يعقوب ابراهامي
الحوار المتمدن-العدد: 2697 - 2009 / 7 / 4 - 06:39
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
"الأنسان لا يمكن أن يكون ماركسياً حقيقياً بدون أن يدرس الماركسية كعلم ويؤمن بها ويحاول تطبيقها تطبيقاً لا يحيد عنه مهما تغيرت الظروف" .
في جملة واحدة سلط حسقيل قوجمان الضوء على المشاكل والتناقضات , النظرية والعملية , التي تنبع بالضرورة من النظرة الستالينية للماركسية, والتي أدت في نهاية المطاف إلى جفاف الفكر الماركسي الستاليني , وإلى انهيار الحركة الشيوعية.
التناقض الكامن في هذه النظرة صارخ للعيان : إذا كانت الماركسية علماً, لماذا يجب أن "نؤمن" بها ؟ ألا يكفي أن نتعلمها "كسائر العلوم" , نطبقها , ونراقب نتائج تطبيقها على الواقع؟ وما دخل "الأيمان" هنا؟ وإذا كانت الماركسية علماً "كسائر العلوم, لماذا يجب أن لا نحيد عنها مهما تغيرت الظروف؟ وإذا تبين لنا في التطبيق إن الأمور لا تسير وفقاً لما تنبأت به النظرية, ماذا نفعل؟ ننتظر حتى يكتشف حسقيل قوجمان "قانوناً" جديداً وينسبه إلى أباء الماركسية؟
تخيلوا أستاذاً في الفيزياء يقف أمام تلاميذه , في مستهل القرن العشرين, ويقول لهم: إن أحداً منكم لا يمكن أن يكون عالماً حقيقياً بدون أن يدرس نظرية نيوتن ويؤمن بها ولا يحيد عنها مهما تغيرت الظروف. هل كنا في هذه الحالة سنحصل على نظريات آينشتين في النسبية الخاصة والعامة؟
هذا التناقض بين العلم والأيمان ("يدرس الماركسية كعلم ويؤمن بها") في النظرة الستالينية للماركسية علام يدل؟ هذا ما سأحاول الأجابة عليه هنا. سأحاول أن أبين إن الماركسية الستالينية قد فقدت منذ زمن طويل طابعها العلمي الثوري وتحولت إلى عقيدة "دينية", لا تختلف كثيراً عن عقائد دينية أخرى. سأبين ذلك بالأستناد إلى كلمات حسقيل قوجمان نفسه وعن طريق تحليل "اللغة" التي يستخدمها. سأحاول أن أبين إن "اللغة" التي يستخدمها قوجمان هي "لغة" دينية وليست علمية.
من نظرية ثورية إلى عقيدة "دينية" : تحول الماركسية (الستالينية) إلى نقيضها, من نظرية ثورية إلى عقيدة دينية, هو عملية ديالكتيكية مذهلة, ساهم فيها كثيرون
قبل ستالين. ولكن ستالين هو الذي أوصلها إلى ذروتها (أو إلى حضيضها). ستالين, الذي درس في صغره في مدرسة دينية, والذي لم يكن في يوم من الأيام فيلسوفاً يشار إليه بالبنان, إبتذل الديالكتيك, في كراسه الشهير "المادية الديالكتيكية والتاريخية", وحول أفكار ماركس إلى "قواعد" و"قوانين" بسيطة "تفهمها الجماهير" , أشبه بقواعد النصوص الدينية. هذا الكراس الذي وصفته الدعاية الستالينية في حينه بذروة الحكمة البشرية في كل العصور, شل كل نساط فلسفي حقيقي في الأتحاد السوفييتي, إذ لم يبق للفلاسفة ما يفعلوه بعد أن حل ستالين كل القضايا الفلسفية.
وستالين كان أيضاَ وراء الخطة الجهنمية لتحويل بطل "عشرة الأيام التي هزت العالم" إلى قديس يعبد. الزعيم الشيوعي السابق, جيلاس, يقول في مذكراته أنه شاهد الناس يرسمون علامة الصليب على صدورهم قبل الدخول إلى ضريح لينين. (أنا لم أر ذلك, ولكني لا زلت أذكر الهلع الكبير الذي انتابني عندما رأيت نفسي وجهاً لوجه أمام جثة هامدة خامدة باردة, مضاءة بالأنوار الكهربائية وحولها عدد من الحراس واقفين كالتماثيل. كان ذلك في يوم جميل بصورة خاصة والشمس ملأت الساحة الحمراء. كنت ضمن وفد اسرائيلي شارك في مؤتمر للطلبة والشبيبة انعقد في موسكو (عزيز سباهي, هل تقرأ هذا المقال؟) وفي نهاية إحدى الجلسات دعانا مضيفونا السوفييت لزيارة الضريح. لم أشأ أن أرفض الدعوة. أنا, مثل حسقيل قوجمان, أنتمي إلى جيل ترعرع على بطولات ستالينغراد ونشأ على "جوهرة الجواهري في عروس الفولغا" ("والفولغا دم"). صورة جنود الجيش الأحمر يغادرون الساحة الحمراء للألتحاق بالجبهة لمحاربة الألمان بعد أن أنهوا الأستعراض العسكري بمناسبة ثورة اكتوبر هي صورة لا تغادرنا. أحببنا موسكو وأحببنا الساحة الحمراء. ولكني لم أشتق يوماً إلى نور الشمس وإلى الهواء الطلق مثلما اشتقت يوم وجدتني في سرداب لا تدخله الشمس, في قب الساحة الحمراء, في قلب موسكو, وأمامي جثة لنين الباردة.)
(هنا المكان والزمان للأدلاء باعتراف بسيط: كنت حتى زمن قريب أعتقد أن حسقيل قوجمان, الذي أعرف مبادئه العلمانية الصلبة, لا بد أن يشعر بشيء من عدم الأرتياح إزاء عبادة الأموات هذه. ولكني عندما قرأت هجومه على أولئك الذين يحاولون "إزالة ضريح لينين الذي يقلقهم أشد الأقلاق" شعرت بخيبة أمل, وكان ذلك أحد الدوافع لكتابة هذه السلسلة من المقالات.)
حسقيل قوجمان رجل "مؤمن": قوجمان يقول: "الماركسية علم كسائر العلوم", وهو في الوقت نفسه "يؤمن بالماركسية".
الآن افتحوا كل كتب الفيزياء التي نشرت في العالم منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم. فتشوا وابحثوا: هل تجدون عالماً فيزياوياً واحداً يقول : "أنا مؤمن بنظرية النسبية"؟ أذا سألتم رجل علم عن رأيه في نظرية علمية معينة, نظرية النسبية مثلاً, فقد يقول: "بناءً على ما أظهرته الشواهد والتجارب اعتقد (أو أظن, أو أنا متأكد, الخ) أن نظرية النسبية نظرية صحيحة." وإذا كان عالمنا هذا, لحسن حظكم, ذا ثقافة فلسفية, إضافة إلى ثقافته العلمية, (وإذا لم يحصل على ثقافته الفلسفية من كتاب ستالين في "المادية الديالكتيكية والتاريخية") وإذا كان إضافة إلى كل ذلك يحب الدقة في التعبير (تماماً مثل كاتب هذه السطور) فقد يقول: "إن كل الشواهد والتجارب حتى الآن تشير إلى أن نظرية النسبية أقرب إلى الحقيقة من كل نظرية أخرى." على كل حال, لن تجدوا من يقول لكم: "أنا أؤمن" أو "لا أؤمن", إلا إذا كان في حالة من الأنهاك الفكري الشديد.
أما رجل الدين فلن يتردد لحظة في القول: "أنا أؤمن أن الله خلق السموات والأرض". رجل الدين "يؤمن" بحقائق مطلقة لا حاجة ولا سبيل إلى إثباتها أو تفنيدها. أما رجل العلم ف"يعلم" إن النظرية العلمية صحيحة ما دامت الشواهد والتجارب تؤكد ذلك.
وحسقيل قوجمان؟ قوجمان "يؤمن بالماركسية".
"المعلمون": تعابير مثل : "علمنا كارل ماركس" أو "علمنا معلمونا" (الأربعة) هي أيضاً من التعابير الحبيبة على قوجمان. إذهبوا الآن إلى Google. إبحثوا عن رجل عاقل واحد, في كل الكرة الأرضية, يقول: "لقد علمنا آينشتين (أو أرسطو, أو افلاطون, الخ) كذا وكذا." لا تتعبوا أنفسكم. لن تجدوا مخلوقاً كهذا. أفتحوا الآن أي كتاب يبحث في أصول الدين (أي دين). هناك احتمال كبير أن تجدوا في الصفحة الأولى جملة من هذا القبيل: "علمنا السيد المسيح (أو النبي محمد, أو سيدنا موسى) كذا وكذا."
ما المشترك بين "معلمي" حسقيل قوجمان و"معلمي" رجال الدين؟ نترك الأجابة على ذلك للقارئ النبيه.
أركان الكنيسة: أربعة أم خمسة؟
أقرأوا الآن القطعة التالية. هذه ليست قطعة هزلية, كما قد يخيل للوهلة الأولى. هذا تحليل علمي وفلسفي عميق لواحدة من أهم القضايا التي تشغل بال "المفكرين الماركسيين" اليوم, وهي: ما هو عدد "المعلمين", أربعة أم خمسة؟ (على غرار النقاش الذي دار في القرون الوسطى, بين خبراء الكنيسة, حول عدد الملائكة الذين يستطيعون الجلوس على رأس إبرة واحدة) , وهل يجوز إضافة أسم ماوتسيتونغ إلى القائمة؟ أقرأوا ولا تضحكوا لأن الأمر يدعو إلى البكاء لا الضحك. (كل التعليقات الموضوعة (بين قوسين) هي من صنعي أنا وليست من الأصل. أضفتها كي أسهل على القارئ ثقل المصيبة.) :
"النقطة المهمة في هذا المجال (لا أهمية لهذا الموضوع على الأطلاق) هي ما إذا كانت التطويرات التي أضافها ماو إلى الماركسية بلغت درجة تجعل من الضرورة إضافة اسمه إلى الأربعة (أربعة الملائكة أو أربعة القديسين !!) واعتباره معلماً خامساً (!!!) للطبقة العاملة. (الطبقة العاملة العالمية تنتظر على أحر من الجمر أتخاذ قرار بهذا الخصوص) . وفي رأيي إن هذا يجب إن تقرره مؤسسة ماركسية عالمية (هذه ليست نكتة: قوجمان يقترح عقد مؤتمر عالمي وفي جدول أعماله نقطة واحدة: هل يمكن اعتبار ماو معلماً خامساً) وليس أمراً أستطيع أنا أو غيري تقريره (لما لا؟ كل إنسان غير قاصر يستطيع اختيار معلميه بنفسه).
بماذا يذكركم هذا؟ ألا يذكركم بالطريقة التي تضيف فيها الكنيسة الكاثوليكية قديساً جديداً إلى قائمة قديسيها؟
نكتفي بهذا. وفي الحلقة القادمة: حسقيل قوجمان وأساطير "ألف ليلة وليلة"
تعليق على تعليق: عن أبي نبراس قال: "إن الماركسية ليست عقيدة لنؤمن بها أو لا نؤمن, إنها علم." وقديماً قالت العرب : وفسر الماء بعد الجهد بالماء.
#يعقوب_ابراهامي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟