أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - منير شحود - التديُّن العُصابي والتديُّن الراقي















المزيد.....

التديُّن العُصابي والتديُّن الراقي


منير شحود

الحوار المتمدن-العدد: 822 - 2004 / 5 / 2 - 11:02
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يُعدُّ الدماغ البشري أرقى درجات تطور المادة العضوية, بحيث أنه انفرد بإنتاج الفكر والوعي, اللذين يتباهى بهما بني البشر, بغض النظر عن درجة ومدى الإفادة منهما, وسبل التوظيف المتاحة في مختلف المجتمعات. ولكن الدماغ البشري ليس معطىً جاهزا بهذه البساطة, فقد تطور عبر مراحل كثيرة, مسايرا التعقد البنيوي والعضوي للكائنات الحية. وذلك بهدف تنظيم عمل أعضاء الكائن الحي وأجهزته, ومساعدته في التكيف مع الوسط المحيط به.
كما تطورت الإشارات والرموز, وأخيرا اللغة؛ كوسائل اتصال, يتم بوساطتها وضع الأفكار في قوالب, ما يسهِّل نقلها وتبادلها مع الآخرين. وقاد تجريد اللغة ورموزها لاحقا إلى هذا التقدم الهائل الذي وصلت إليه وسائل الاتصال.
تُنتج الانفعالات البشرية في النواحي تحت القشرية Subcortical Regions من الدماغ, وخاصة الجملة الحوفية Limbic System, بينما تقوم بعض أجزاء القشرة المخية Cerebral Cortex بتنظيم تجلّي هذه الانفعالات, محوِّلة إياها إلى عواطف بشرية راقية, وذلك من خلال علاقة تفاعلية متبادلة, تعمل من خلالها القشرة المخية على كبح وكظم الانفعالات أو تحويرها, في حين تعمل البنى تحت القشرية على تحفيز القشرة المخية واستثارتها باستمرار, فتدفعها للفعل والتصرف واتخاذ القرارات الشخصية المشروطة بجملة الظروف الاجتماعية المحيطة بالفرد.
ويشار إلى ذلك في علم النفس بمفهومي اللاشعور, الذي تتعدد بناه التشريحية لتشمل معظم النواحي تحت القشرية, والشعور المتعلق بالوعي الإرادي الناجم عن نشاط القشرة المخية. ويقع تحت الشعور في الحيز الانتقالي بين اللاشعور والشعور, ويشتمل على الانفعالات التي وصلت إلى الطبقات السطحية من اللاشعور, فيمكنها اقتحام الشعور في أية لحظة؛ كفلتات لسان, أو هيجانات عاطفية عاصفة, تخفي تراكمات عميقة لمشاكل مستعصية على الحل, وخاصة في المراحل الطفولية من حياة الفرد.
ويمكن الحديث عن شجرة الانفعالات البشرية ذات الجذع المشترك والفروع المتعددة, وهي تمثل انفعالاتنا المتناقضة والمتكاملة في آن معا, كما يمكن الحديث أيضا عن شجرة العواطف الإنسانية المصعَّدة منها, بعد مرورها في مصفاة الوعي والإرادة, إلى هذه الدرجة أو تلك.
وتبعا للدور الكظمي لقشرتنا المخية في التعامل مع الانفعالات, فإن هذه الأخيرة قد تبقى في صورتها البدئية, أو تتجلى كعواطف أرقى. ولعل الرقي الإنساني, بمعنى من معانيه, يتلخص بالقدرة على ضبط الانفعالات وتصعيدها, وتحويلها إلى شكلها الأرقى – العواطف. هذه العواطف, وبسبب أصلها الانفعالي المشترك, فإنها قد تتحول إلى نقيضها, خاصة عند فرط تثبُّتها وتحفيزها. لنتذكر في هذا الصدد ثنائيات الحب والحقد, والتسامح والعدوانية, والفرح والحزن,...إلخ.
والمشاعر الدينية العميقة هي إحدى العواطف النبيلة عند الإنسان, كالمحبة والتسامح والألفة, والتي تغتني بعضها من بعض, وتتناغم في تكوين سلوك الفرد وطبعه الخيِّر؛ كنقيض للدوافع التدميرية. وقد رافقت المشاعر الدينية العميقة تشكل انفعالات الإنسان ووعيه, وامتزجت بها مذ تكوَّنت وتجلَّت.
ومع استمرار تطور وعي الإنسان, ازدادت حيرته الوجودية, وتطور وعيه الديني أيضا من المحسوس إلى المجرد. واستنادا لوجهة نظرنا أعلاه (وهي بتقديرنا نسبية بقدر ما هي علمية) فإنه لا يوجد أناس ملحدون بالفطرة, إنما يُعدُّ الإلحاد رد فعل على أدلجة الدين وتسييسه وارتباطه بمصالح طبقات وفئات اجتماعية. كما لا يوجد كفر, وما ينبثق عنه من تكفير, بالمعنى المشار إليه أعلاه. وبالتالي, فإن التكفير الديني ليس سوى أحد أوجه التخوين السياسي.
واقعيا, تتجلّى الحالة الدينية بتمظهرين اثنين:
التمظهر الأول, عصابي؛ أي تشبُّث بالفكرة, وصعوبة الانفلات من جاذبيتها, تأخذ فيه الانفعالات والعواطف بعدها الديني, أو تُقسر على ذلك, فيحدث التظاهر الديني كمحاولة لإخفاء الدوافع الأساسية الغريزية والانفعالية المتناقضة, ما يؤدي لشحن متواصل للقشرة المخية, ينوس بين التمظهر الديني المثالي وانكشاف الدوافع الانفعالية البدئية التي تطل برأسها أحيانا من تحت عباءة الدين عنفا وإقصاءً. يمكن أن نطلق على هذه الحالة التديُّن العُصابي, الذي يتجلى غالبا, وليس دائماً, في سن الشباب.
وهكذا, وبسبب الجذر المشترك للانفعالات والعواطف, يمكن الوصول عند الشباب, ولأسباب اجتماعية متعددة, إلى حالة تسود فيها إحدى العواطف وتطغى على العواطف الأخرى, كعاطفة الحب (الشوق والهيام), والعاطفة الدينية, والانفعالات العدوانية....الخ. وبذلك, يصل الأمر إلى درجة لا يمكن للقشرة المخية أن تكبح ثورات الانفعال وتحوِّرها, فتخيِّم هذه الانفعالات على الوعي, وقد تدفعه لاتخاذ القرار بالموت حبا أو تضحية بصورة فردية, أو تتوجه نحو الآخرين قتلا وتدميرا. ومن هنا ينبع الحذر الأخلاقي عند مقاربة هذه الظاهرة, بسبب كونها شبابية وعاطفية بصورة رئيسة, وتشوبها مشاعر صادقة أيضاً.
ويتجلى التمظهر الثاني بعاطفة دينية هادئة, تتسق وتتلاءم مع العواطف الأخرى, وتتعقلن إلى هذه الدرجة أو تلك. في هذه الحالة, يحدث نوع من التديُّن الهادئ المتسق شعوريا ولاشعوريا, والذي لا تتوافر عوامل استتبابه إلا في أواسط العمر وما يليه. وقد يحدث ذلك عبر الانتماء إلى دين معين, أو يتواجد خارج إطار الأديان المعروفة, كحالة أخلاقية إنسانية راقية.
وتجدر الإشارة إلى أن تسييس التديُّن, والمصالح الدنيوية التي تقف وراءه, علاوة على انسداد آفاق الحوار وتقبل الآخر, كسياسات استبدادية معتمدة على نطاق واسع, تمنع النضج المشار إليه أعلاه في سيرورة الوعي الديني, من الشكل الانفعالي العُصابي إلى تمظهره الراقي المتصوفن بدرجات شتى.
ما يميز تصرفات أفراد المجتمعات المأزومة, والباحثة عن دور واقعي أو متخيَّل يليق بها, ومنها مجتمعاتنا في الوقت الحاضر, الميل إلى تغليب الانفعالات والعواطف في ردود الأفعال والاستجابات المختلفة؛ بكلام آخر, لا تشكل الانفعالات والعواطف خلفية رد الفعل العقلاني إنما واجهته في أحيان كثيرة, وخاصة على المستوى الشعبي. وعندما يتعلق الأمر بمواجهة عدو أكثر عقلانية وقدرة, فإن ذلك يؤدي إلى الفشل في تحقيق الأهداف المعتمدة على مثل ردود الأفعال – الانفعالات والعواطف – هذه. ويقود الفشل بدوره إلى البحث عن وسائل أخرى, انطلاقا من صدق الرغبة في المواجهة, ومن هذه الوسائل الأضاحي البشرية, كحالة قصوى في التضحية.
يصعب حدوث تقدم ملموس فيما يتعلق بالتسامح الديني في منطقتنا دون تحقيق تنمية شاملة, تشتمل على تحسين مستويات العيش والتعبير عن الرأي في إطار مؤسسات قانونية. كما يؤدي المناخ العالمي, المتجه نحو مزيد من التفاعل الديمقراطي, دورا في التخفيف من مسببات التطرف, ويقف عائقا في وجه التعصب الديني والاستبداد السياسي.



#منير_شحود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن الأستاذ الجامعي مرة أخرى
- قومجة وأمركة ومقاومة
- كيف ينصر بعض السوريين -عراقييهم-؟!
- -الرجل المريض- عربيا
- قدر العراق أن يكون الأنموذج, فهل يكونه؟
- أشباح يحرسون الخطوط الحمر
- التعليم الجامعي في سورية... آلام وآمال
- مأسسة الأمن, أم أمننة مؤسسات الدولة؟
- مبادئ التربية الجنسية
- الصحة الجنسية
- خمسة جنود صهاينة مقابل بيضتين!
- الحجاب والاحتجاب من منظور تطوري
- المشروع الجيني البشري
- الاستنساخ: أنواعه وآفاق تطبيقاته
- في سوريا تخمة وطنية وسقم ديمقراطي
- بعيدا عن الواقع... ومن أجله
- نقد ذاتي وغيري
- تحية لصديق جديد
- بين ثقافة الاستشهاد و-عقيدة- الانتحار
- مثقفو وشعب... حبيبتي سوريا


المزيد.....




- المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة ...
- ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم ...
- عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات ...
- الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ ...
- بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م ...
- مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - منير شحود - التديُّن العُصابي والتديُّن الراقي