أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نبيل على صالح - ولاية الفقيه بين الجمود والثبات أو الانفتاح والتجديد















المزيد.....

ولاية الفقيه بين الجمود والثبات أو الانفتاح والتجديد


نبيل على صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2698 - 2009 / 7 / 5 - 10:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


جزء 1
شكلت الأحداث الجارية حالياً في إيران والمظاهرات المتتابعة والمتسارعة فيها –والتي انطلقت على خلفية رفض نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة من جانب تيار واسع وعريض من القوى السياسية الإيرانية- شكلت مدخلاً أساسياً لدى جمهور كبير من المراقبين والمفكرين والنخب المثقفة لإعادة تسليط الضوء على نظرية ولاية الفقيه "القديمة–الجديدة" التي تشكل حجر الأساس في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران.
وتدور النقاشات الجارية حالياً في مختلف وسائل الإعلام بين نهجين فكريين وسياسيين أستطيع أن أصفهما بالـ "متطرفين"، أحدهما يريد إعادة تثبيت وترسيخ ولاية الفقيه كفكرة عقائدية في الواقع العملي القائم على ما فيه من سلبيات وإحباطات شعبية عارمة، ومن دون السماح لأحد بتوجيه أي نقد أو تطوير أو بحث أو مساءلة، والآخر يريد نسف هذه النظرية الفكرية والفقهية الدينية من جذورها على خلفية عدائه للدين أو ربما جهله وعدم فهمه له، ومن دون أن يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الظروف والمناخات المعقدة السائدة والمتبنيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والآمال الشعبية الواسعة والعملية التي قامت عليها (وأفضت إليها) تلك النظرية بعد مضي حوالي ثلاثة عقود من الزمن على العمل المستمر والمتواصل على تطبيقها في داخل إيران.. بقطع النظر عن صوابية هذه الفكرة وتطبيقاتها أم سلبيتهما.
ولعل من المفيد بدايةً أن نشير إلى أن هذه النظرية قد شكلت في وقتها إنجازاً فكرياً وسياسياً للثورة الإسلامية في إيران –وعلى رأسها الإمام الخميني- من خلال مساهمتها الفاعلة في إعادة توجيه وضبط وتزخيم مسار القدرات الشعبية الإيرانية، وإخراج مجمل الطاقات الكامنة في المجتمع الإيراني إلى ساحات العمل والفعل.
ومن المعروف للجميع بأن الثورة الإسلامية في إيران قامت على أساس الدعوة إلى التزام الإسلام كرسالة إلهية معنوية تحمل بين طياتها –كما يزعم منظروها وأتباعها- فكراً سياسياً واجتماعياً قادراً -من خلال إمكانياته وطاقاته الذاتية والموضوعية بحسب المدعى- على إيصال البشرية إلى شاطئ وبر الأمان على المستوى الروحي والمادي من خلال إعطاء الحياة الإنسانية بعدها الروحي والمعنوي الهادف إلى إيصال الإنسان إلى كماله الممكن له.
وقد أكد مفكرو الثورة وقادتها الكبار على أن تركيز مفاهيم وأفكار الثورة الإسلامية في إيران على الأهمية الحيوية الكامنة في قدرات الإسلام وإمكانياته الهائلة –بما لها من دور هام وحيوي في صياغة وبناء المجتمع الإسلامي- لم ينطلق من مجرد الادعاء بأن الإسلام أفضل من جميع الحلول المطروحة على الساحة حالياً، وإنما تعداه إلى الميدان العملي من خلال استلهام (تلك الثورة) لروح القرآن الذي اعتبر أنّ الإنسان هو المحور الأساسي في أي مشروع نهضوي، لأنه يختزن في داخله قدرات غير محدودة وطاقات هائلة غير منظورة (بالمعني الروحي والمادي للكلمة) يمكن أن تفسح المجال أمامه، وتتيح له المساهمة الفعالة في تغيير الواقع، والعروج به (بالإنسان) في سلم التكامل الروحي والمادي.
وطالما إنّ الإنسان قد بات -في عرف الثورة الإسلامية- هو القاعدة الأساسية والمفصل الحركي والحيوي الخاص بنهوض المجتمع وبناء أمة مقتدرة وقوية وقادرة، لابد إذاً من وجود فكر ومعرفة اجتهادية جديدة ترسخ مفاهيم ومعايير الفكر النهضوي، وتعمل على تحفيز وإثارة كفاءات وقدرات ومواهب هذا الإنسان، ودفعها باتجاه المشاركة الإرادية الكثيفة والمنتجة في نهضة الأمة، في سياق تحملها لمسؤولياتها التاريخية كاملة. وهنا بالذات تكمن الإضافة النوعية والعملية الهامة التي قدمتها الثورة الإسلامية في إيران للفكر الإسلامي المعاصر.. إنها نظرية "ولاية الفقيه" السياسية التي سبق لعلماء وفقهاء ومفكرين إسلاميين سابقين أن نظروا لها بعد غيبة الإمام المهدي المنتظر (الإمام الثاني عشر الغائب عند الشيعة)، ولكن الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني استكملت طرحها، وعمقت جذورها في وجدان الأمة، ووضحت معالمها، واستطاعت أن تحولها من إطارها الفكري النظري إلى حيز التطبيق والتجربة الواقعية والالتزام العملي.
وعلى الرغم من الأسئلة والإشكاليات والجدل الواسع الذي أثير حول نظرية ولاية الفقيه، وحول مختلف الجوانب والعناصر المكونة لها، والمتفرعة عنها فقد تمكنت -كما يؤكد أتباعها- من الوصول إلى مختلف القواعد والفئات الجماهيرية والتيارات الشعبية الكبيرة في داخل إيران وخارجها بعد أن لامست أحلامهم وهمومهم، ودغدغت كثيراً من رغباتهم الدينية الصادقة في الخلاص الفردي والجمعي، الأمر الذي أهّلها لتكون ضمانةً –نظرية على الأقل- لتحرير إيران من القيود والسكون، وإيقاظها من كبوتها وغفلتها الحضارية التي سيطرت عليها فترة طويلة من الزمن, ودفعها لإعادة إنتاج حيوية وحركية تاريخية ما في القرن العشرين، باتجاه تركيز العمل نحو مواقع الفعل الحضاري. وبالمقابل كان تحرر إيران من الشاهنشاهية, وتحملها لمسؤولياتها التاريخية الإنسانية ضمانةً لتعزيز دور الولاية الحركي في الواقع السياسي والاجتماعي العام في إيران.
إذاً ثمة معادلة متوازنة يمكننا قراءاتها هنا –وهي التي انطلقت عناصرها ومكوناتها الداخلية بقوة في الواقع السياسي والاجتماعي الإسلامي المعاصر- بين تطور الأمة الإيرانية وتحقيقها لنهضتها الإسلامية المستعادة من براثن الاستلحاق والتبعية والانعزال عن المحيط الإسلامي, وبين ولاية الفقيه فيها. فالولاية والأمة ترتبطان الواحدة مع الأخرى. ارتباط الروح بالجسد، ولا انفكاك بينهما ما دامت الحاكمية الإلهية لا تعني وجود السلطان الجائر، أو الملك العضوض, أو الثيوقراطية وادعاء الحق الأهلي المقدس، ومادام تحرك الأمة -قائماً بالعنوان الأولي- على الوعي بالذات الحضارية الإسلامية, ورفض التبعية والاستلاب للآخر, والتماهي في داخله.
بهذا المعني يمكننا التأكيد على أن نظرية ولاية الفقيه هي بالفعل انجاز فكري وسياسي يحسب لإيران وبالذات لآية الله الخميني، لأنها -كفكرة فقهية تاريخية مؤدلجة تم إعادة إنتاجها وتجديدها على يد المرجع الخميني- ساهمت في البداية وبصورة فعالة في إخراج طاقات الذات الإيرانية (على اختلاف انتماءاتها ومشاربها ومذاهبها) إلى الوجود الخارجي العملي، وأعادت العمل بها من جديد من خلال تنظيم رؤية وخطاب معرفي سياسي واجتماعي استطاع -في نهاية القرن العشرين- إقامة دولة إسلامية طموحة تتحرك في الواقع السياسي الإقليمي والدولي ليكون لها دور أساسي وموطأ قدم فاعلة تتناسب مع حجمها الجغرافي والديني والحيوي. وهذا ما ساهم أيضاً في إعادة إحياء الأمل لدى قطاعات واسعة من المسلمين –وبخاصة الإيرانيين، ممن أصابهم اليأس والإحباط، واعتقدوا بأنّ الإسلام هو دين الماضي البعيد- بأن الإسلام هو دين الحاضر والمستقبل, وليس مجرد دين طقوسي (شعائري) جاء لينظم العبادات فقط، ولا علاقة له بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية.
وإذا كانت نظرية ولاية الفقيه قد شكلت في وقتها النظرية الناضجة الأهم (على المستوي العملي) لإعادة بناء قدرات المجتمع الإيراني, والصيغة الأكثر توافقاً وانسجاماً (مع منطق وضرورات الأحداث والوقائع والتاريخ الديني في إيران) بحيث تمكنت من إيجاد مواقع قوية لها في الواقع الإسلامي المعاصر، في طبيعة تحديدها الحاسم لأصول ومرتكزات النظام السياسي الشرعي في عصر غيبة الإمام الثاني عشر، فإنّ ذلك لا يعفي أصحابها والمنظرين لها -في داخل إيران وخارجها- من الوقوف الواعي والنقدي الطويل أمام جملة التساؤلات والإشكاليات المثارة حولها، ومحاولة البحث والتحقيق فيها من جديد, والإجابة الجادة والمسؤولة عنها. حيث أن تطورات العصر والحياة تقتضي البحث عن بدائل للأفكار العقيمة غير المنتجة، وإبداع أفكار وأدوات جديدة تحظى بقبول عامة الناس قبل أن تحظى بقبول نخبة الأمة، لأن الطريق إلى العقل والتطبيق يمر بالقلب أولاً وأخيراً. وولاية الفقيه فكرة دينية تاريخية من جملة أفكار مطروحة ومتداولة، ولا يمكن اعتبارها عقيدة دينية مقدسة، بل هي رؤية ظنية قابلة للطرح والنقاش والحوار بشأنها بين المفكرين والعلماء سيما أن هناك مراجع كبار سبق أن رفضوها وامتنعوا عن تأييدها ووجهوا لها سيوف النقد الإسلامي العلمي من أمثال العلامة الراحل محمد مهدي شمس الدين والمرجع العلامة السيد محمد حسين فضل الله والمرجع السيد علي السيستاني الذي يؤمن بولاية الأمة على نفسها وليس بولاية الفقيه على الأمة، حيث أنه –في هذه الحالة- تصبح الولاية الدينية للمرجع نوعاً من الاستبداد الفكري والسياسي المؤدي حتماً إلى ممارسة مختلف طرق ووسائل الضغط والقسر والظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي تحت زعم حماية الحقيقة والعقيدة المقدسة و"الحفاظ على بيضة الإسلام".
وهذا النوع من الاستبداد الديني أشد خطورة من أي نوع آخر، لأنه استبداد يغلف نفسه بستار الدين والنصوص الدينية المقدسة التي يؤمن بها الناس، وتلهب مشاعرهم، وهنا تكمن الخطورة في أن يتحول الدين إلى مجرد قناع أو غطاء لممارسة شتى ألوان الكذب والنفاق والقسر والإكراه ومن دون وجود أي رادع من أخلاق أو قيم أو قانون.
جزء 2
قادنا الحديث في الجزء الأول من هذه الدراسة إلى ضرورة دعوة وحث مفكري ونخب إيران إلى تقديم إجابات نقدية واضحة وحقيقية عن التساؤلات الكثيرة المطروحة حول نظرية ولاية الفقيه، حيث أن مرحلتنا الراهنة التي نشهد فيها متغيرات وتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وإعلامية كبيرة ذات تعابير وخصوصيات دقيقة ومتنوعة، هي في أشد الحاجة إلى بناء عملية النقد بطريقة حضارية تتسع للجميع, وفي نفس الوقت هو (أي النقد) بحاجة إلى توعية وترشيد فكري وسلوكي منظم في تكوين ممارسة نقدية فاعلة وقادرة على الاستجابة للتحديات الحضارية الحديثة, من أجل تحسين وضع مجتمعاتنا العربية والإسلامية المتخلفة والمأزومة بين الأمم والحضارات الأخرى, وذلك من خلال البحث عن أسس وخصائص جديدة تطور من مشروعها الإنساني الإسلامي, ومن وعيها الذاتي لأبنيتها الداخلية في علاقتها مع نفسها ومع الآخرين في الاتجاه الواقعي الحضاري الذي يحفظ الذات والمجتمع. فالإنسان هو أساس بناء الدول والحضارات، وهو جوهر وجودها وبقائها التاريخي، كما أنه يشكل رافعة تطورها وازدهارها، وإذا كان الفرد حراً واعياً متطوراً حاصلاً على حقوقه الحياتية والمعيشية والمدنية فإنه لا شك سيساهم في تطوير مجتمعه نحو الأحسن والأفضل والأرقى في كل المواقع، وأما إذا كان هذا "الفرد-المواطن" محبطاً ويائساً ومظلوماً وغير قادر على تلبية احتياحاته البسيطة أو عاجز عن التعبير عن حريته ومشاكله وآرائه بصورة طبيعية تضمنها له الدساتير المدنية الحديثة فإنه –عندئذٍ- سيتحول إلى عقبة كأداء وحجر عثرة حقيقية (ولن نقول كتلة نار) في طريق تطور ونهوض مجتمعه وأمته، كما هو حاصل حالياً في معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي أصبح أفرادها للأسف مجرد كتل صماء منفعلة غير قادرة على حشد طاقاتها الهائلة في الواقع المجتمعي العملي في ظل سيطرة عقائد وهمية وأنظمة فكرية عتيقة غير قادرة على استثمار وجوده وطاقاته في طريق البناء والخير والعطاء والمستقبل الزاهر.
ونحن عندما نثير تلك الأسئلة فإننا نريد لأمتنا العربية والإسلامية أن تستفيق من كبوتها التي طال أمدها، ولا نتمنى حدوث أية مشاكل أو انفجارات اجتماعية في أي بلد منها، فالناس ملت من الثورات والوعود والمماطلة والتسويف، ونحن لا نريد لشوارعنا العربية أن تصبح مثل الشارع الإيراني حالياً المحتقن والذي يهدد وجود أمة بأكملها خصوصاً مع تزايد المؤامرات والتدخلات من هنا وهناك.
إننا ندعو قادة الجمهورية الإسلامية الكبار إلى الخروج من الفتنة الداخلية أولاً، ومن ثم التواصل مع الأجيال الطالعة، ومحاولة فهم طبيعة تفكيرها ونظرتها للأمور، والوقوف عند مطاليبها وهواجسها وأسئلتها الهائلة المطروحة أمامها، فجيل الثورة يختلف عن جيل وأجيال ما بعد الثورة، واستعمال وسائل الضغط والقسر لا ينفع دائماً مع جيل الشباب الطامح والمتمرد والراغب في التغيير، والباحث عن العمل والمستقبل.. كما ونطالبهم بإعادة الاشتغال على تصويب ونقد الأفكار والنظريات السياسية و"الفكرية-الدينية" السائدة عندهم، والتي سبق أن حذر من عدم الوقوف أمام أسئلتها الملحة قادة كبار من الجيل المؤسس للثورة من أمثال الإمام الخميني نفسه والشيخ مطهري والدكتور بهشتي (اللذين استشهدا في بداية الثورة، وكانا يحذران دوماً من تلطي علماء ورجالات الدين وراء العمامة والجبة والنص).. بالإضافة إلى خاتمي وكروبي ورفسنجاني وكثير من علماء ومراجع الحوزة العلمية في إيران، وفي خارج إيران.
نعم نحن نعترف بأن الثورة الإسلامية سبق أن قدم كثير من مفكريها ورموزها إضافات فكرية مهمة ونوعية للفكر الإسلامي المعاصر أكدت على الاستقلال والسيادة وبناء الذات من خلال إعادة إبراز وتفعيل وتثمير حضور الدين المنفتح والحضاري الإنساني في ساحة الحياة كما تقول فكرة ولاية الفقيه، حيث لاحظنا كيف انطلقت الجموع الشعبية الإيرانية الهادرة لتقف كالبنيان المرصوص مع بعضها في عام 1979م معلنةً للعالم أجمع أن حريات الشعوب فوق كل اعتبار، وأن التحرر والاستقلال هو قاعدة النهوض والبناء.
لكننا نعتقد بالمقابل أنّ تلك الإضافة النوعية الهامة تحتاج على الدوام -مع تغير الأيام والظروف وتحول الأدوار والمواقع (اختلاف الأزمنة والأمكنة)- إلى إصلاح وتجديد وتطوير متواصل يحفظ لها الأصل، ويجدد لها الإطار بما يتناسب مع المستجد المتغير.
من هنا يأتي تأكيدنا الدائم في هذا المجال السياق، على أنّ أي مسعى للخروج من الأزمات العميقة المستديمة والمقيمة منذ أمد التي تعاني منها إيران وباقي مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً (والتي نعتقد بضرورة انخراط مفكري ومثقفي إيران أكثر في إبداء‌ الرأي النقدي حولها) بما فيها أزمة عدم وجود قاعدة نقدية موضوعية هادفة كبيرة تحظى بتأييد جماهيري واع واسع, أقول: أي مسعى للخروج من المشاكل والأزمات والتحديات القائمة والمستمرة لابد وأن يبدأ بإصلاح واقعنا المعيشي، وقبله نظرتنا إلى السياسة بحد ذاتها. أي أن نعمل على تطوير أدائنا وممارستنا السياسية الجماعية من خلال توفير الأجواء المناسبة لإعطاء فرص المبادرة والمساعدة المشتركة لجميع الناس في المشروع النهضوي الكبير لإعادة الاعتماد على قدرات إنساننا الذي يشكل ركن وقاعدة وهدفية النهوض والبناء.
والنصوص الدينية والحضارية مليئة –كما نعلم جميعاً- بالأفكار والطروحات المهمة التي تحض وتدعو وتؤكد على أن الإنسان هو غاية الوجود، وهو خليفة الله في الأرض، وبالتالي فلا بد من الإنصات إلى مطاليب وآراء وهموم وطموحات وتطلعات هذا الإنسان، والعمل الدائم على إعطائه حقوقه الإنسانية الطبيعية كاملةً، لكي يتمكن من تمثُّل دوره الاستخلافي الحقيقي على الأرض، ويجترح معجزة النهوض والإثمار الحضاري، حيث أنه لا يمكن ولا يعقل أصلاً أن يدعو الله –كما جاء في كل الأديان منذ فجر التاريخ والخليقة وحتى الآن- الإنسان ليكون خليفةً له من دون وجود وسائل وأدوات وأفكار تلبي طموحاته وتستثمر طاقاته وتنمي مواهبه بالصورة الأجمل والأكثر قدرة على الفعل والإنتاج، بعد أن تحرض أجمل ما فيه من قيم ومشاعر وأحاسيس خلاقة ومبدعة.
.. من هنا –وانطلاقاً مما تقدم- يبدو لزاماً على القيادة في إيران القيام بمراجعات نقدية صارمة وشاملة ليس فقط للمسالك العملية والممارسات والسبل التي سلكتها الثورة وأبناؤها، ولكن أيضاً للأفكار والشعارات الثورية ذاتها بعد مرور حوالي ثلاثة عقود على اندلاع الثورة، لأن المراجعة والنقد عنصران أساسيان للنمو والتطور والامتداد وتحقق الآمال والغايات النبيلة، وإلا فإن احتمال تزايد الضغوط الشعبية الداخلية قبل الخارجية (وبالتالي زيادة معاناة المجتمع والناس هناك) كبير نسبياً، وهذا سيؤدي بالنتيجة وبالضرورة إلى تحول شعارات الثورة والجمهورية الإسلامية إلى عبء حقيقي يقض مضاجع الشعب الإيراني.. بحيث أن إيران (كدولة ونظام وحكم إسلامي جمهوري) بدل أن توظف كل طاقاتها في بناء الداخل ومواجهة مشاريع الدول الخارجية –من موقع القوة لا الضعف- تضطر إلى الدخول في مواجهات غير محسوبة النتائج مع شعبها الذي وقف مع الثورة ودافع عنها وناضل طويلاً في سبيل الحفاظ عليها وتجديدها قبل أن يعتريها اليباس وتعلوها علائم الشيخوخة.
إن قوة الثورة –بغض النظر عن شعاراتها وغاياتها- هي في مقدار ما يمتلكه رجالاتها وقادتها من فعالية عقلية تجديدية واستعداد نفسي لتقبل التغيير والتكيف مع مستجدات الواقع وتطورات الحياة والوجود ولزوميات العيش الزماني والمكاني في الحياة.. وبالتالي الاستجابة لحاجات الناس والمجتمع الجديدة المتنوعة والكثيرة.. وهنا بالذات تكتسب الثورات قوتها ودلالاتها الحقيقية على مستوى العمل والإصلاح وإنجاز الأهداف وتحقيق الطموحات والانفتاح على الحياة والواقع والناس.. أي من خلال تحولها (أي الثورات) إلى نظم للحكم المؤسساتي والإداري المدني المتصالح مع الناس والعصر.. وهذا هو المطلب والامتحان الحقيقي الذي نتمنى أن ينجح فيه قادة ورموز الثورة والدولة في إيران (من إصلاحيين ومحافظين، إسلاميين وعلمانيين وغيرهم).. إنه مطلب العمل على بناء نظام حكم مدني عصري يستقي من الإسلام روحه وفعاليته ومن الحياة قوة حضوره وامتداده وتأثيره، ومن دون حدوث أية فتن أو مشاكل أو اضطرابات داخلية يراهن عليها الكثيرون من هنا وهناك.. فنحن نريد لهذا البلد كل الخير ليشكل دوماً نصيراً قوياً لقضايانا العربية المحقة والعادلة، ودعماً لحقوقنا، وعمقاً إسلامياً استراتيجياً لنا في مواجهة التحديات والأزمات المثارة أو التي يمكن أن تثار هنا وهناك في غير مكان من عالمنا العربي الكبير.
وأخيرا نكرر ونؤكد على أن نظم الحكم الحقيقية الصالحة للحياة لا يمكن أن تكتسب فعاليتها –بدورها- إلا من خلال ما تمتلكه من قدرات ذاتية وموضوعية تؤهلها وتجعلها قابلة ومستعدة عملية –ومن دون خسائر تذكر- للانسجام مع الواقع والتكيف مع المطالب المتجددة والتحديات المتسارعة الهائلة التي يحفل بها الوجود دون افتقاد للخصائص الحاكمة لهذه النظم وأهدافها وتطلعاتها الكبيرة.

*باحث وكاتب سوري




#نبيل_على_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأميركيون فرحون بالتغيير، فماذا عن العرب؟!
- المعارضات العربية بين حق الحرية ومنطق الاستئصال
- نظرية الحركة الجوهرية والتكامل النفسي بين العلم والفلسفة الق ...
- نظرية الحركة الجوهرية والتكامل النفسي بين العلم والفلسفة الق ...
- نظرية الحركة الجوهرية والتكامل النفسي -القسم1
- نظرية الحركة الجوهرية والتكامل النفسي-القسم 2 والاخير
- العقل وماهية الإدراك العقلي
- ضرورة الانتظام العربي والإسلامي في عالم الحداثة والتنوير
- المفاعل النووي السوري بين الحقيقة والوهم..
- المقاومة الوطنية والإسلامية.. ومعادلة الصراع الاستراتيجي ضد ...
- محنة الاستبداد السياسي والاجتماعي في العالم العربي - القسم ا ...
- الفساد في العالم العربي معناه، دوافعه وأسبابه، نتائجه وعلاجه
- إلى الصدر الصغير: العراق بين الدولة المدنية أو الدولة الطائف ...
- محنة الاستبداد السياسي والاجتماعي في العالم العربي 1/2
- الإعلام العربي بين واقع التضليل وطموح التغيير


المزيد.....




- آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نبيل على صالح - ولاية الفقيه بين الجمود والثبات أو الانفتاح والتجديد