|
(أين تكمن العلة؟ في الحاكم أم في المرؤوسين؟)
مختار ملساوي
الحوار المتمدن-العدد: 2700 - 2009 / 7 / 7 - 08:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هذا العنوان هوعنوان تعقيب للسيد عدنان عاكف على مقال للسيد شامل عبد العزيز، وقد دعاني مشكورا لإبداء رأيي في الموضوع، ونظرا لطول التعقيب الذي كنت أزمع نشره ضمن التعقيبات فقد ارتأيت نشره مستقلا تعميما للفائدة وتحفيزا لما يمكن أن يثيره من حوارات أرجو أن تكون مثمرة وهادئة وصريحة. تساؤلك، سيد عدنان (أين تكمن العلة؟ في الحاكم أم في المرؤوسين؟) هام جدا بل هو في نظري أهم سؤال يشغلني منذ مدة طويلة خاصة منذ أن ابتعدت عن الفكر الشعبوي اليساري وتبنيت الفكر الديمقراطي اللبرالي، كما تعلم. من وجهة نظرك سيد عدنان، الجواب واضح بقولك (تزيدنى السنون ايمانا بانه لا توجد شعوب سيئة ، وانما نحن بصدد حكام سيئين وجهلة وفاسدين). وأنا وإن كنت مع رأيك في خضوع بلداننا وشعوبنا منذ أزمان لحكام سيئين وجهلة وفاسدين، فإنني مغرم بطرح الأسئلة إلى نهايتها لأنني لا أومن إطلاقا بوجود حكومات غريبة عن شعوبها. من هذه الأسئلة مثلا، لماذا ابتليت هذه الأمة منذ قرون بحكام سيئين وجهلة وفاسدين؟ هل هو قدرها ولا راد لقضاء الله وقدره؟ كما حاول رجال الدين دائما إقناع الناس بذلك ونحتوا لذلك المقولة الشهيرة (حكم غشوم خير من فتنة تدوم). وبالتالي فلا مجال لمواصلة البحث؟ وأنا لا اعتقد أنك مع هذه الرؤية الاستسلامية الانهزامية. أم أن هناك أسبابا أخرى يجب البحث عنها؟ أنا أجد في الحديث القائل (كما تكونوا يول عليكم) جدلية ممتازة. فكما أن البشرية، كما يقول ماركس، لا تطرح على نفسها من المشاكل إلا التي تقدر على حلها، فكذلك الشعوب، لا يمكن أن يتأمر عليها إلا من هو أقرب إليها إن سلبا أم إيجابا. هذه قاعدة عامة، قد تحدث استثناءات فيها، لكن الاستثناء أو الشاذ يحفظ ولا يقاس عليه كما يقول الفقهاء. مشكلتنا حضارية بامتياز، هي مشكلة شعوب جف عودها وأصيبت بالعقم المزمن فلم تعد قادرة على إنجاب نخب حقيقية قادرة على تأطيرها لخوض معارك التصدي لهؤلاء الحكام أم لتحسين أدائهم السياسي والاقتصادي والإداري والانطلاق في صنع الحضارة. في القديم كانت النخب عموما تتآمر على الشعوب تملقا للحكام مقابل حظوتهم لأن مصدر الرزق عموما كان بيد الحكام، ومن أراد نعمة الحياة وترف المعيشة فلا أفضل له من التوجه نحو قصر السلطان بقصيدة أو كتاب أو تحفة فنية أو ترجمة أو صوت جميل أو عزف بارع أو حتى قدرة فائقة على الإضحاك (كما تعلم كانت ظاهرة الضحاكين منتشرة جدا). ومع ذلك لا نعدم بينهم من تحلى بقدر عظيم من الكرامة وعزة النفس والتحدي، لكن مصير هؤلاء غالبا ما كان سيئا وهم في النهاية شواذ، والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه كما سبق القول. النخب اليوم أتيحت لها إمكانيات التحرر من السلطان من خلال ظهور مستهلكين جدد لبنات أفكارهم وإبداعاتهم: هناك اليوم شعوب أصبح فيها قراء كثيرون ومتعلمون بالملايين، وهناك وسائل اتصال جديدة متاحة بدرجات متفاوتة للنخب تمكنهم من مخاطبة الناس بما لديهم من معارف ومن خبرات في التنظيم السياسي والاجتماعي. لكن الذي لم يتغير هو خطاب النخب من جهة وحاجة الناس إلى هذا الخطاب من جهة ثانية. هناك منتج ومستهلك متلازمان. من الناحية الاقتصادية المنتج في حاجة إلى مستهلك يحفزه على الإنتاج، كذلك أصبح في إمكان المنتج أن يخلق في المستهلك الحاجة إلى الاستهلاك إذا أبدع في إنتاجه (هو نوع من فن التسويق maketing). وكلا الظاهرتين مازالتا ضعيفتين عندنا ويجب أن نشتغل عليها إذا أردنا أن نكون فاعلين في التعامل مع واقعنا. هذه النخب منقسمة اليوم قسمين: قسم ما زال يحوم حول قصور السلاطين وينتج خطابا تبريريا تخديريا تجاه الناس، لكن أمره منكشف ومسعاه خائب. وقسم آخر وهو الأخطر ادعى المعارضة وامتلاك الحقيقة المطلقة باسم الإسلام أو باسم الاشتراكية العلمية أو القومية. وراح يدعي الوكالة على الناس ويعدهم، إن هم أطاعوه وانساقوا وراءه كالبهائم، بالخير العميم، الأكثر صدقا وإخلاصا بينهم يشبه إلى حد كبير ذلك الراعي الحنون الذي يسوق أغنامه إلى المراعي والمروج الخصبة. هؤلاء النخب في عصرنا الحديث قاموا بثورات واستولوا على أوطان وجربوا مشاريعهم وفشلوا. وبما أنك ذكرتني ببومدين فقد كان الرجل يقول: "نحن نبني دولة لا تزول بزوال الرجال والحكومات" ووضع ميثاقا وطنيا ودستورا للبلاد ينص على أن الاشتراكية اختيار لا رجعة فيه. فأين نحن الآن من ذلك الزمان. قبل أن ينبت الربيع على دمنته (اقتباسا من تعبير بديع الزمان الهمذاني في المقامة البغدادية)، قام خلفاء بومدين بإجراء تعديلات جذرية وتراجعوا عن كل مشاريعه. وظهر للعيان أن بومدين كان يحيط نفسه بشلة من الناس فيهم كل الصفات إلا الكفاءة والنزاهة والالتزام (لعلمك هذه الشعارات الثلاثة كانت في الجزائر تعادل شعارات الثورة الفرنسية (حرية، إخاء، مساواة). ولقد أدت سياسة بومدين هذه إلى إغراق البلاد في حرب أهلية دامية لا داعي للتذكير بمآسيها. بومدين يتحمل مسؤولية كبيرة ليس لأنه كان ذا نوايا سيئة تجاه شعبه، ولا لأنه كان طماعا جمع أموالا طائلة فقد مات الرجل وفي خزينته بضعة عشرات من الدولارات. لكن ماذا كان يفعل بالمال إذا كانت الجزائر كلها تحت قدميه. فالمال عموما هو أداة لتحقيق غرور شخصي أو نزوة ذاتية أو جاه وسلطان، وهذا كان بين يدي الرجل حتى الموت. بومدين يتحمل مسؤولية كبيرة لأنه أقام حكما مستبدا ادعى الوكالة على شعب كما ادعى القدرة وحده على حل مشاكل الناس بدون مشاركتهم ورغم أنفهم (لعل السبب الأكبر يعود إلى ثقافته المتوسطة التي اصطبغت بشيء من الإسلام الأزهري وشيء من الاشتراكية الطوباوية، بالإضافة إلى النموذج التنموي العام الذي كان سائدا، والذي كان الاتحاد السوفييتي مثاله الأعظم وقد تأثرت به أغلب الثورات التي قامت في العالم الثالث يومئذ وعندما فشل النموذج في المركز تساقطت النماذج الأخرى في الأطراف كأوراق الخريف). بومدين يتحمل مسؤولية لأن نظامه جثم على صدور الناس ومنع كل فكر مختلف وكل نقد ذاتي وكل إمكانية في تصحيح الأخطاء في أوانها. نقد بومدين وناصر وصدام وغيرهم ضرورة حيوية لنا جميعا حتى نتخلص نهائيا من توقنا المرضي نحو مخلص أو مهدي منتظر أو زعيم ملهم لا غنى لنا عنه. (لعل هذه العقلية هي التي دفعت قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى وصف نفسها بالإنقاذ وسموا جريدتهم "المنقذ" بمعنى المخلص. اقتناعا منهم بأن الناس في حاجة إلى منقذ مخلص، وليسوا بحاجة إلى أن يتحولوا هم بالذات إلى قوة جبارة منقذة لنفسها. وهذا هو السبب الذي جعل الجماهير الجزائرية تبكي بومدين بكاء مرا وقبله بكت جماهير العالم على ستالين الأب الرحيم وبعد رأينا جماهير كوريا الشمالية في هستيريا غريبة من البكاء على كيم إل سونغ، ثم تقف متفرجة عاجزة بعده عن الحراك في انتظار من يسوقها وراءه بكل الوعود المعسولة وهو ما فعلت البيروقراطية الحاكمة المتخلفة بعد بومدين بشعار من أجل جزائر أفضل، أي أفضل مما كان، ثم انساقت كالأنعام فيما بعد وراء الإسلاميين الذين كانوا يحملون أيديولوجيا مغرقة في الرجعية هي على النقيض من أفكار بومدين. وعليه فبومدين لم يكن يخاطب شعبا بل رعية مسلوبة الإرادة والعقل والوعي. عاملها كقاصرة فتصرفت كقاصرة إلى اليوم. الطاهر وطار، وما أدراك، صاحب اللاز وما يبقى في الواد غير احجاره، (وإن كنت في حرج من أمري لأن الرجل مريض يتعالج في فرنسا، ويجب أن نتمنى له الشفاء العاجل بدل انتقاده) لكن بما أن لكل مقام مقالا، فلا بأس أن نذكر للرجل محاسنه ومساوئه. آخر مرة شاهدته في المركز الثقافي الفرنسي في قسنطينة وهو يحاضر، منذ حوالي عامين، كان يقول، وبحق، إن الصراع عندنا هو بين بداوة وحضارة، وليس صراعا من نوع آخر لا طبقيا ولا ثقافيا. قبلها قرأت له قولا أعجبني وهو يعلق على الغزو الأمريكي للعراق للإطاحة بصدام وإقامة ديمقراطية جاءت على ظهور الدبابات لتغيير موازين القوى في الشرق الأوسط: (أنا مع الديمقراطية ولو جاءت على ظهور البغال) لاحظ أخي عدنان أن الرجل تغير كثير. لقد ابتعد عن الماركسية اللينينية وعن طروحاتها الشعبوية كما صرح في مقابلة تلفزيونية. مع ذلك فإن مواقفه خلال العشرية الإرهابية السوداء في الجزائر كانت جبانة بأتم معنى الكلمة في حق مثقفين كانت رصاصات الغدر الإرهابي تتصيدهم يوميا بينما كان هو يتشفى بحجة أن المغتالين هم فرنكفونيين، وقد امتدت يد الإرهاب فيما بعد إلى الجميع بدون تمييز بما فيها أحد أقرب أصدقائه (الأديب والشاعر المزدوج اللغة يوسف سبتي الذي ذبح في سرير النوم ويقال إن مرتكب الجريمة كان أحد طلابه) حسب مبدأ من ليس معنا فهو ضدنا. قد يكون الخوف مصدر هذه المواقف، وللحق نقول إن الرجل كان دائما في مرمى بنادق القوى الرجعية. بقي أن أعلق على كلامك يا سيد عدنان الموجه إلى السيد طارق حجي عندما تقول ( بصراحة أنا لست بحاجة الى كاتب يدعوني بكتابته الى مزيد من اليأس والإحباط، كما يفعل السيد شامل وتعليقكم لهذا اليوم، بل بحاجة الى كاتب مبدع مثل الكاتب الجزائري الطاهر وطار، الذي استطاع بالرغم من كل مرارات ثورة التحرير العظيمة ان يقنعني بانه - ما يبقى في الواد غير حجاره - !!-) فماذا بقي في الواد يا سيد عدنان؟ ماذا بقي من ثورة المليون ونصف المليون؟ ماذا بقي من أفكار الاشتراكية التي دافع عنها الطاهر وطار وبومدين؟ أقول لك: هناك اليوم في الجزائر مجتمع طبقي إلى أقصى درجة، غنى فاحش وفقر مدقع. هناك في الجزائر فكر ظلامي لا يمكن أن نعتبره بأي حال من الأحوال الوريث الشرعي لأفكار الحركة الوطنية الجزائرية الثورية. هناك في الجزائر سكان تضاعف عددهم ما يقرب من أربع مرات منذ الاستقلال (1962) وأفرزوا جحافل من الشباب المغترب المستلب لا يمتون بصلة لشباب الجزائر الثورية بعضهم يفضلون الموت في البحر وبعضهم يفضلون الموت ضمن الجماعات الإرهابية وبعضهم تفتك بهم الآفات الاجتماعية. طبعا لعلني أبالغ قليلا في هذه الصورة القاتمة، فهناك مجهودات تبذل وأموال طائلة تصرف في التنمية المحلية ولكن المصيبة أعظم من أن تحلها هذه الترقيعات. أنا لست مقتنعا بجدوى قراءة الفاتحة على أرواح الموتى (كما دعوتني إلى ذلك)، ولكني اعتبر نفسي امتدادا أصيلا لتلك الأفكار الإنسانية التي نادى بها بومدين وحتى الطاهر وطار، وأنا على يقين أن اليسار اليوم، إن لم يكن يعني النضال من أجل أفكار التقدم والحرية والديمقراطية ويحارب الظلامية الدينية المتحالفة مع الاستبداد فلا أعتقد أن له رسالة يؤديها في مجتمعاتنا البائسة. لم أعد أنتمي إلى يسار دونكيشوتي يحارب طواحين الهواء وأوهام الصراع الطبقي وخرافة الطبقة العاملة الثورية وينادي بالبديل الاشتراكي كالذاهب إلى الحج والناس عائدون. تحياتي
#مختار_ملساوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غنائم الحرب ضد الاستعمار
-
شامل عبد العزيز والاستعمار
-
دفاعا عن عقول أبنائنا ضد تخلف المناهج التربية: مادة التربية
...
-
قصة قصيرة من أزمنة الإرهاب: نهاية شيوعي
-
دفاعا عن عقول أطفالنا ضد تخلف المناهج التربوية، التربية الإس
...
-
قصة قصيرة من أزمنة الإرهاب: غسلا للعار
-
دفاعا عن عقول أبنائنا ضد تخلف المناهج التربوية: مادة التربية
...
-
المحاولات البائسة للتوفيق بين الإسلام والديمقراطية: ولاية ال
...
-
قصة قصيرة من أزمنة الإرهاب: المجاهد يسترد بندقيته
-
دفاعا عن عقول أطفالنا ضد تخلف المناهج الدراسية: مادة التربية
...
-
دفاعا عن عقول أبنائنا ضد تخلف المناهج الدراسية: مادة التربية
...
-
المحاولات البائسة للتوفيق بين الإسلام والديمقراطية: القرضاوي
...
-
مقال تعقيبي على مقال السيد نادر قريط
-
مآزق الإسلام السياسي أمام العقل المنطقي
المزيد.....
-
رصد طائرات مسيرة مجهولة تحلق فوق 3 قواعد جوية أمريكية في بري
...
-
جوزيب بوريل يحذر بأن لبنان -بات على شفير الانهيار-
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
لحظة هروب الجنود والمسافرين من محطة قطارات في تل أبيب إثر هج
...
-
لحظة إصابة مبنى في بيتاح تكفا شرق تل أبيب بصاروخ قادم من لبن
...
-
قلق غربي بعد قرار إيران تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة
-
كيف تؤثر القهوة على أمعائك؟
-
أحلام الطفل عزام.. عندما تسرق الحرب الطفولة بين صواريخ اليمن
...
-
شاهد.. أطول وأقصر امرأتين في العالم تجتمعان في لندن بضيافة -
...
-
-عملية شنيعة-.. نتانياهو يعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي في
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|