|
لا تلبس الأزرق أمام عدسة زنوبيا
خيري حمدان
الحوار المتمدن-العدد: 2698 - 2009 / 7 / 5 - 06:58
المحور:
الصحافة والاعلام
حسناً، توقّفت الكاميرا عن التصوير وإنتاج ما تيسّر من برامج، ولا شكّ بأنّ تلك الجملة ما زالت معلّقة بالقرب من علبة التصوير الزرقاء الصغيرة (يمنع لبس اللون الأزرق أمام الكاميرا) وذلك لاعتبارات تقنيّة، لا يوجد فعل أمر آخر مورس أو يمارس في مقرّ قناة زنوبيا. أتحدّث عن تجربتي في هذه القناة، دون تحيّز أو تجنّي موجّه ضدّ أيّ شخصٍ ما أو جهة بعينها. كنّا جميعا ندرك بأنّ زنوبيا خطّاً أحمراً قانيّاً وسط جميع الخطوط الحمراء التي تملأ العالم العربي، والتي أودت بحياة مفكّرين وكتاب وصحفيين وأكبر مثال على ذلك عملية اغتيال الصحفي الكبير سمير قصير، هذا عدا عن يومياتنا، أوراقنا المعروضة في مهبّ الريح، أفكارنا، آمالنا، معاناتنا، مخاوفنا، حبل المشنقة، السجن، التحقيق، الملاحقة، نظرات الاتّهام، العزلة، الحياة بكلّ تضاريسها.
ولكن زنوبيا كانت في بداية المطاف الخطّ الأكثر حمرة في نظر الجميع. وكان لا بدّ من التمتّع بجرأة كبيرة للالتحاق بهذه القناة المعارضة للنظام السوري مباشرة. وأنا ليس لي ثأر أو عداء مباشر لهذا النظام، ولكنّي كفلسطيني أدرك بأنّ جميع الأنظمة العربية معنيّة بقضيتي وبالسلطة الفلسطينية بدءً بالاحتلال الإسرائيلي مروراً بالسلطة الفلسطينية ومضاعفاتها، وجحيم الصراع الفلسطيني على مستوى الفصائل والحضور على الساحة العربية والدولية، ومساعي قطر الحميمة لتأمين صكّ الحريّة للرئيس الفلسطيني محمود عبّاس لمغادرة المقاطعة، واحتضان النظام السوري لحماس وغيرها من التنظيمات الفلسطينية، لهذا وافقت على أن أكون جزءاً من قناة زنوبيا، ولست بنادمٍ على ذلك، حتى بعد أن أغلقت القناة أبوابها.
أتمنّى أن تعود هذه القناة مجدّداً للعمل بحلّة جديدة، وطاقم صحفي أكثر كفاءة. كان هناك الكثير من الأخطاء، ولكنّها ليست بالأخطاء القاتلة على أيّة حال. لم يحدث أن تدخّل أحد من عائلة خدّام في سير العمل إطلاقاً، وهذا أمرٌ يندر حدوثه في الإعلام الرسمي الموجّه، بل والخاص كذلك. وكان المجال مفتوحاً لكافّة الأطياف للتعبير عن آرائهم مهما كانت توجّهاتهم، بما في ذلك النظام السوري ومن أراد أن يتحدّث باسمه. ولكن التهميش والصمت والتعامل مع القناة كأنّها مجرّد سراب من كافة الجهات، كان الردّ الوحيد الذي يُسْمَع صداه أينما أصغنا السمع. الصمت هو سمة العالم العربي في ظلّ أنظمة شمولية لا تسمح للآخر والذي قد يكون معلّماً أو مفكّراً أو طبيباً أو حقوقيّاً بالتعبير عن رأيه، لا أقول المطالبة بقلب النظام والمضيّ بمشروع انقلاب لا سمح الله، ولكن مجرّد التفكير بإحداث مساحة للتفكير والتعبير عن الذات المغيّبة في لجّة الحدث السياسي والتحديّات غير المسبوقة كنشوء الاتّحاد الأوروبي الذي أصبح حقيقة وواقع، وما إلى ذلك من التطوّرات الاجتماعية والسياسية على الساحة الدولية.
كانت زنوبيا ملتقى لنشطاء الإخوان المسلمين، والمكوّن الكردي والعلمانيين والمفكّرين والفنانين والفضوليين بالطبع، وتمكّن بعض الذين لا علاقة لهم بالعمل الصحفي من التسلّق، ليصلوا خلال فترات زمنية قصيرة للغاية، من تقديم برامج تلفزيونية، دون المرور عبر امتحان لتقييم سلامة مخارج الحروف والقدرة على الكتابة السليمة المعبّرة، هذه الفرصة لا يمكن أن تتحقّق لهؤلاء الزملاء سوى في قناة زنوبيا الفضائية تحديداً. ولأنّي شخصيّاً معنيّ بهذا الطرح، أفضّل ترك التقييم المهني لمشاهدي القناة وللخبراء الإعلاميين، ولكن هذا لا يكفي أبداً للحكم على هذه القناة بأنّها لم تكن مؤثّرة، وإلا لما تعرّضت لكلّ هذا التشويش المركّز. إمكانيات القناة كانت محدودة للغاية، وهذا رد على من يظنّ بأنّ من عمل في القناة، كان يسعى فقط للكسب المادّيّ، المكان الطبيعي للأموال هو البنوك، وهي متواجدة في جميع أنحاء الدنيا، ويستفيد منها رجال الأعمال والتجّار والمهنيون وكلّ مواطن، بغضّ النظر عن انتمائه وتوجّهاته السياسية، وإذا امتلكت معارضة ما رأسمال كبير، فهذا جيّد، يكفي أن يستثمر هذا المال من أجل الصالح العام. ولكنّي أؤكد بأنّ الظروف التي مرّت بها قناة زنوبيا، لم تسمح بتطوّرها وبقيت الرغبة بالمضيّ نحو الأمام مجّرد حلم كان وما يزال يراود الكثير من التوّاقين للحريّة والعمل الصحفي الجادّ، خاصّة وسط هذا الكمّ الهائل من القنوات الوصولية والتي لا تحمل رسائل إعلامية لعالمنا العربي. لم يتمكن رأس المال العربي من إيجاد منبر جادّ سواءً على مستوى القضايا الإنسانية أو على مستوى العلوم والأحياء، لا ولا على مستوى الحيوانات والحشرات حتّى، مجرّد رقص وغناء متواصل، وحوارات تشابه صراع الديوك وإعلام مشوّه لا يعبّر سوى عن آراء الممولين.
كانت زنوبيا حقل صرخ في رحمه الكثير ومن كافة الأطياف، نجح هنا وفشل هناك. حاولنا أن نشير إلى ضرورة التعبير عن الرأي بصراحة ودون الخوف من قول الحقيقة، حتى وإن كان هذا البوح مؤلماً، ولكن ألمنا على أيّة حال لا يمكن مقارنته بمعاناة سجناء الرأي والضمير كالدكتورة فداء الحوراني وأنور البنّي وغيرهم كثير.
وعودة إلى هيكلية القناة والتي عكست في معظم مراحل وجودها صورة عن المفهوم الشرقي الضيّق للعمل المؤسساتي، وقصور المدراء الواحد تلو الآخر التعامل مع هذا الطاقم المتواضع، ويكفي أن نذكر بأنّ عدد الاجتماعات لم تتجاوز ثلاث اجتماعات أو أربعة، نصفها كان من أجل الفصل والتسريح الفوري (لثلث الطاقم على الأقل كلّ اجتماع)، مع العلم بأنّ هناك من حضر من دولٍ أخرى وترك مصالحه وتفرّغ للعمل في القناة، وهكذا حتى أصبح الموظّف الواحد يقوم بعدّة وظائف دفعة واحدة، كما لم تتمكن الإدارة من التعامل مع العنصر الأنثويّ في القناة، ويبدو هذا واضحاً من غياب المرأة كضيفة أو مقدّمة برامج ومذيعة كذلك، ما يجعلنا صورة عن المفهوم الشرقي التقليدي للعلاقات الاجتماعية والمهنية. عدا عن كلّ ما ذُكِر، لم تستفد القناة نهائياً من وجودها على بعد كيلومترات معدودة من مقرّ الاتّحاد الأوروبي في بروكسل. سوى إجراء بعض اللقاءات العابرة، وبعض التقارير التي كان من الممكن الحصول عليها من أيّ مصدر إعلامي، وذلك لحصر التعامل مع البرلمان الأوروبي على أشخاصّ محدّدين، وعدم المبادرة لإصدار بطاقات صحفية سوى للنزر القليل المقرّب من أصحاب القرار في القناة، ما يعني بأنّ للمحسوبية والولاء أثرٌ واضح في ظهور (وليس نجاح) بعض الصحفيين على جمهور المشاهدين، وكنّا نتمنّى أن يتغيّر هذا النهج حتى اللحظة الأخيرة من عمر القناة. ربّما غاب عن ذهن المدراء الأعزّاء أيضاً بأنّ هناك ضرورة لتوقيع عقود عمل، ليس فقط في المجتمعات المدنيّة، خاصّة في بروكسل وهي عاصمة المنظومة الأوروبية، ولكن حتى في سوريا وشرق المتوسّط والهند وأفغانستان، علماً بأنّ بعض الموظّفين تمكنّوا من تحقيق هذا الإنجاز الهائل، وأقصد بذلك توقيع عقود العمل قبل شهر أو شهرين من إغلاق قناة زنوبيا. لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار هذه التراكمات السلبية، وإدراك أنّ اليد الواحدة غير قادرة على التصفيق، خاصّة وأنّ ما كانت تودّ طرحه القناة في المجمل، مشروع تغيير إيجابي مدنيّ حضاري متطوّر، وإلا فستبدو وكأنّها تصارع باسم أصحابها من أجل الوصول إلى كرسيّ السلطة والحصول على التاج والصولجان وهذا مغايرٌ للحقيقة. لهذا وإذا كان لا بدّ من بثّ الحياة مجدّداً لهذه القناة، فإنّه يجب توخّي الحذر في انتقاء مدير متمكّن ويفهم القوانين الأوروبية والمدنية والقانونية، ويتعامل مع الموظّفين على هذا الأساس، وهنا يكمن خطأ أصحاب القناة في إهمال هذا الواقع، وعدم تدخّلهم في شؤونها الإدارية، وأنا على يقين بأنّهم كانوا يدركون جيّداً بأنّ شأن القناة يسير من سيّء إلى أسوأ، والقضية أكبر من أن تكون مشكلة أموال وتمويل، وأكبر دليل على هذا، الدعم الكبير الذي حظيت به القناة مع بداية انطلاقتها من كافّة الأطياف السياسية المعارضة وغيرها، على عكس ما شاهدناه في المراحل الأخيرة من حياة القناة.
في سياق آخر، ندرك جيّداً بأنّ المعارضة السياسية بشكلٍ عام هي أغلى ما يملكه أيّ نظام سياسي حكيم، لأنّه صمّام الأمان ضدّ الفساد وتسيّب مقدّرات الشعب، وتحكّم فئة بعينها بمستقبل الأمّة. ولكن فهمَنا الشرقيّ مختلف تماماً، والمعارضة تعني بالنسبة للأنظمة الإقصاء والفوضى لا محالة. كثيراً ما أحلم بقريتي التي وُلِدْتُ فيها يوما ما، وامتطيت السحاب بحثاً عن وطنٍ آخر وكم كنت مخطئاً، وأثناء فترة تواجدي في بروكسل، أدركت بأنّني في الوقت الذي كنت أحلم به برؤية نابلس، هناك آخر يحلم بقضاء ليلة في حلب أو حماة أو دمشق، تنقضي عقود طويلة من الزمن، والوطن لا يبعد سوى ساعتين من الزمن على متن طائرة. لكنّه الوطن المستحيل، في القرن الحادي والعشرين. وفي الوقت الذي أوشكت الأراضي المعروضة للبيع على سطح القمر على النفاذ، نبقى نحن أسرى طموحنا نحو نهارٍ آخر، حيث للشمس مذاق الليمون. فلتذهب باريس وصوفيا ولندن للجحيم، إذا كانت هذه العواصم هي البديل الأبديّ للوطن.
أتمنّى ممّن تبقّى من الزملاء، إزالة ذلك النصّ الذي كان يغيظني كثيراً في تلك الحجرة الزرقاء الصغيرة. ((لا تلبس الأزرق أثناء التصوير.)) فأنا أعشق زرقة البحر، أعشق زرقة السماء، أطلقوا سراح اللون الأزرق من فضاء زنوبيا.
#خيري_حمدان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأملات في مهب الريح
-
الكتابة على أوراق النار
-
أنا العاشق وحبيبتي غزة
-
صومعة على حافة الطريق
-
شتاء العمر وربيعك
-
لن أكون رئيسا يوما ما
-
أسفار
-
هُنا بلْ هُناكْ
-
شخصيّات عبر التاريخ (أندريه تاركوفسكي)
-
إرهاصات فكريّة
-
البحث عن دلال
-
أعراس
-
شخصيّات عبر التاريخ (بوريس باسترناك)
-
بصحّة الرفيق ستالين
-
في حضرة الشيطان
-
أحياناً تنفلت اللحظة
-
فضاء روحك
-
أنشودة الشرق
-
العسل ومعاني العدم
-
ستّون عاماً وعام يا وطني نكبة
المزيد.....
-
دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك
...
-
مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
-
بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن
...
-
ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
-
بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
-
لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
-
المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة
...
-
بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
-
مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن
...
-
إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|