|
وداعاً مروة
محمد علي ثابت
الحوار المتمدن-العدد: 2700 - 2009 / 7 / 7 - 08:01
المحور:
سيرة ذاتية
في رثاء التسامح ----------
اليوم ظهراً سأحضر صلاة الجنازة على روح مروة الشربيني، وسأحضر بعد صلاة المغرب العزاء فيها وتلاوة القرآن على روحها. مروة ماتت قتيلة قبل بضعة أيام على يد مجرم ألماني من أصل روسي قتلها في قاعة محكمة بمدينة درسدن الألمانية إذ وجَّه لها ثماني عشرة طعنة بسكين حامية ودم بارد أمام ابنها الوحيد ذي الثلاث سنوات وزوجها الذي أصابه حرس المحكمة بطلق ناري بشكل غير متعمد، على الأرجح، أثناء محاولته إنقاذ زوجته من يد القاتل. وكانت مروة حاملاً في شهرها الثالث عندما تعرضت للقتل.
...
ياااه.. كل تلك القسوة وكل ذلك الرفض للآخر وذلك العنف الدموي في التعبير عن الرفض؟! لا أصدق ذلك، أو أكاد لا أصدقه، أو لعلّي لا أريد أن أصدقه. ولكنه حدث على أية حال.. زميلة الدراسة السابقة وزميلة أجمل أيام العمر وأكثرها براءةً وخلاءً من الهموم والخطايا ماتت تلك الميتة البشعة بلا أي سبب سوى أنها كسبت أمام المحكمة الابتدائية ثم أمام محكمة الاستئناف دعوى التعويض وعدم التعرُّض التي أقامتها ضد قاتلها الذي دأب على التعرَّض لها وتوجيه السباب العنصري لها ربما لمجرد أنها أجنبية وربما - بالتحديد - لأنها أجنبية مسلمة ترتدي الحجاب، وربما لسبب آخر أجهله لكني أثق في انطوائه على نزعة كراهية قميئة أفضت إلى قسوة كتلك وإلى فعل القتل في قاعة المحكمة في حد ذاته.. حادث هو بمثابة تأكيد إضافي - لم أكن بحاجة إليه، طبعاً - على مدى قسوة أيامنا هذه ووحشية وتطرف ودناءة كثيرين ممن يُسمون فيها بشراً.. جاء موتها بتلك الطريقة البالغة الوحشية التي لا أتمناها حتى لأعتى المجرمين أو لألد أعدائي - إن وجدوا - وجاء في ذلك الوقت بالذات الذي تموج فيه منطقتنا ومناطق أخرى من العالم بالتطرف والتطرف المضاد والقتل والقتل المضاد،، جاء ليؤكد على حقيقة كونية ينساها أو يتناساها كثيرون مفادها أن التطرف والعنصرية والتصرفات الهمجية الدموية التي تودي بحياة الأبرياء هي كلها أمور قميئة وآفات بشعة موجودة في كل مجتمع وفي كل ثقافة وليست حكراً على مجتمعات بعينها أو على ثقافات بعينها، وإن تباينت شدتها ودرجة وضوحها من مجتمع لآخر.. وأخيراً، وعلى مستوى شخصي بحت أو على مستوى متصل بـ "دفعتنا"، فقد جاء رحيلها ليكمل الضلع الثالث في مثلث راحلينا، نحن دفعة كلية النصر بالشاطبي الذين حصلوا على الشهادة الإعدادية في العام 1992 - فبموت مروة أصبحت أسماء أضلاع مثلث الراحلين المؤكدين الثلاثة من أبناء الدفعة هي: كوتة-المكباتي-مروة،، وباكتمال الأضلاع الثلاثة يصير من الطبيعي أن يبدأ الباقون من أفراد الدفعة، التي بالتأكيد انفرط عقدها إلا قليلاً، في التساؤل عَمَّن سيكون مِن بينهم الراحل التالي (أو الضلع الوحيد الناقص لمربع الرحيل، وهكذا دواليك)؟ ومتى وأين سيكون ذلك؟ ولماذا، إن كان لابد للرحيل عن هذه الدنيا السيئة من أسباب؟
لم تكن مروة معي في نفس الفصل أبداً، لكننا كنا زملاء في المدرسة نفسها منذ بداية مرحلة الحضانة وحتى نهاية المرحلة الإعدادية، وكان السبب وراء ذلك الانقطاع في علاقة الزمالة بعد انتهاء المرحلة الإعدادية هو أنه كان يتوجب علينا - الأولاد - ترك المدرسة لأصحابها الأصليين - البنات - والتوجه إلى مدارس ثانوية للبنين لأن نظام المدرسة كان يقضي بذلك. لم تكن طالبة معي في نفس الفصل أبداً، وكذلك لم يكن معي في الفصل أبدا علوي، الذي سيصبح بعد ذلك زوجها والذي سيدخل بسبب إصابته في حادث قتلها في غيبوبة لثلاثة أيام،، ولكنها كانت دائماً طالبة في أحد الفصول المجاورة. وفي الأمتار الأخيرة من المرحلة الابتدائية بالتحديد، أي في صفها السادس، كانت في ذلك الفصل القريب جداً الذي كان طالباً به معها أيضا آسر، الذي تحول بعد ذلك بأقل من ثلاث سنوات إلى أقرب الناس إلى قلبي على الإطلاق وإلى اليوم. وبحكم قربنا "الجغرافي" هذا المستمر، كان طبيعياً أن ينشأ ويتكرر التواصل وتتوطد المعرفة بيني وبينها حتى وإن لم ترق يوما لمستوى الصداقة الحقيقية كما يعرِّفها البشر.
كانت مروة هادئة الطباع ومسالمة للغاية، وكانت لطيفة وودودة جداً ولا يكاد أحد يسمع صوتها وهي تتكلم. أما علوي فأذكر جيداً أنه كان أفضل حارس مرمى عندما كنا نلعب الكرة في "جنينة عم مصطفى" التي يعرفها أفراد دفعتنا والدفعات السابقة عليها ويذكرونها جيداً ويذكرون عم مصطفى نفسه حارس البوابة الغربية للمدرسة المطلة على النزلاية الشهيرة المسماة باسمه أيضاً.. وفي جنينة عم مصطفى تلك أذكر أنني كثيراً ما كنت أعطش أثناء لعب الكرة صباحاً قبل أن يبدأ اليوم الدراسي وأذكر أنني طلبت من مروة مرتين على الأقل شربة ماء من زمزميتها فإذا بها تُشربني في المرتين منها بكل لطف "السفن أب" بدل الماء. كان ذلك ونحن في الصف السادس الابتدائي. وأذكر، عندما كنا في الصف الثالث الإعدادي، أنها كانت "بريفكت" أو قائدة طلابية لفترة طويلة من العام وكانت تشرف على تنظيم طابور الصباح، وهي رتبة لم تكن المدرسة تخلعها إلا على الطالبات الملتزمات صاحبات الدرجات العالية. وإذا لم تَخُنِّي الذاكرة، فقد كانت مروة في تلك السنة في فصل مجاور جداً لفصلي في مبنى سماهر الجديد آنذاك المطل على كلية الهندسة جهة الشرق، بل وربما كانت بالتحديد في الفصل الذي فاز علينا ذات مرة بنتيجة 15 - صفر في المباراة الشهيرة القصيرة جداً التي أثارت بعد انتهائها مشاكل لا حصر لها بعد ترديدنا هتافاً عن أكل الخس أغضب حارس مرمانا الضخم ذا القلب الطيب والعقل الفطولي. وإذا كانت الذاكرة قد خانتني، يستطيع آسر، أو مؤرخ الدفعة، التصحيح طبعاً.
...
حسناً، وكيف حالنا اليوم؟
جنينة عم مصطفى لم يعد اسمها كذلك. فخريجو المدرسة الجدد الذين يتصادف أن أقابلهم لا يعرفون ذلك الاسم مطلقاً ويضحك بعضهم من مجرد سؤالي عنه. وعم مصطفى نفسه، بالتأكيد، قد رحل. والنزلاية الشهيرة المسماة باسمه أيضاً أصبحت مستوية أو شبه مستوية بعد أن رأت إدارة المدرسة خطورة انحدارها أو عدم تناسبه مع أعمال البناء التي جرت بالمدرسة منذ رحلنا - نحن الأولاد - عنها رحيلاً قسرياً وتوجه أغلبنا - ومنهم أنا - إلى مدرسة البنين المجاورة العريقة أيضاً لكن الأقل تنوعا وجمالاً على الجانب الآخر من النزلاية. وماذا عن مروة التي كانت تسقي زملاءها السفن أب في الصباح بدل الماء وهم يوسخون ملابسهم بلعب الكرة في ملعب ترابي ذي عشب كان مصفراً متآكلاً طوال العام الدراسي؟
قلتُ أعلاه إن مروة قتلها مجرم عنصري بطعنات متتابعة بالسكين لأنه لم يرض عن اختلافها عنه ولم يقبل بوجودها في بلده وتمسكها فيه بعاداتها ومفردات ثقافتها التي كانت بالتأكيد مقتنعة بها وإلا ما كانت لتنقلها معها إلى حيث هاجرت أو سافرت. وربما يكون قتلها لأنه استكبر منها أن تدافع بشجاعة وبطريق رسمي متحضر ودءوب في الوقت ذاته أمام صلفه واستعلائه وعنصريته النازية الفاشيستية عن حقها في أن تكون مختلفة عن النساء في بلاده من حيث الزي أو المظهر أو العادات والقيم من دون أن تسعى لفرض نموذجها عليهن. مروة راحت ضحية لجريمة كراهية عنصرية ستوضح التحقيقات إن كانت ذات طابع ديني أم قومي. وزوجها علوي كاد يموت معها، وجنينها ذو الأشهر الثلاثة تم وأده بداخلها وبالتالي تم إعفاؤه من زيارة عالمنا القميئ والاحتكاك بناسه الأشرار بدرجات متفاوتة أغلبهم، أما ابنها ذو الثلاث سنوات فقد شهد مقتلها بعينيه اللتين ما أظنهما ستنسيان ما شهدتا أبدا.
...
إنني إذ أقوم الآن برثاء مروة، فإنني أقوم في نفس الوقت برثاء أشياء كثيرة معها ودَّعت عالمنا بالكامل أو تكاد تودعه، ومنها: التسامح، تقبُّل الآخر، الموضوعية في إبداء الأحكام التي تمس الآخر وعدم الخلط بين القضايا العامة والحوادث الفردية، والتروِّي قبل إصدار الأحكام القيمية أو التفسيرات الجنائية التي تتصل بحياة الآخرين أو بموتهم.
#محمد_علي_ثابت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ديالوج - قصة قصيرة
-
لو زارني فرح ساعات
-
حالاتي
-
هي (قصة قصيرة)
-
رهانات متفاوتة
-
دفقات
-
عم أونطة
-
بعضٌ مما نعرفه لاحقاً
-
على مُنحنى السواء
-
لكُلٍّ يَمٌّ يُلهيه
-
مَحْض صُدَف - قصة قصيرة
-
تصرفات شتى إزاء الريح
-
أقصُوصة من سِفر الإياب
-
فعل الأمر في رؤيا
-
فصل العلم عن الدين.. لماذا؟
-
متوسط المتوسط
-
حالات
-
انتصار الهاء
-
بينما أنتظرك
-
حتى أتتني الرسالة
المزيد.....
-
أوكرانيا تعلن إسقاط 50 طائرة مسيرة من أصل 73 أطلقتها روسيا ل
...
-
الجيش اللبناني يعلن مقتل جندي في هجوم إسرائيلي على موقع عسكر
...
-
الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام تسفي كوغان في الإمارات ب
...
-
اتفاق الـ300 مليار للمناخ.. تفاصيله وأسباب الانقسام بشأنه
-
الجيش اللبناني: مقتل جندي وإصابة 18 في ضربة إسرائيلية
-
بوريل يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق مباشر للقرار 1701
...
-
فائزون بنوبل الآداب يدعون للإفراج الفوري عن الكاتب بوعلام صن
...
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
مصر تبعد 3 سوريين وتحرم لبنانية من الجنسية لدواع أمنية
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|