|
الأدب والدين
راندا شوقى الحمامصى
الحوار المتمدن-العدد: 2697 - 2009 / 7 / 4 - 04:06
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الأدب شعور وإيمان، كذلك الدين شعور وإيمان، فالعلاقة بين الدين والأدب علاقة حميمة لأن للدين طبيعة الشعر فكلاهما ينبع من جوهر النفس البشري. فالإيمان مصدره القلب والشعور تماماً كما هو الحال مع الشعر والأدب . فالدين والأدب يهدفان إلى قيم معنوية ومُثل انسانية عُليا، وحقائق روحية ثابتة. وبصورة عامة فالفن الأصيل يتصل في أساسه بالدين وفي رحابه السمحة يترعرع، كما أن الوحي الإلهي يدفع الإنسان إلى الإيمان وطلب الخلود وتوخّي الحقيقة. في الأديان كلها جوهر وتقليد، فالجوهر ثابت، تتمثل فيه المُثل الإنسانية العليا والفضائل الأسمى، وبهذا الجوهر تتحد الأديان وتجتمع على أمر واحد هو أن الأديان كلها دين واحد وهدفها الوحدة والاتحاد لجميع البشر. أما التقليد فمتغير يختلف باختلاف العصر والبيئة يتوارثه الأبناء عن الآباء عادات وقوانين. وبالمثل فإن الشعر العظيم في أي لغة كُتب جوهره واحد يحث على الفضائل ويسعى إلى تحقيق أسمى الأخلاق: ولولا خلالُ سنَّها الشعرُ ما درى بناةُ العلا من أين تُؤتَى المكارمُ (أبو تمّام) فالشعراء العظام بدون استثناء يؤمنون بوحدة الكون وبمبدع خلق الأكوان، ولعل رسالة الشعر الحقيقية هى أن ينشد أغنية الحياة حمداً وثناءً لله مُبدع الأشياء. فالشاعر والأديب في عصرنا- كما هو الحال معه في كل عصر من عصور التاريخ-عليه أن يكون باعثاً للمتعة الروحية بكل معنى الكلمة، وليس فقط واعظاً إجتماعياً أو معبراً عن مُثُل سياسية آنيّة. فالأديب الأصيل يسمو بقارئه إلى عالم روحي بعيد عن الواقع، ولكن في الوقت نفسه يهتم بقضايا زمانه واحتياجات عصره. فلن يفوته مثلاً ملاحظة أن الدين-وخاصة الإيمان- أضعف اليوم مما كان عليه في عصور سابقة من عصور التاريخ الإنساني، وأن العديد من اطفال اليوم ينمون في عالم فَقَدَ معنى الإيمان الحقيقي بالله. ويلاحظ أيضاً أن أجيالنا المعاصرة تنمو في عالم فقد معاني الخير والشر، ومعنى العقاب والثواب، وانعدم فيه الإيمان بخلود الروح وبقائها، وانتفى فيه الإيمان بجدوى الأخلاق وضرورتها في الحياة. والأديب الأصيل لا يمكنه تجاهل الحقيقة المؤلمة في عالمنا المعاصر والمتمثلة في زوال القاعدة الروحية للعائلة وبالتالي انهيار الصرح العائلي نفسه. وقد نتج عن هذه المحنة الروحية والأخلاقية لدى الإنسان المعاصر خيبة أمل عظمى في معاني الحياة، تفاقمت منذ الحرب العالمية الثانية رغم كل الانجازات العلمية والتقنية التي أبدعها الإنسان في نصف القرن الأخير، فبات يشعر بوحدة قاتلة واكتئاب أليم ويساوره شعور بالنقص والتشاؤم، ويرزح تحت كابوس مرعب يكمن في احساسه بأنه مهدد دائماً بالحروب والثورات وأعمال الارهاب. ولم يفقد الإنسان المعاصر الإيمان بالعناية الإلهية فحسب، بل فقد إيمانه بالإنسان نفسه وبمؤسساته وما تمثله هذه المؤسسات من قيم حضارية. وبالتالي فَقَدَ ثقته في اولئك الذين هم أقرب الناس إليه. وفي غمرة هذا اليأس يتوجه العديد ممن فقدوا الثقة في أولي الأمر واولئك الذين يقودون المجتمع-يتوجه العديد من هؤلاء-إلى الأديب صاحب الكلمة، يحدوهم الأمل في أن يتمكّن الإنسان الموهوب والحساس من انقاذ الحضارة الإنسانية، وكأنما قبس النبوة والإيمان يكمن في قلب الأديب وفي الكلمة شعراً كانت أم نثراً. فالكلمة هى الدين والأدب في آن معاً، وأسمى أنواع الأدب وأروعه هو الأدب الديني لدى أي شعب من شعوب العالم. وكلّما اشتدت حلكة الظلام، استحال علينا إيجاد طريق للخلاص، يبزغ أمل جديد وينبثق نور كلمةٍ جديدةٍ يؤكد لنا أن الوقت لم يفتنا جميعاً، فيحسَّنا ذلك على التمسّك بخيوط الأمل، ويفرض علينا أن نأخذ كل شيئ بعين الاعتبار لنصل إلى طريق تقودنا إلى الخلاص. فالإيمان بقوة الاختيار لا يمنع أبداً قبول مبدأ أن الكون خلق ليحقق غاية سامية، ولا يمكن للعاقل الحصيف قبول مبدأ أن الكون جاء صدفة من صدف الطبيعة أو الكيمياء أو أنه جاء نتيجة تطور جيوفزيقي أعمى. إذ لا بُد لنا جميعاً أن نعترف ببعض الحقائق الروحية الثابتة رغم كل ما صدقناه من كذبٍ وكلامٍ أجوف، وكل ما أقامه العقل البشري من أصنام أفسدته وغرََّرت به. كما أنه لا بُد وأن هناك وسيلة للإنسان لكي يتمتع بكل ما حباه الله من متع الدنيا ولذَّاتها، ويغترف من ثمار المعرفة التى تغدقها عليه الطبيعة، دون أن يكون ذلك على حساب إيمانه بالله جلّ جلاله أو القيام على خدمته وعبادته- لأن الله يتحدّث بالأفعال لا بالأقوال وما الكون إلا حروفه وكلماته. والأدب الأصيل قادر على خلق آفاق جديدة ومنظور جديد في الفلسفة والدين والجمال والاجتماع. فقد حوى الأدب العربي قديمه وحديثه قيماً روحيةً جمعت ملامح النبوة وأصالة الشعر، وسنَّت القوانين ورسمت مناهج للسلوك والحياة. فالأدب الأصيل، متشائماً كان أم متفائلاً، يمثل انتصاراً على كل ما يهدد الإنسان من معاني العبودية والفناء-فالكلمة باقية أزلية مستمدة من طبيعة الخالق وجوهره، بدونها تنعدم الأشياء كلها وتفقد الممكنات أسماءها والكائنات صفاتها. ويخلق الأدب الأصيل المتعة الروحية ويكشف لنا أيضاً عن حقائق أزلية وعن جوهر الوجود بإسلوبه وطريقته الخاصة، ويسعى نحو حل ألغاز الزمن والتحوّل، ويستسقي أسباب المعاناة، ويكتشف المحبة في غياهب الظلم والطغيان. وكلما انهارت النظريات الإجتماعية وتركت الحروب والثورات الإنسانية في ظلام دامس، يبعث الله شاعراً من رسله وأنبيائه لينقذنا جميعاً ويعلمنا طريق الخلاص.
#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحو مجتمعات متآزرة في عالم عناصره متفاعلة متحدة
-
ماهو الدين ؟؟؟؟
-
ما هو الدين؟؟؟؟؟
-
فليسقط الخلاف ولنُبعد الاختلاف-فلا خلاف ولا اختلاف
-
الوصيّة في البهائية وأهميتها-الجزء الثالث والأخير-(3)
-
الوصيّة في البهائية وأهميتها-(2)
-
الوصيّة في البهائية وأهميتها
-
الزواج فى التشريع البهائى
-
حقائق وبراهين للعاشقين
-
الرؤية البهائية للمجتمعات المتماسكة
-
دلائل الالوهية وبراهينها واثبات لزوم المربي للإنسان منذ الأز
...
-
اصحاب الكهف
-
من يخط طريق المستقبل-(2)
-
من يخط طريق المستقبل؟-(1)
-
الأمل في السلام العالمي الذي هو وعد حق
-
النظام العالمي القادم والعولمة
-
أركان النظم العالمي
-
نداءٌ إلى قادةِ العالمِ-تفهُّم مغزى أحداثِ التّاريخ
-
العالم ما بين الأمس واليوم
-
محاولة عقيمة لتجريم الفكر البهائي في مصر تبوء بالفشل
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|