|
رسالة اعتذار إلى ولدي
عبد الله شطاح
الحوار المتمدن-العدد: 2686 - 2009 / 6 / 23 - 04:39
المحور:
حقوق الاطفال والشبيبة
بالأمس يا ولدي العزيز اصطحبت أمك إلى طبيب النساء ليفحص حملها بك، وهالني الأمر وذعرت ذعرا لما تجلى وجهك الصغير على شاشة الجهاز، واعتراني اضطراب شديد لما تقلصت ملامحك الدقيقة وتشوهت والطبيب يمرر مسباره الصوتي على بطن والدتك المنتفخ، ودون أن أدري وجدت نفسي أغالب انفعالي لكي لا أجهش بالبكاء أمام الطبيب الذي بشر والدتك بك، ودون أن أدري كذلك وجدت نفسي أنخرط في حوار داخلي كله اعتذار لك وطلب للصفح منك، لعلك تفهم، إن كتب لك العيش، وإن أتيح لك العمر الطويل، كيف أن اعتذاري شديد الصدق، وكيف أن ذعري أمام ملامحك البالغة الهشاشة وهي تأخذ أهبتها للدخول في هذا العالم الذي أتلهف أنا لمغادرته، لم يكن حدثا مريحا على الإطلاق، برغم سعادة أمك بك، ورغم حفاوة العائلة التي عجزت تماما عن تفسير تجهمي وانقباضي. أيها الولد العزيز ستعرف، إن أسعفك الحظ وأخطأتك الكوارث والحروب والأوبئة والرصاص الطائش ومحاكم التفتيش، أنني تزوجت وقد أوشكت على كسر عتبة الأربعين، كرهت أن أملأ العالم المكتظ أصلا بمزيد من الأفواه المفتوحة على القحط المتنامي والصحارى الزاحفة والفقر المنتشر والأزمات العابرة للقارات، ومكثت أردد بين الأصحاب ممن آنس فيه المقدرة على الإحاطة بشواغلي، بأن العزوف عن الزواج هو طريقتي الوحيدة الممكنة في الاحتجاج على نظام العالم. وكان الرفاق يندهشون، يتبادلون النظرات ثم يصمتون، ولم يعذرني منهم أحد، ولم يستسغ ذلك العزوف مني حتى أشير إلي بالبنان، واتهمني الحميمون منهم بما لا يتشرف الرجل الشرقي بسماعه. وما زال الحال كذلك حتى ركبني الهم، لاسيما ووالدتي/جدتك قد أخذت تلح علي إلحاحا طويلا متواصلا لا يكاد ينقطع، تتوسل إلي حينا وتنذرني حينا، وتبكي أحايين كثيرة، حتى انفرط عقد عزيمتي، وضعفت، والرجل يضعف يا ولدي، فتزوجت أمك التي ستضعك قريبا، وهي التي طالما شاركتني الشواغل والهموم، ورأت ما كنت أرى، وتفهمت احتجاجي الصامت على العالم، وأيدت أكثر مواقفي، وآزرتني كلما أحبطتني أسئلتي المستعصية. وها أنت ذا تأتي كما تأتي الفصول والريح والمطر لتصنع فرحة الآخرين بينما ورطتني في دوامة الخوف والإشفاق والظنون. أيها الولد العزيز أعتذر منك لأنني جعلتك سلالة جديدة في عرق لم يعرف إلا الظلم وجبروت السلطان وفساد الأوطان، فجدك الأول كان قنا مستضعفا تحت استعمار الأتراك لوطنك الجميل هذا، وجدك الثاني كان (أنديجانا) مسترذلا في ظل استعمار الفرنسيس الوحشي الذي سلبه ما فضل على الأتراك واطرحه واستقذره استقذارا منكرا، وأبوك الذي هو أنا لما يزل منذ صباه الغض يضطرب في الأرض اضطرابا ليحصل له مكانا كمكان الآدميين، ومقاما كمقام البشريين، حتى تسلل إليه اليأس مما رأى من استمرار ذلك الليل الطويل من الاستعمار الذي عاشه أجداده، مهما كان اختلف عنه شكلا، فإنه هو كنها، فالفرصة نادرة، والثقافة مبغوضة، والعالم منبوذ، والخير كله منصرف إلى ذوي الجاه القديم والمال المختلس والمناصب المحصلة بالولاء والعصبية والقرب من مركز السلطان. أيها الولد العزيز ما كنت أرضى لك أن تعاني ما عانيت، ولا أن تنصب نصبي، ولا أن تلغب لغبي، ولكنها الضرورة والضعف البشري والشرط الإنساني، فلعلني أن أجدك عكازا لشيخوختي التي تقودني إليها الإنسانية وضروراتها الحتمية اقتياد. ما كنت أرضى أن تكون استمرارا ووارثا للفقر والتخلف والرجعية في الفكر والجغرافيا معا، فاعذر جنايتي عليك في هذا الجزء السفلي من الأرض، وجنوب البحر المتوسط هذا، وفي خضم العالم الثالث الذي ملأ الأرض جورا وباطلا وظلما وعدوانا على الأنفس والحقوق والقوانين حتى رمى الناس أنفسهم في البحر هربا من الويل وراءهم، وتطلعا إلى جنان الدنيا أمامهم، واعذر جنايتي التي حمّلتك أن ترث كل هذا من غير أن تستشر، وكان الأحرى بك إن استشرت أن تربأ بنفسك وكيانك عن وطن تلك صفاته، وعن عالم تلك خصيصته المثلى. أيها الولد العزيز لقد كان دأبي وديدني منذ وعيت طبقتي وتبينت مكاني من العالم، وعلمت طبيعة الدنيا وصراعها المركون في تكوينها، أشير على الضعفاء بالعزوف عن تأبيد الضعف في المستضعفين، والفقر في الفقراء والمبتئسين، وأن واجبهم الذي يجب عليهم أن ينهضوا إليه وينشطوا، هو أن ينسحبوا كما جاءوا فرادى خفافا من الظهر والعيلة والسلالة، فقد ورث الأغنياء الأرض واستقووا عليها واستبدوا بها دون الناس أجمعين، فلم يبق ظل لمستظل ولا حق لمستحق، غير أنهم لن يعدموا في احتجاجهم هذا بعد اليأس من النضال والثورات أن تصيب لعنتهم، وهم في مستقرهم البعيد من اللحود، من أستبد دونهم وتجبر وظلم وعلا في الأرض علوا.
#عبد_الله_شطاح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عفوا لن أشغل الأرض أكثر مما مضى
-
دوائر الأفيون
-
طوق الحمامة
المزيد.....
-
أهل غزة في قلب المجاعة بسبب نقص حاد في الدقيق
-
كالكاليست: أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت خطر على اقتصاد إسرائ
...
-
مقتل واعتقال عناصر بداعش في عمليات مطاردة بكردستان العراق
-
ميلانو.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يطالبون بتنفيذ مذكرة المحكم
...
-
كاميرا العالم توثّق تفاقم معاناة النازحين جرّاء أمطار وبرد ا
...
-
أمستردام تحتفل بمرور 750 عاماً: فعاليات ثقافية تبرز دور المه
...
-
أوبزرفر: اعتقال نتنياهو وغالانت اختبار خطير للمجتمع الدولي
-
-وقف الاعتقال الإداري ضد المستوطنين: فصل عنصري رسمي- - هآرتس
...
-
الأردن.. مقتل شخص واعتقال 6 في إحباط محاولتي تسلل
-
بورل: أندد بالقرار الذي اعتمده الكنيست الاسرائيلي حول وكالة
...
المزيد.....
-
نحو استراتيجية للاستثمار في حقل تعليم الطفولة المبكرة
/ اسراء حميد عبد الشهيد
-
حقوق الطفل في التشريع الدستوري العربي - تحليل قانوني مقارن ب
...
/ قائد محمد طربوش ردمان
-
أطفال الشوارع في اليمن
/ محمد النعماني
-
الطفل والتسلط التربوي في الاسرة والمدرسة
/ شمخي جبر
-
أوضاع الأطفال الفلسطينيين في المعتقلات والسجون الإسرائيلية
/ دنيا الأمل إسماعيل
-
دور منظمات المجتمع المدني في الحد من أسوأ أشكال عمل الاطفال
/ محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبي
-
ماذا يجب أن نقول للأطفال؟ أطفالنا بين الحاخامات والقساوسة وا
...
/ غازي مسعود
-
بحث في بعض إشكاليات الشباب
/ معتز حيسو
المزيد.....
|