|
«الحقيقة والسراب» قراءة جديدة في المنجز الصوفي الأدونيسي للجزائري سفيان زدادقة
عابد اسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 2705 - 2009 / 7 / 12 - 01:45
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
بلاغـــة الصدمـــة
يقدّم الناقد الجزائري سفيان زدادقة في كتابه (الحقيقة والسراب)، الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون (2008) قراءة بانورامية رصينة لما يسمّيه البعد الصّوفي عند أدونيس، مرجعاً وممارسةً، مركزاً على دور هذا الشّاعر المؤسّس في إرساء دعائم حركة الحداثة العربية في الشّعر والنقد، وعلاقته المعقّدة بإرث الحداثة الغربية وفلسفاتها. وينطلق الباحث من رؤيا تفكيكية حداثية لليقين الصّوفي الأدونيسي الذي أراد، جوهرياً، الموازاة بين الصّوفية المشرقية كتجربة تسعى إلى تجاوز الشّريعة، وبين السريالية الغربية كحركة تعمل على تجاوز العقل، والانصهار في الحلم، فالأولى تكرّس مبدأ الكتابة الوجدانية القائمة على الشّطح، والثانية ترسّخ مبدأ الكتابة الآلية القائمة على التداعي الحرّ. ويركّز زدادقة في بحثه الضّخم، الذي قارب الستمئة صفحة، على تفكيك العلاقة الإشكالية القائمة بين التصوّف والسريالية، مشرّحاً التصوّر الأدونيسي لتلك العلاقة، وبخاصّة مسعاه في تخليص الصوفية من كلّ بعد ديني، واعتبارها عرفاناً وثنياً خالصاً، ما جعله يقع، بحسب زدادقة، في فخّ التنميط الأيديولوجي، فالصّوفي، على نقيض ما يرى أدونيس، يجد حرّيتَه في الإيمان وليس خارجه، وفي عبوديته لله باعتباره المطلق الأعلى، وهو، إذ يخالف الشّريعة، إنّما يدحض أو يناقض الفهم الظاهري الحرفي للدّين. وقد رأى أدونيس في الشعر الغربي خصائص مشرقية جمّة تمجّدُ قيمَ النبوّة والرؤيا والحلم والتخييل والانخطاف والإشراق والحدس كما في إشراقات رامبو الذي اعتبر «الذّات شخصاً آخر»، مستعيداً القول الصّوفي الشّهير «أنا لا الأنا». بيد أنّ الصوفية، بحسب زدادقة، تدور في فلك معرفي وثقافي مختلف، وتصدر عن فهم مغاير للعالم، ولا يمكن مطابقتها بالسّريالية، فالظاهرتان تصدران «عن رؤيتين ضدّيتين متعارضتين، رؤيا الإيمان بالله، ورؤية العالم التي شعارها الإنكار». وبين الإيمان الصّوفي، الساعي للذوبان في الذّات الإلهية، والإنكار السّريالي القائم على الانفصال عن العقل، تتأرجح مصطلحات أدونيس وتتماوج، فهو يتجاوز، بحسب الباحث، الأسس الدّينية الميتافيزيقية المتعالية للصّوفية حين يقرأها كتجربة عرفانية وثنية، تبحث عن المجهول فحسب، من دون غاية نهائية تسندها، وهذا ما جعله يطابق بينها وبين السّريالية. ويخلص زدادقة إلى القول بأنّ الفرق بين الرؤيتين جوهري وحاسم، فالسريالي يلغي المعنى ويقوّضه، فاتحاً نصّه على الخواء المطلق، مدفوعاً باليأس والسأم والرفض، بينما يسافرُ الصوفي مزوّداً بالتقوى لأنه، يظنّ الله خيراً مطلقاً، ودافعه الشّوقُ وليس السأم، اليقينُ وليس العبث، وبالتالي فإنّ محاولة الجمع بينهما تظلّ «إسقاطية» أو انتقائية، تخدم رؤيا أدونيس الشّاعر، الذي سحرته، منذ بداياته، فكرة التمرّد، ضدّ المؤسسة الفكرية والدينية والثقافية القائمة. فنان ثوري ويفتتح زدادقة، كتابه المؤلّف من فصول ثلاثة كبرى، بمدخل عامّ، يتناول علاقة الصوفية بنصّ الحداثة، عبر قراءة منجز أدونيس كشاعرٍ غدا «أنموذجاً ومثالاً يصعب تجاوزه في معادلة الشّعر الحداثي العربي»، على مدى خمسين عاماً من الكتابة. فأدونيس كرّس خطابه الشعري والنقدي لتقويض سلطات ثلاث تتحكّم بالوعي العربي وتأسره، وتتمثّل بسلطة النصّ الديني، وسلطة النصّ التراثي، وسلطة العقل السياسي، وهذا ما دفعه للبحث عمّا أسماه زدادقة «بلاغة الصّدمة»، شعراً، وتفكيك الهوّة بين النص والواقع، نقداً. ويقرّ الباحث منذ البداية أنّ أدونيس كثير التنقّل والتحوّل من مدرسة إلى أخرى، ومن مذهب إلى آخر، فرؤيا الشّاعر لديه هي الطاغية، ولا تتطابق بالضّرورة مع رؤيا الناقد. بيد أنّ الثابت في هذا التحوّل هو إعلان أدونيس الدائم انتماءه الفلسفي إلى تيار الحداثة، وتسليطه الضّوء على الخفي والمهمل في التاريخ العربي، متقاطعاً ومتماهياً مع منجزات الفكر الأوروبي، قراءةً واقتباساً وترجمةً، بغير التزام منه بمنهج محدّد، فأدونيس يرفض المنهج كلّياً لصالح ما يسمّيه الكتابة. وفي هذا المنحى، يشدّد زدادقة على أنّ أدونيس لا يجب أن «يُحاكم كناقد، أي وفق الأكاديمية والضّبط المنهجي والجانب المرجعي، بل يجب النظرُ إليه باعتباره فنّاناً ثورياً». وقد استفاد أدونيس، بحسب الباحث، من التحولات المعرفية الكبرى في الغرب، التي رفدت مشروعه الفكري، وصقلت نظرته إلى الثقافة العربية، بدءاً من نظريات داروين في النشوء، إلى نقد كانط لمتعاليات العقل، إلى إعلان نيتشه موت الإله، مروراً بحتمية صراع الطبقات لدى كارل ماركس، واكتشاف فرويد للاّوعي، وتحطيم أينشتاين لتناسق الزّمان والمكان وفقاً للنظرية النسبية، وانتهاءً بموت الذّات المبدعة لدى البنيوية، وتفكــيك مركــزية الفكر الغربي وأسسه العقلانية، وفقاً لفلــسفة جاك دريدا ما بعد الحداثية. وقد تشــبّع أدونيــس بمقولات الحداثة الغربية منذ بداياته، فراح يسقط معاييرها على قراءته للتراث العربي، فكان كتابه (الثابت والمتحوّل) نقطة انطلاق حاسمة لإعادة قراءة الماضي برمّته، ونبش كلّ ما له صلة بالتحوّل والتمرّد والاخــتلاف، وبخاصّة الصوفية، التي رأى فيها حركــة ثــورية دعت إلى تقويض سلــطة النــموذج الفقهي الأعلى كما تجلّى تاريخــياً في نظــام الدولــتين، الأموية والعبّاسية. التناص في الفصل الأول، يستعرض الباحث، على نحو مسهب وموثّق، مدارات التصوف في الثقافة العربية الإسلامية، مكرّساً سبعة عشر مدخلاً مختلفاً لقراءة أصل التصوف وتاريخه وعلاقته بالفقه وعلم الكلام وسبر مقاماته وأحواله، مركزاً على مفاهيم صوفية مركزية مثل الفناء، والحب، ووحدة الوجود، وسواها. ويشير إلى أنّ التصوف بدأت بوادره في القرن الأول للهجرة، وبلغ أشدّه في القرون الثلاثة اللاّحقة، ويصفه بعلم العلوم، أو منتهى الإدراك كما تجلّى لدى شعرائه وفلاسفته، ويستنتج وجود علاقة وطيدة بين التجربة الشعرية والتجربة الصوفية حيث أنّ هذه الأخيرة أسهمت في تفعيل التخييل الشّعري، وأزكت روح الغموض، وفضّلت العرفانية على البرهانية، والإشراق على التذكّر. في الفصل الثاني يبحث زدادقة في علاقة أدونيس بالمرجعية الصوفية، مركزاً على تفكيك وهم التشابه بين السّريالية والصوفية، ومستعرضاً الاختلاف الفلسفي العميق الكامن بينهما، وإن كان يجمعهما التمرّد على سلطة العقل، في مختلف تجلّياته وإرهاصاته، فالصّوفية سعت إلى تجاوز الشّريعة لكي تصل إلى الحقيقة، والسريالية سعت إلى تجاوز المؤسسة القائمة لكي تكتشف الذات ومغاليقها. ويركز الباحث على تمايز المصطلحات والمفاهيم بين الفلسفتين فالحلم في السّريالية يقابله الخيال في الصوفية، واللاّشعور يقابله الغيبة أو الانخطاف، والكتابة الآلية يقابلها الشّطح، والنبوءة تقابلها الرؤيا، وسوى ذلك من ثنائيات، تختلفُ أكثر مما تأتلف. ويأخذ زدادقة على أدونيس نزوعه إلى الإبدال الاصطلاحي، وربطه بين فكرة بريتون للسريالية وفكرة ابن عربي للصوفية، ويستعرض العديد من الأمثلة، منها فكرة العشق الأنثوي لدى كلّ من المذهبين، إذ إنّ مقولة ابن عربي الشهيرة «كلّ مكان لا يؤنّث لا يعوّل عليه» تظلّ بعيدة كل البعد عن الموقف السريالي من المرأة التي ظلّت موضوعاً للشّهوة الحسّية، وبمنأى عن ذاك المعنى الرّوحاني اللطيف الذي قصده ابن عربي. في الفصل الثالث والأخير يسبر زدادقة أحوال التناصّ الأدونيسي، واحتكاكه بمرجعيات غربية وتراثية كثيرة، مفكّكاً الإحالات والتأثيرات والاستشهادات والاقتباسات التي يفيض بها نصّه، واصفاً تلك التفاعلية بأنهّا من السمات الأساسية لشعر الحداثة، ولشعر أدونيس تحديداً. ويجد الباحث أنّ منابع التناصّ الكبرى لدى أدونيس أربعة هي الأسطورة، والنصوص الدينية المقدّسة، والتراث العربي، والثقافة الغربية الحديثة. ويرى أنّ أدونيس سلك في استخدامه الأسطورة طرائق ثلاثاً، فإمّا أنه نقلها بحرفيتها كما فعل السّياب، أو استخدمها محوّرة، محوّلةً، أو ابتدع أسطورةً جديدة تخصّه كما فعل في رمز مهيار الدمشقي. ومن أكثر المداخل تشويقاً وإثارة في الكتاب هو إعادة تسليط الضّوء على الجدل الذي دار ويدور حول علاقة أدونيس بمرجعياته الغربية والعربية، شعراً ونقداً، وبخاصّة تناصّاته الكثيرة، الواعية، وغير الواعية، مع رامبو، وبودلير وسان جون بيرس وإليوت، والنفّري وابن عربي، وسواهم، فضلاً عن تلك الهجرات النصّية النقدية، الفرنسية تحديداً، من سوزان برنار وألبريس ورولان بارت وجاك دريدا. ويخلص زدادقة إلى القول بأن أدونيس تأثّر بتلك المصادر، ترجمةً واقتباساً وتمثّلاً، ويستشهد بطائفة من النقّاد العرب الذين انكبوا على دراسة تلك التأثيرات وتفسيرها بطرائق ورؤى مختلفة، مثل سعيد الغانمي وعبد الله الغذامي ومحمّد بنّيس والمنصف الوهايبي، وصلاح فضل، وعادل ضاهر، ونصر حامد أبو زيد وسواهم. وفي خلاصة بحثه يقرّ الناقد بأنّ أدونيس نهل بقوّة من المتن الصوفي، «مستخدماً أحياناً الخفاء، وأحياناً التجلّي»، ناقلاً الخطاب الصوفي من دائرة الإلهيّ إلى دائرة الإنساني، ومطوّعاً إياه لينسجمَ مع خطاب الحداثة السّريالية ومبادئها. وإذا كان زدادقة قد أعاد السّجال على أشدّه حول أدونيس، وسلّط الضوء على تباين الآراء النقدية حول شعره ونقده، فإنّما يفعل ذلك بموضوعية الأكاديمي ونزاهته، متسلّحاً بذائقة مرهفة، وإلمام فائق بخفايا النصّ الأدونيسي وسياقاته، متجنّباً الوقوع في التقديس أو التدنيس، المديح أو الهجاء، كما فعل نقّاد عرب كثر، ومفضّلاً تشريح الأثر الأدونيسي، وكشف دوره في تشكيل الوعي العربي لدى أجيال بأكملها، إذ لا يمكن، بحسب قوله، قراءة «الحداثة العربية تاريخياً وأنطولوجياً دون الوقوف طويلاً أمام هذا الحضور الأدونيسي الطّاغي والمؤثّر». (كاتب سوري)
عن السفير اللبنانية
#عابد_اسماعيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سفير الإمارات لدى أمريكا يُعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي:
...
-
أول تعليق من البيت الأبيض على مقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
حركة اجتماعية ألمانية تطالب كييف بتعويضات عن تفجير -السيل ال
...
-
-أكسيوس-: إسرائيل ولبنان على أعتاب اتفاق لوقف إطلاق النار
-
متى يصبح السعي إلى -الكمالية- خطرا على صحتنا؟!
-
الدولة الأمريكية العميقة في خطر!
-
الصعود النووي للصين
-
الإمارات تعلن القبض على متورطين بمقتل الحاخام الإسرائيلي تسف
...
-
-وال ستريت جورنال-: ترامب يبحث تعيين رجل أعمال في منصب نائب
...
-
تاس: خسائر قوات كييف في خاركوف بلغت 64.7 ألف فرد منذ مايو
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|