسوة في التعامل وعجز قوى الاحتلال عن التعامل الواقعي والمدروس مع الأوضاع الجارية.
· بطء عملية إعادة الإعمار ونقص الخدمات العامة.
· البطالة الواسعة جداً التي تصل إلى نسبة تتراوح بين 55-60% من القوى القادرة على العمل.
· الحرمان الطويل من التفاعل مع العالم الخارجي ومع الحضارة الإنسانية والخضوع للدكتاتورية والقمع اليومي والغوص الشديد في الغيبيات وأعمال السحر والاستخارة.
· الواقع القومي والديني والمذهبي المعقدى في العراق وما يفرزه من مشكلات بسبب تلك التركة الثقيلة للعقود الأربعة المنصرمة.
· المشكلات الاجتماعية الأخرى وخاصة الموقف من حرية المرأة وحقوقها.
· المشكلات الاقتصادية وقضية النفط في العراق.
· الخراب الفكري والنفسي والعصبي للإنسان العراقي وبقاء وعيه الاجتماعي والسياسي متخلفاً وتابعاً للفكر الغيبي القدري المتخلف, وتفاقم ظاهرة ازدواج الشخصية أو انفصامها لدى الأجيال المختلفة.
· ضعف الوعي بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وعجز غالبية الأحزاب السياسية عن فهم كنه هذه المفاهيم وسبل ممارستها وبالتالي عجزها عن تنشيط فعال لعلاقاتها بالفئات الاجتماعية المختلفة والمشاركة في تثقيف وتوعية الشعب بها, والذي يتجلى بممارساتها اليومية وخطابها السياسي وعلاقاتها المتبادلة وعلاقاتها بالمجتمع وسلطة الاحتلال.
· الدور الضعيف للمثقف العراقي في الحياة اليومية بعد غياب نسبة عالية منه عن الحياة العراقية لعقدين أو أكثر, رغم أهمية وضرورة هذا الدور في المرحلة الراهنة.
· المواقف الرجعية المتفاقمة إزاء المرأة العراقية وحقوقها ومحاولة فرض المزيد من القيود عليها.
إن الواقع القائم في العراق والمحيط العربي والإقليمي والدولي أفرز مجموعة من التناقضات والصراعات السياسية التي تتحرى عن حلول لها في ظل عدم وضوح في موازين القوى السياسية بسبب التشابكات في ما بين تلك التناقضات والصراعات التي يتحول بعضها إلى نزاعات سياسية مسلحة ودموية.
وأبرز تلك الصراعات الجارية رغم التباين في حدة بعضها عن البعض الآخر:
· الصراع بين الشعب وسلطة الاحتلال, وهو صراع مؤجل نسبياً, رغم محاولة البعض تأجيجه في هذه المرحلة.
· الصراع بين مجلس الحكم وسلطة الاحتلال, وهو صراع مستمر ولكنه يقاد بهدوء نسبي لصالح سلطة الاحتلال حالياً, وسينتقل إلى الحكومة المؤقتة بعد انتقال السلطة.
· الصراع بين الشعب ومجلس الحكم ومجلس الوزراء وسلطة الاحتلال من جهة, وقوى الإرهاب الداخلي والعربي والإسلامي من جهة أخرى, وهو الصراع المركزي في المرحلة الراهنة ويتخذ أبعاداً جديدة, خاصة وأن الوضع العربي والإقليمي والدولي يساعد على ذلك. والصراع يخاض في الواقع بقيادة سلطة وقوات الاحتلال دون تدخل فعلي من قوى الشعب ومجلس الحكم, إذ أنهما يتفرجان على العملية الصراعية الجارية خشية التورط بها, وهو أمر بالغ السوء على مضمون الديمقراطية المنشودة للعراق. وأحياناً يلعب البعض دور الساعي إلى المصالحة دون أن يحدد موقفه من هذا الصراع الذي يشكل أهمية استثنائية لمستقبل العراق الديمقراطي.
· الصراع بين مجلس الحكم والقوى السياسية العراقية خارج مجلس الحكم, وهو جار وغير متوقف ولكن بهدوء ومبرقع في بعض الأحيان.
· الصراع في ما بين قوى مجلس الحكم, رغم الإدعاء بغير ذلك ومحاول الظهور وكأن كل شيء هادئ في كل الجبهات.
· الصراع بين القوى العلمانية والقوى الدينية في العراق وداخل مجلس الحكم.
· الصراع في ما بين االأحزاب ولقوى الإسلامية السنية والشيعية, رغم إدعائها بغير ذلك, إذ أن الأحزاب السنية تشعر بحصول تغير جوهري في ميزان القوى في غير صالحها وفي صالح القوى الشيعة, إذ تم إبعادها وفق تقسيم السلطة دينياً ومذهبياً من جانب الحاكم بريمر والإدارة الأمريكية, وإبعادها عن مراكز المسؤولية والقيادة, في حين تشعر الأحزاب والقوى الشيعية أنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على السلطة لأول مرة في تاريخ العراق القديم والحديث. وفي هذا تلعب الدول المجاورة كل حسب مذهبه الدور الملائم له في تغيير هذه المعادلة, في حين أن الشعب العراقي بعيداً عنها ورافضاً لها. ويدور صراع متميز بين مراكز القوة في الأوساط الدينية الشيعية, حيث يسعى مقتدى الصدر, وهو الأكثر تطرفاً وشراسة وعدوانية, السيطرة وتوجيه الأمور لصالحه في ثلاث اتجاهات, وهي:
o السيطرة على الحوزة العلمية من خلال استخدام الشارع.
o السيطرة على الشارع العراقي في مواجهة القوى السياسية العلمانية.
o السيطرة على السلطة من خلال الصراع مع سلطة الاحتلال ومجلس الحكم الانتقالي من خلال تأليب الناس ضدهما بحجة تخليص الوطن من الاحتلال.
· الصراع الدولي بين دول العالم المتقدمة والولايات المتحدة, وبين العالم العربي والإسلامي والولايات المتحدة, إضافة على صراع القوى داخل الولايات المتحدة وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على الوضع في العراق.
الصراعات المشار إليها في أعلاه متداخلة ومتشابكة في ما بينها وتلعب عوامل كثيرة في تخفيف البعض منها وتشديد البعض الآخر. وتساهم العوامل الخارجية بشكل ملموس في تأجيجها, إضافة إلى توفر كميات هائلة من الأسلحة والسيولة النقدية لدى القوى التي تريد استمرار التأزم والتوتر والنزاع في العراق. ويفترض أن نشير إلى أن هذه الصراعات ومهما تباينت في أشكال ظهورها, فأنها من حيث المبدأ تدور حول خمس نمحاور جوهرية, وهي:
1. السلطة؛ 2. الديمقراطية والمجتمع المدني والعلمانية؛ 3. الفيدرالية واللامركزية في الحكم؛ 4. سبل استخدام الموارد المالية والنفط الخام؛ 5. وجهة التنمية والعدالة الاجتماعية.
أما القوى المتصارعة في العراق حالياً, فهي:
سلطة الاحتلال الممثلة للإدارة الأمريكية – البريطانية؛
. القوى الديمقراطثة والمدنية وأصحاب الاتجاهات العلمانية؛
القوى الدينية وقوى العشائر العراقية؛
القوى القومية وامتداداتها في المنطقة العربية؛
القوى الإقليمية والدولية باتجاهات ومواقف متباينة.
المهمات الوطنية أمام القوى الديمقراطية
إن إلقاء الضوء على هذه النقاط ينقلنا إلى معالجة المهمات التي تواجهه الحركة الديمقراطية العراقية وحل المشكلات المعرقلة لتكريس الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق. والمهمات تتوزع على خمس جبهات, وهي:
أولاًً: الجبهة الأمنية والسياسية والإعلامية, وهي مهمات متداخلة ومتفاعلة, تستوجب اتخاذ إجراءات عاجلة لوضع حد للإرهاب الدموي والتخريب وإشاعة عدم الاستقرار في البلاد, ولكنها تمتد لتأمين ممارسة سياسة عقلانية والبدء باستكمال بناء الدولة العراقية, التي شوهها النظام وهدمتها الحرب وقوات الاحتلال, لأداء مهماتها ووضع دستور ديمقراطي وقانون ديمقراطي للأحزاب وقواعد عمل وآليات ديمقراطية لانتخابات عامة وشاملة وديمقراطية لانتخاب المجلس الوطني ومعالجة المشكلات وتغيير مناهج التعليم في مختلف المراحل الدراسية والتربية الوطنية وأسس تكوين المنظمات غير الحكومية وتكريس المجتمع المدني. وهي عملية معقدة ستصطدم بكل العوامل السالفة الذكر التي كانت وما تزال لها تأثيرات مباشرة على الوضع الراهن في العراق. والمهمة كبيرة إذ أنها تستلزم نشر وتعميم مبادئ وقيم حديثة وشاملة في المجتمع, قيم الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والمساواة بين المرأة والرجل في كل المجالات دون استثناء ورفض التمييز بمختلف أشكاله.
ثانياً الجبهة الاقتصادية التي تعني عملية تغيير بنية الاقتصاد الوطني التي ترتبط بدورها في تغيير بنية المجتمع الإقطاعي العشائري المتخلف إلى العلاقات الإنتاجية الرأسمالية والمجتمع المدني الحديث وتنشيط وتطوير الصناعة والزراعة ومختلف الفروع الاقتصادية, وخاصة المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي يمكنها تشغيل المزيد من الأيدي العاملة العاطلة حاليا من خلال تعبئة جهود القطاع الخاص المحلي, إضافة إلى تنشيط قطاع الدولة حيثما وجدت ضرورة لذلك, وبشكل خاص في فروع البنية التحتية وقطاع النفط الخام, وكذلك استثمار النفط الخام وموارده المالية لتنشيط العملية الإنتاجية والسوق الوطني ورفع مستوى حياة ومعيشة السكان, ومكافحة البطالة بمختلف صورها في المجتمع. إن العملية الاقتصادية تستوجب الأخذ باقتصاد السوق الحر الاجتماعي الذي يقيد عملية الاستغلال الرأسمالي لصالح الشكل المناسب المرتبط بطبيعة المرحلة لمفهوم العدالة الاجتماعية للمنتجين الفعليين في مختلف فروع الإنتاج المادي والفكري.
ثالثاًً: الجبهة الاجتماعية التي لا تنفصل عن الجبهتين السابقتين وهي حصيلة لهما من جهة, ومكمل لهما من جهة أخرى. وهي التي تستوجب إجراء عملية تغيير واسعة في الوعي الاجتماعي وفي الممارسة وفي فهم دور المجتمع في الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية وفي التطور اللاحق للبلاد, كما تتضمن مكافحة كل الآفات التي يعاني منها المجتمع بسبب القرون والعقود المنصرمة, سواء تلك التي ترتبط بالفساد الوظيفي والعصابات والنهب والسلب أو المحسوبية والمنسوبية أو التمييز القومي والديني والمذهبي والفكري والسياسي, أو السلوكيات المشينة في المجتمع ومنها اغتصاب حقوق المرأة وحقوق الطفل والأمومة أو البطالة وعواقبها على المجتمع ونهب المال العام والسرقة والسطو والقتل أو عدم الشعور بالمسئولية إزاء مصير البلاد والمجتمع... الخ.
وأكثر المهمات في الحقل السياسي – الاجتماعي إلحاحاً تبرز في مكافحة الفكر العنفي والفكر القومي الشوفيني والعنصري والفكر الديني السلفي المتحجر والفكر المتطرف أياً كانت وجهته, ورفض محاولة فرض الرأي ضد الرأي الآخر وممارسة القوة والقسوة في حل المعضلات والمشكلات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية, ورفض ممارسة العنف والقسوة داخل العائلة الواحدة وفي المجتمع وفي العلاقة بين المجتمع والدولة. إنها القضية المركزية التي ستواجه المجتمع في الفترة القادمة, إذ أن تاريخ العراق مليء بالعنف والقسوة والخروج على القانون من جانب السلطة أولاً والأفراد ثانياً والجماعات. فما دمنا نمتلك لغة الكلام والقدرة على الحوار يفترض أن لا يكون هناك أي مكان للاحتراب واستخدام العنف والسلاح, إذ أنهما لا يعالجان المشكلات بل يزيدانها تعقيداً ويضيفان إليها مشكلات جديدة.
وهنا يبرز أمام الجميع السؤال التالي: من يفترض فيه أن ينهض بالمهمات الكبيرة لتغيير سلوكية المجتمع واتجاهات تطوره؟ أرى في هذا الصدد أن العملية الديمقراطية المنشودة تسير على خمس جبهات في آن واحد, وهي:
1 دور الدولة ومؤسساتها المختلفة, بضمنها أجهزة التربية والتعليم والإعلام والخارجية ....الخ وكذلك الجامعات والمعاهد العلمية ومؤسسات البحث العلمي ... الخ. ويفترض هنا أن يتضمن الدستور العراقي الجديد إقراراً كاملاً بالديمقراطية والوثائق الخاصة بحقوق الإنسان والعمل بموجبها وتثقيف المجتمع بها وتدريسها في مختلف مراحل التعليم العام والمهني والفني وفي أجهزة الأعلام السمعية والبصرية والملموسة.
2. . دور المثقف الديمقراطي من مختلف المجالات الإبداعية ابتداءاً من الأغنية والموسيقى ومروراً بالرسم والفوتوغراف والشعر والقصة والرواية والمقالة وانتهاءً بالاختصاصات العلمية الصرفة والتطبيقية وبقية العلوم الإنسانية.
3. دور المنظمات غير الحكومية, منظمات المجتمع المدني, في مختلف مجالات عملها, وبضمنها النقابات والاتحادات والجمعيات الخيرية ومنظمات حقوق الإنسان ...الخ.
4. الأحزاب والقوى السياسية التي يفترض أن تجري تغييراً حقيقياً على برامجها وبنيتها وأسس تنظيمها وعلاقاتها الداخلية وفي ما بينها ومع المجتمع, إضافة إلى خطابها السياسي وصحافتها.
5. دور العائلة والفرد في المجتمع.
رابعاً: الجبهة الخارجية: والتي تستوجب بذل المزيد من الجهد لوقف التدخل الخارجي وإقناع الأمم المتحدة بلعب دور أكبر في العراق ....الخ.
المهمات الذاتية التي تقع على عاتق القوى الديمقراطية, واليسارية منها على وجه الخصوص, هي:
أ?. إعادة النظر في البنية الفكرية والتنظيمية والديمقراطية للأحزاب الديمقراطية العراقية, وبضمنها اليسارية باتجاه الدمقرطة ومزيدأ من الوعي بالحرية والمسؤولية الفردية إزاء الفرد والمجتمع والالتصاق بالواقع القائم وشحذ الفكر من أجل الإبداع في فهم وتغيير الواقع.
ب?. تغيير واقع العلاقات في ما بين القوى والأحزاب السياسية العراقية التي ما تزال لا تتعامل وفق اسس ديمقراطية وفيها الكثير من عدم المجاهرة وعدم الشفافية.
ت?. تغيير واقع العلاقة مع الجماهير الشعبية التي يفترض أن تتجلى في الخطاب السياسي للأحزاب الديمقراطية وفي سلوكها اليومي ودعايتها وإعلامها العام ودور تلك الجماهير في رسم سياسة الأحزاب وتأثيرها على نشاطها.
ث?. الالتزام الفعلي والمباشر بالقضايا اليومية الملموسة للناس بدلاً من الشعارات العامة والبعيدة المدى, وهو الذي يتطلب تغيير مناهج الأحزاب السياسية واتجاهات عملها.
ج?. العمل من أجل خلق تحالف سياسي بين قوى اليسار الديمقراطي ومن ثم القوى الديمقراطية, وبالتالي التوجهات العلمانية أو المدنية الديمقراطية بشكل عام.
ح?. إدراك حقيقة أن القوى الدينية ترفض أي تحالف حقيقي بعيد المدى مع القوى العلمانية, إلا إذا أجبرت على ذلك من خلال ميزان القوى الداخلي, العربي والإقليمي والدولي. وهو أمر ينبغي أن يؤخذ بالحسبان.
خ?. عدم الانجرار وراء الشعارات الدينية التي تريد فرض نفسها على الخطاب السياسي الديمقراطي والتقدمي أو اليساري, إذ يكمن أن تجرها ذلك تدريجاً إلى مواقع لا تحسد عليها.
د?. ضرورة إبداء المزيد من التواضع من جانب قيادة القوى الديمقراطية وعدم تضخيم الذات في مقابل إضعاف الآخرين والجماهير الشعبية, فالفرد لا يمكن أن يكون قوياً إلا بالمجتمع وبما يقدمه للمجتمع من خدمات ويجسد مصالحها.
ذ?. العمل من أجل خلق تنظيمات ديمقراطية غير حكومية تعبر عن مصالح القوى الديمقراطية في البلاد
ر?. بذل أقصى الجهود لإعادة تنظيم نشاط القوى الديمقراطية في الخارج من أجل تعبئتها لصالح المساعدة في معالجة المشكلات الداخلية وضمان التطور الديمقراطي للبلاد.
ز?. السعي لتنظيم عمليات تطوع الشباب في الخارج لإعادة إعمار العراق وبناء الحياة الداخلية وخاصة عبر التعاون مع المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية والمنظمات الديمقراطية الدولية وحكومات البلدان الأوروبية.
خامساً: مراجعة مدققة لماضي العلاقات السياسية بين القوى السياسية المختلفة وسلوك مختلف الأحزاب والقوى السياسية لمحاسبة الذات أولاً والآخرين ثانياً. وهي تتطلب مستوى رفيعاً من الحرص والصراحة والقدرة على الاعتراف بالآخر واحترامه والتسامح في آن. التمييز بين المسئولين عن النظام السابق والجرائم التي ارتكبت وبين أولئك الذين أجبروا على الانخراط في صفوف الحزب الحاكم ومؤسساته السياسية أو الانتهازيين والجبناء الذين ضعفوا أمام إغراءات المال ...الخ. لا يمكن معاقبة ملايين من البشر, ولكن لا بد من تقديم المسئولين إلى المحاكم لأخذ العقاب المناسب وتوعية المجتمع بالعواقب التي ترتبت على سلوك الطغمة الحاكمة السابقة. فسح المجال أمام الآخرين ممن لم تتلطخ أيسديهم بدماء الشعب والمشاركة الفعلية في اضطهاده من العمل والعيش في ظل المجتمع الديمقراطي المنشود.
وأخيراً, إن مجتمعنا الذي لم يعرف الديمقراطية حتى الآن, ما يزال لا يمتلك القاعدة المادية للتطور الديمقراطي الحر, وهو بحاجة إلى جهود كل المثقفين وأنصار الديمقراطية وحقوق الإنسان والقوى الديمقراطية الواعية قي الأحزاب السياسية العراقية لكي يلعبوا دورهم في عملية التوعية والنضال لمواجهة الذين يسعون إلى دحر المجتمع المدني الديمقراطي والفيدرالي في العراق. إن نصيب انتصار الوجهة صوب الديمقراطية, رغم كل المصاعب كبير, وهذا التفاؤل المشروط يستوجب العمل والجهد الكبيرين بهذا الاتجاه, وهو التحدي الكبير الذي يواجه القوى الديمقراطية والإنسان والمجتمع بكل قومياته وبنسائه ورجاله وبمختلف اتجاهاته الفكرية والسياسية الديمقراطية.
كاظم حبيب
[*] الأفكار الأساسية للمحاضرة التي قدمها الدكتور كاظم حبيب بتاريخ 1/5/2004 في اجتماع عقد في لاهاي/ دينهاك-هولندا, استجابة للدعوة التي قدمت له من منظمة الحزب الشيوعي في هولندا في إطار احتفالات الحزب بالذكرى السبعينية لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي.
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟