أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن-العدد: 2704 - 2009 / 7 / 11 - 09:34
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كان منتظرا صدور هذا الكتاب بعد كتاب الموت ،أى عام 1990 ، ولكن خاف الناشر ، فظل مجمدا بين أوراقى ، ثم عثرت عليه فى أواخر التسعينيات فاعدت تنقيحه وأضفت اليه . ثم جعلت خلاصته ندوة خاصة فى رمضان فى رواق ابن خلدون ، حين كنت أديره ، وأوصيت الحاضرين ألا يذيعوا مضمون الندوة لأن المناخ لا يحتملها ، ولكن أحد الحاضرين المولعين بالشهرة اتصل بجريدة الأسبوع ، وهى تقف منا موقف العداء ، وأفشى ما قيل ، وصدرت فى اليوم التالى جريدة الأسبوع تهاجمنى وتهاجم مركز ابن خلدون فى الصفحة الأولى ، وتقول إننى أنكر صعود الرسول محمد عليه السلام الى السماء ، وأننى أقول ان المسجد الأقصى ليس فى القدس. وبالطبع فقد كان هذا مما قلت ، ولكن كاتب الخبر صاغها فى صورة تحريضية أقلقت الكثير من الأصدقاء على حياتى ، خصوصا وأن جريدة المساء دخلت فى الساحة تهاجمنى و تكفّرنى وتتهمنى بانكار الاسراء و المعراج معا . وكتبت ردا للنشر فى روز اليوسف يوضح الحقائق القرآنية فى نفى المعراج وتناقض روايات التراث فى موضوعى الاسراء و المعراج. لم ينشر الرد ، وضاع المقال لأننى لم احتفظ بنسخة منه .
ومن الجرائد التى كانت أيضا تسترزق بالهجوم علينا جريدة حكومية اخرى هى ( عقيدتى ) . وطلب محررها منى ـ وكان تلميذا سابقا لى فى كلية اصول الدين ـ أن أعطيه حوارا عن موضوع المسجد الأقصى فرفضت بسبب إدمانهم الهجوم علينا ، خصوصا فى مشروع اصلاح التعليم الذى كنت أقوده فى مركز ابن خلدون . وكانت النتيجة أن أجرت عقيدتى حوارا مع الخصوم حول (ما يقال أننى قلته ) فى الموضوع،وتبارى المتحدثون فى الحكم بتكفيرى و تخوينى ، وكان منهم سعيد كمال ممثل منظمة التحرير فى مصر ، الذى جعل نفسه مفكرا اسلاميا وأخذ هو الاخر يفتى كالآخرين .
والآن .. تأتى الفرصة لنشر هذا الكتاب . بعد أعوام من كتابته على الكومبيوتر. وقد تفضل بمراجعة النسخة المكتوبة الأستاذان محمد مهند مراد أيهم ، و عمر الشفيع .
فاليهما أقدم جزيل الشكر و التقدير.
والله جل وعلا هو المستعان
أحمد صبحى منصور .
فرجينيا ـ فى يوم الخميس 9 يولية 2009 .
مقدمة (2): ـ
أساطير التراث تحيط بليلة القدر . وعلى أساس هذه الأساطير نشأت عقولنا منذ الصغر حيث كنا ننتظر "ليلة القدر" كي تتحقق فيها آمالنا , وارتبطت ليلة القدر في عقول العوام بما يشبه العثور على خاتم سليمان والجن الذي يحقق الآمال . وحمل المثل الشعبي هذه المعاني في قوله " فلان انفتحت له ليلة القدر" تماما كما ينفتح القمقم ويخرج منه الجني الذي يقول : "شبيك لبيك"
وبعيدا عن هذه الأوهام التي تحقق راحة نفسية لهواة أحلام اليقظة من المحبطين واليائسين فإن ليلة القدر هي حقيقة دينية تقع ضمن الغيب الذي أخبر به رب العزة جل وعلا في القرآن الكريم , ولأن النبي محمداَ عليه السلام لم يكن يعلم الغيب ولأن القرآن أكد في عشرات الآيات أن النبي عليه السلام لم يتحدث في الغيبيات فإن حديث الله تعالى في القرآن يبقى المرجع الوحيد الذي نتعرف منه على المتاح لنا معرفته عن ليلة القدر ..
ملامح ليلة القدر في القرآن : ـ
ــ يتجلى في ليلة القدر ملمحان , هما : نزول القرآن فيها , وهو ملمح انتهى ومضى , ثم نزول الأقدار للبشر , وهو ملمح يتكرر سنوياً ..
عن الملمح الأول يقول تعالى عن نزول القرآن "
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ " القدر: 1 , ويقول " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ " الدخان : 3
وعن الملمح الثاني يقول عن هبوط الملائكة بأقدار البشر ـ " تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ " القدر : 4 , ويقول تعالى " فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ . أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ . رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ " الدخان : 4, 5 ,6.
ويرتبط بما سبق بعض الملامح الجزئية وهى تصف ليلة القدر بأنها " خير من ألف شهر " وأنها " سلام هي حتى مطلع الفجر " وأنها " ليلة مباركة " وهذه الملامح الجزئية هي أوصاف دائمة لليلة القدر التي تأتى كل عام في رمضان . حيث نزل القرآن في شهر رمضان " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... " البقرة : 185 .
ونبدأ بالحديث عن الملمح الثاني وهو دور الملائكة بالنسبة للبشر ، والذي يتجلى ضمن ما يتجلى في ليلة القدر.
دور الملائكة بالنسبة للبشر :ــ
الملائكة هي القاسم المشترك في كل ملامح ليلة القدر . إذ إن ليلة القدر هي الموعد السنوي الذي يلتقي فيه جبريل والملائكة المرافقون له بعالم البشر . وحين جاءت بعثة محمد خاتم النبيين عليهم السلام كان الموعد هو ليلة القدر الذي نزل فيه القرآن الكريم دفعة واحدة مكتوباً على قلب النبي عليه السلام , ثم نزل فيما بعد متفرقاً حسب الحوادث , ونزل القرآن الكريم رحمة للعالمين , لكل البشر , باعتباره الكلمة الإلهية الأخيرة للبشر قبل قيام الساعة . وسيأتي تفصيل ذلك لاحقا .
وقبل أن نتعرض للملمحين الأساسيين في ليلة القدر وهما نزول القرآن ونزول التدبير الإلهي للبشر فيها , فإنا سنتوقف مع دور الملائكة بالنسبة للبشر .
وهنا نضع بعض الحقائق القرآنية : ـ
(1) ـ هذا الكون المرئي وغير المرئي من الأرض والسماوات السبع قد خلقه الله تعالى من أجل أن يختبر الإنسان. يقول تعالى "وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً " هود : 7 ، وحين تنتهي مدة الاختبار تقوم الساعة ويدمر هذا الكون ويتبدل بسماوات أخرى وأرض أخرى " يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " إبراهيم : 48
(2) ــ وهنا تتجلى عظم مسؤولية الإنسان ,الذي خلق الله الكون من أجله وسخره له في الدنيا " وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ " الجاثية : 13 , وفى هذه الدنيا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة في الطاعة أو العصيان , في الإيمان أو الكفر , و الرسالات السماوية تنزل لتوضح له الحق من الباطل , وعلى الإنسان تقع الأمانة أي المسؤولية والتكليف , وذلك ما تميز به الإنسان في هذا الكون " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا " الأحزاب : 72 , ويوم القيامة هو يوم حساب الإنسان على هذه المسئولية وتلك الأمانة .
(3) ــ والملائكة من عناصر ذلك الاختبار للإنسان في هذه الدنيا . وهذا هو المعنى الرمزي لأمر الله تعالى لهم بالسجود لآدم , ولخلافة آدم في الأرض. وحتى حين عصى إبليس الأمر بالسجود حين كان من الملائكة فانه بعد طرده من الملأ الأعلى أصبح يقوم بدور آخر هو غواية الإنسان لتكتمل بذلك عناصر الاختبار: بين نفس بشرية ألهمها الله تعالى الفجور والتقوى , وإرادة إنسانية حرة تستطيع أن تزكي النفس وتعلو بها , أو تفسد الفطرة السليمة وتنحدر بها " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا " "الشمس : 7, 8, 9, 10 " ... وبين ملائكة تنزل بالرسالات السماوية للهداية وشياطين يوحون لأوليائهم أحاديث ضالة تقوم بإفساد الدين الإلهي . " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا، شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ " الأنعام : 112 ..وهنا نرى ملائكة الوحي الإلهي يقابلهم في الناحية الأخرى شياطين الوحي المزيف والأحاديث الكاذبة ، والتي يقوم بها أعداء الله تعالى ورسله .
(4) ـ على أن للملائكة أدواراً أخرى في حياة الإنسان الأرضية والأخروية :
فهناك ملائكة الموت التي تقبض النفس عند انتهاء حياته , ومنها ملائكة حفظ الأعمال التي تسجل على الإنسان أقواله وأعماله وخطرات عقله . ولكل إنسان ملكان رقيب وعتيد , وعند البعث يتحول رقيب وعتيد إلى سائق وشهيد , يسيران بالنفس الإنسانية إلى حيث الحساب ولقاء الله تعالى , يقول تعالى " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) "( سورة ـ ق ).
ثم هناك ملائكة العذاب , وسيخلقهم الله تعالى مع خلق الجحيم حين يأتي رب العزة وتأتي الملائكة صفا صفا : (كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) (الفجر 21: 23 )، يقول تعالى عن نار يوم القيامة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم 6 ) . هذه الملائكة الغلاظ الشداد منهم مالك الذي يستغيث به أهل النار يطلبون الموت راحة من العذاب الأبدي : " وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ " الزخرف : 77 "
(5)
ومن بين الملائكة يتميز جبريل أو الروح .
ـ فهو الذي قام بنفخ النفس في آدم حين كان آدم بلا أب وبلا أم . وهو الذي تمثل لمريم بشرا سويا ونفخ فيها نفس المسيح . والنفخ يعني انه حمل كلمة "كن " الإلهية فكان آدم وكان المسيح "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ :آل عمران 59"
ـ وهو الذي نزل بالوحي على كل الأنبياء "يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ : النحل 2" " يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ: غافر 15"
ـ وهو الذي نزل بوحي القرآن على خاتم النبيين "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِين . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ : الشعراء 193" "قل نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ : النحل 102"
ـ و هو الذي ينزل بالأقدار للبشر ليلة القدر من الأمور الحتمية الأربعة التي قد كتبها الله تعالى سلفا على كل إنسان قبيل وجوده المادي في الدنيا، وهى : ما يخص الميلاد والموت والمصائب المكتوبة والرزق الموعود ...
هذا عرض سريع لدور الملائكة بالنسبة للبشر، خصوصا الروح جبريل .
ونرجع إلي ليلة القدر التي تمثل الموعد السنوي لصلة الملائكة بالبشر، حيث كانت تنزل بالوحي،وحيث لا تزال تنزل بأقدار البشر.
نزول القرآن ليلة القدر
بالرغم من كثرة ما يقال عن ليلة القدر ونزول القران فيها فإن الحقائق القرآنية في ذلك الموضوع لا تزال أكثرها غائبة وبعيدة عن مجال التدبر . وفي هذا المجال نقتصر من هذه الحقائق القرآنية على ثلاث قضايا تخص الوحي ؛ معناه ، وكيف نزل الوحي في ليلة القدر وغيرها، ومتى وأين نزل الوحي ليلة القدر..
#أحمد_صبحى_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟